البارت 2 حلم أم علم

_______________
تجعد جبينه وهو يفرج عن أهدابه عندما داعبت  أشعة الشمس عينيه بحدقيتيها السوداء؛ لتتنبه حواسه على أصوات شلالات مياه صافية تنساب من علٍ، صوت غديرها يبعث البهجة في النفوس.

نهض بعد أن كان مستلقياً على ظهره والسماء الصافية وبرغم من توهج قرص الشمس الذي يتوسطها إلا أن حرارتها لم تكن محرقة إلى هذا الحد، تجولت أنظاره تجوب المكان تتفحصه بتمعن، وإذا بفراشات ذات ألوان فسفورية ترفرف حوله، وبرغم جمالها وتناسق ألوانها إلا إنها تبدو غير طبيعية.

كما تتنقل هنا وهناك أنواع وأشكال من الطيور منها المعروف ومنها غير المألوف.

التقطت مسامعه ترانيم بلابل وتغاريد كراوين  وزقزقة عصافير وكلها أصوات متداخلة بتناغم.

وكأن هناك "مايسترو" هو القائم على تنظيم وتوظيف كل نغمة لكل طائر في هذه الألحان وكأنها "أوركسترا" يونانية تعزف لحناً سيمفونياً لأحد المشاهير بحرفيةٍ وذوقٍ وإبداع.

لاحت من حوله مروچٌ خضراء، وأشجار وأزهار غاية في الروعة والإبداع، وبرغم التباين بينها في الأشكال والألوان، إلا أن الأكثر غرابة هو اجتماع كل هذه الفصائل والأنواع في بستان واحد؛ فاختلاف الظروف التكيفية لكل منها يجعل نموها في مكان واحد أشبه بالخيال.

الأزهار البيضاء تنمو على أعالي فروع شجر "المَكَرَّة" وفي المتناول على أغصان "الليلك الياباني"، و"القزَّامة" المتناثرة أشجارها على مسافات محسوبة أرضاً بأزهارها القرمزية.

وكذا أشجار رآها "تميم" أثناء رحلة عمل لا يتذكر أكانت في الصين أم في اليابان ولكن أوراقها القرمزية فريدة في الشكل واللون.

أخذ يحدث حاله:

-مهلاً "تميم" إنها القيقب، رأيتها في محمية بالأراضي اليابانية، أثناء عملك مع شركة الطيران تلك التي أضطررت للهبوط بالطائرة خاصتها على مقربة من المحمية بسبب حدوث العطل الفني ذاك بمحرك الطائرة، وقدَّمت بعدها طلب النقل.

قالها وهو يفرك جبينه في محاولة للتذكر، فكل شيء حوله يسلب العقول.

تراء له على مدد البصر كوخاً صغيراً تنمو على قوائمه نبات "اللبلاب" وأغصان "العنب" التي أثمرت عناقيده بثمارٍ ذات ألوانٍ وأشكالٍ مختلفة ومتنوعة.

فتقدم بخطى حثيثة؛ لا إلا يدعس على تلك الحشائش التي تنبت من بينها الأزهار، وعينيه تتابع موطئ قدميه، وأنفه يلتقط رائحة عطر طيب يفوق روعة وعذوبة أفخر العطور الفرنسية.

دنى تميم من باب الكوخ، ورفع يده؛ ليطرق عليه بخفة، فوجد باب الكوخ موارباً، وهناك صوت "ناي" يصدح بلحنٍ منمقٍ يدل على مدى حرفية وإتقان عازفه.

ولكن ما به ألحان العازف يملأها الشجن؟!

علا صوت "تميم" بالنداء:

-يا أهل الدار، هل من أحدٍ هنا؟!

لم يأته الرد، فعزم أمره وتقدم إلى الداخل وما إن وطأت قدماه عتبة الكوخ حتى أنارت المشاعل الزيتية المكان من حوله، وإذا طار لبه بجمال تلك الجزيرة إلا أن هذا الكوخ له سحر خاص.

جدرانه المزينة برسومات ومناظر طبيعية ثلاثية الأبعاد فمن شدة دقة النقش تحسبها حقيقية، المتكآت البيضاء المرتصة أرضاً تذوب فضولاً لتنعم بملمسها يداك، قدماه التي غارت ما بين وبر البُسُط التي تفترش المكان جعلته يشعر وكأنه يتهادى على كثبانٍ رملي ناعم كبحر الرمال الأعظم.

دهشة تملكته؛ فمنذ متى وهو يسير حافي القدمين؟! وكيف لم ينتبه لهذا وهو يتجول في المكان بالخارج؟!

انخفض صوت "الناي" حتى تلاشت النغمات، وصوت أنثوي ناعم رق له خافقه تعالت نبراته وصاحبته تهتف:

-تمممميمم، تيمووووو.

وعند "تيمو" ومادت الأرض أسفل قدميه، فحتماً هي مَن تأتيه في منامه كل ليلة بوجهها الملائكي وعينيها الزيتونية التي تشبه عيني الهررة، تشاكسه بابتسامات ساحرة، وهي تفضي إليه بكلمات الغزل المعسول حتى بات يتحين الوقت الذي يعود به كل ليلة إلى منزل عائلته؛ لينفرد بذاته في غرفته يندس في فراشه مسبلاً أهدابه وتعلو ثغره ابتسامة عذبة يتوسل النعاس أن يواتيه حتى ينعم بلحظات العشق في نومه مع فتاة أحلامه التي لم يرى في حُسنها مهما رأى من حِسان.

نعم "تميم" إنها "يامور" عشقك الخفي التي تبحث عنها كل يوم في وجوه المارة، وتتغنى بجمالها ورقتها مع بئر أسرارك "عبد الله" ذلك الصديق الوفي الذي تعرفت عليه منذ عام.

لابد وأنها هي.

"تميم" وهو يتلفت حوله بكل مكان، يحاول أن يتعرف على اتجاه ومصدر الصوت، فكلما تقدم إلى الداخل تضيء مع تحركاته المشاعل، وتعلو وتيرة تنفسه ويزداد المكان براحاً؛ حتى أصبح في حيرة من أمره.

فكيف لهذا الكوخ الذي يبدو صغيراً للرائي من الخارج أن يكون بهذا الاتساع؟!

وبينما هو في دهشته إذ شعر بيدين تحاوط صاحبتها خصره من الخلف وفي تلامسهما هذا شعر بلين منحنياتها وطراوة نهديها على ظهره وهي تضغط جسدها إليه، تقول بصوتها العذب:

-اشتاقك "تيمو"، بل بلغ بي الشوق حد الجنون.

من عساها تكون؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي