الفصل 4 أجننت

___________
حُبِست أنفاسه، وهو يستمع إلى صوتها يناجيه بعد غياب، فلها ثلاثة ليالٍ لم تزُره بأحلامه؛ حتى تملكته الوحشة وصار هائماً لا يريد مغادرة غرفته.

وكلما أفاق من نومه دون مرآها يلتقط عبوة الأقراص المنومة من أعلى الكومود المتواجد بجوار تخته في غرفته المودرن ذات الطابع الرجولي.

ف"تميم" من أسرة ميسورة الحال، يمتلك والده شركة أبنية وعقارات، وتعمل والدته أستاذة بكلية العلوم جامعة القاهرة.

ومن ثم يبتلع قرصاً من هذه الأقراص، وإن لم يُجْدِ نفعاً يتناول الثاني فالثالث؛ حتى بدأت والدته بالقلق عليه ظنناً منها أنه متوعكٌ أو به علة ما بسبب نومه المتواصل.

وعندما طوقت "يامور" خصره، وأحس بدفء جسدها الملاصق له، وهي تحتضنه إليها باتت أنفاسه المحتبسة دون وعي منه، تخرج بتنهيدات متلاحقة، وهو يسبل أهدابه باستمتاع ونشوى، وأوصاله تضربها موجة شوق عارمة، والهاجر هو من يشتكي الفقد!!
وذلك عندما قالت بنبرة صوتها العذب:

-اشتقتك "تيمو"، بل بلغ بي الشوق حد الجنون.

صحيح أنها أول مرة تكن قريبة منه إلى هذا الحد، ولكن الأيام القليلة التي مضت جعلته يعيش أسوء مرحلة بحياته، إذ كاد يجن وهو على مشارف الإصابة بنوبة اكتئاب حادة.

ولم لا فقد اعتاد منذ خمسة أعوام على رؤيتها حتى حَرَّم على حاله مخالطة الفتيات ليس فقط مرافقتهن أو التودد إليهن.

ولا يعلم لِمَ كل مرة يراها في منامه تحذره من الإفصاح عن رؤيته لها لأي شخص مهما كان، ممتنعة عن ذكر أسبابها.

وقد حرص "تميم" على ذلك طوال تلك السنوات، وحتى أحاديثه مع رفيقه عنها لم تطرق إلى الشخص أو كيفية اللقاء.

لذا أعتقد "عبد الله" أن صديقه "تميم" واقع لإحدى زميلاته بالعمل، ولكن منذ أربعة أيام عندما ألح "عبد الله" على "تميم" بكشف المزيد من الغموض عن قصة عشق صديقه، وأخبره "تميم" بما يحدث معه، ومنذ ذلك الحين وهي تتمنع عنه.

رفع راحتيه يفض تشابك أناملها يزيح يديها المكبلة له وهو يبتعد عنها، ولم يُدِر وجهه إليها، يجلس على إحدى المتكآت المتواجدة أرضاً يثني إحدى ساقيه، يعقف الأخرى، عاقداً ذراعيه أمام صدره، يشيح بوجهه بعيداً عنها في امتعاضٍ وتذمر، فبدى شهياً ولذيذاً.

رمشت أهدابه وما بين طرفة عين وأخرى، وجدها تجلس إلى جواره بالجهة الموالي لها بكامل هيئتها الساحرة الخاطفة للأنفاس.

ترتدي ثوباً رقيقاً باللون الأبيض، ووجهها الملائكي ذو البشرة الحليبية التي يشوبها الحمرة المزينة لوجنتيها جعلته في حالة وله وشخصت أنظاره بها.

فتلك أول مرة تلمسه، أول مرة لهما بهذا القرب، أول مرة يراها وجهاً وجسد، فمن قبل كان بالكاد يرى معالم وجهها فقط وكأنه يتحدث بمكالمة "فيديو" عن بُعد.

انعقد لسانه ولم يعرف، ماذا يجب أن يقول أو يفعل!!

فهتفت تنطق حروف اسمه من بين شفاهها المغوية بلقب دلالها له:

-"تيمو".

همس إليها وهو شارد بكل تفصيلة بها، يقول بهيام:

-أعشقك، يا قلب "تيمو".

قالها وهو يفك انعقاد ذراعيه، يبسط إليها الأقرب إلى جهتها مطوقاً كتفيها، يقربها إليه.

حتى بات وجهه قريباً إليها، وعينيه تتنقل ما بين زيتونيتيها وشفاهها المكتنزة، وقلبه ينبض بشوق ولهفة وقبل أن تمس شفاهه خاصتها، شعر بوكزة في ذراعه وصوت يجذبه من نعيمه إلى أرض الواقع:

-تميمممم.

أفرج عن أهدابه بضيقٍ وتذمر، ينتفض من نومته جالساً على تخته، وهو يقول بسخط وصوتٍ محتد:

-حرام عليكِ يا أمي، لِمَ أيقظتني الآن؟!

بعد تلك الوكزة التي اجتسته من عالم الأحلام، ونبرة صوته المحتدة، ناظرته والدته "عفاف" بدهشةٍ، وهي تقول باستياء:

-ما بك "تميم"؟! تلك أول مرة تتحدث فيها معي بتلك الطريقة!!

زفر "تميم" وأطرق رأسه بخزي، فبالأخير لقد أخطأ ولكن ما كان مشرف عليه ساحر حد اللعنة، فقط هواء زفيرها الأشبه بعطور الشرق في طيبها جعل كل حواسه في حالة انتباه، وقربها منه إلى هذا الحد أرعد بداخله عواصف من الأحاسيس لها تأثير مهلك، فتمتم بأسفٍ:

-آسف "فوفة"، سامحني، كنت غارق في النوم، وفُزِعت.

اقتربت "عفاف" تعبث بخصلات شعره البني المشعث بالفعل إثر النوم، وقد أسعدها تغير مزاجه للأفضل عن تلك الأيام السابقة، إذ كانت تشعر بالحزن الشديد لأجله، ولا تعرف ما أصاب ابنها، دوماً حزين ومنزوي على حاله، ينام كثيراً ويتحدث قليلاً، ولا يهتم لا على صحته ولا بطعامه، فقالت بحنانٍ وأمومة يشوبها بعض الفضول:

-لا عليك "تميم"، ولكن أخبرني!! ما سر هذا التغيير؟!

شرد بخياله يستحضر صورتها المحفورة بذهنه، وبعد اكتمال الهيئة بات التفكير بها مرهق ولكن ذو رونق مبهج.

لاحت على شفاهه ابتسامة جذابة وصورتها باتت تتجسد أمامه وكأنها تجلس إلى جواره على التخت مرتكزة براحتيها على الفراش تميل بجذعها إلى الخلف في تكاسل ووجهها الصبوح موالياً له، تبتسم إليه بعذوبة، فبسط يده كالمسحور؛ ليتحسس وجنتها بظهر راحته.

فاقشعرت معالم وجهه؛ عندما قضمت إبهامه بمشاكسة طفولية، وهي تقهقه بمناغشة، ولكن صوت ضحكاتها الرنان الذي يشبه أعذب الألحان التي تُطرب إليها الآذان، جعلته في حالة هيام.

ومن ثم اختفت مشابغته بعد وكزة أخرى من والدته، وهي تصيح باسمه، إذ جحظت عيناها من تصرفات ابنها الغريبة كلياً عليه؛ ليقابلها ما هو أغرب، وذلك عندما انتفض بغضب وخرجت من بين شفاهه سبة نابية، تلاها بقوله الساخط:

-تباً ل"تميم"، ومن أنجباه على حد سواء!!

صدمة!!
كادت عينا "عفاف" أن تقفزا من محجريهما، وبدت على يقينٍ تام أن ابنها أصيب بشيء ما في عقله، لتنهره قائلة:

-اللعنة!! أجُننت "تميم"؟!

هب "تميم" من مجلسه، يلف ذراعيه حول خصر والدته بعد أن ألقت استهجانها واستدارت تستعد للخروج، وكأي أمٍ مصرية أصيلة أخذت تتمتم باستياء مُعربةً عن كونها فشلت بتربية ابنها، وأنها ستخرج بلا عودة علَّه يعرف قيمتها ويتعلم ألا يتجاوز حدوده بالحديث.

وأنها ستشتكي عليه وتوشي به لدى أبيه؛ ليتخذ موقفاً حيال سوء أدب ابنه، إلى جانب مَنِّها عليه كونها حملته في بطنها تسعة أشهر.

ولا مانع من أن تنعِ سنين عمرها التي ضاعت في تربيته والعناية به؛ كي يصبح رجلاً، وعندما اشتد بئسه واخشوشن صوته علا على مَن كانت السبب في وجوده بالحياة..... إلى آخره من معزوفة تلك الأسطوانة المعادة التي تجري بطلاقةٍ على ألسنة كل الأمهات وكأنها كتالوجاً يصل مع المنتج.

أخذت تفرك، وهي تحاول تخليص حالها من بين يديه دون جدوى، فأشاحت بوجهها بعيد عن مرمى قبلاته المتتالية التي يغدقها على وجنتها، وهو يغمرها بعبارات الأسف التي يعلمها علَّها تصفح، قائلاً:

-خِلصنا "فوفة"!! غضبكِ سيء يا ملكة قلب "تميم".

حتماً ستقوده فتاته إلى الجنون!!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي