الفصل 9 ذكريات

شهقاتٌ متتالية بأنفاسٍ متقطعة، ودموعِ ألمٍ أمتزجت حرارتها مع برودة المياه المنهمر، وأحدهم يجلس في ثمالة أسفل الصنبور العلوي على أرضية المرحاض في هذا الطقس القارص.

لا يشعر بالبرودة التي تنخر في عظامه، وكأنه فقد الحس أو ربما غاب شغفه للحياة، يسعى إلى الموت ملقياً حاله بين أحضانه مُرحِّباً عسى أن يأخذ الله وديعته قبل أن يتملك منه شيطانه فيُزهق روحه بيده.

فمنذ أن خانت العهود بينهما ورحلت، وهو شبه منفصلٍ عن العالم حوله، يُنهك حاله طوال اليوم ما بين هذا وذاك، فعند استيقاظه يركض حول المربع السكني القاطن به مسافة ١٠ كيلو متراً، وإذ لازالت لديه الطاقة يأخذ المسافة ذاتها كدورة تعذيبٍ أخرى، فالثالثة وهلم جر حتى تعجز سيقانه عن حمل ثقل جسده المعضل.

وبعدها يجلس بإعياء على أحد مقاعد الاستراحات المتواجدة على طول طريق السير ما بين الوحدات السكنية التابعة لهذا التجمع السكني الراقي الذي اختاره؛ ليكن بالقرب منها.

صوتُ زجاجٍ يتهشم، وزئيرٌ رج صداه الأرجاء، وهذا الحانق يسب ويلعن، وهو يحاول الوقوف بتعثرٍ.

يخطو مترنحا، وقدماه تدعس على حطام زجاجة الخمر التي قذف بها إلى عرض الحائط في نزقٍ وحنق، غير عابئٍ بالشظايا التي غُرِزت بعمقٍ في باطن قدمه مُخلفةً مع كل خطوة يخطوها بقعةٍ من الدماء.

يقف أمام المرآة التي تعلو حوض المرحاض، يستند بكلا راحتيه إلى حافته، يفرج عن أجفانه بتثاقلٍ، وهو ينظر إلى انعكاس صورته المشوشة بالمرآة، فقد أفرط في الشرب بالرغم من الوعد الذي يقطعه إلى صورتها التي يغفو وهي بين أحضانه كل ليلة، أو لنقُل كما يفقد وعيه كل يوم.

ولا زالت كلماتها الأخيرة تترد بأذنيه، عندما ناشدته، قائلة:

-لا تعود إلى سابق عهدك، دعني أرحل وأنا أشعر أنني فعلت شيئاً أستحق أن ألقاك لأجله بالفردوس.

عند هذه الخاطرة وغامت عيناه بالدموع مرةً أخرى، وهو ينهر هذا المسخ الذي لاحت صورته في المرآة قائلاً بسُكر:

-أنت جبانٌ أناني.
-كنت اتركها لحالها.
-أنت السبب أيها الحقير.
-أنت حيٌّ تتنفس، بينما دفعت هي ثمن أخطاءك.

ومن ثَمَّ ابتسم عندما لاحت صورتها إلى جانب انعكاسه في المرآة، فالتفت وقلبه يعصف بشوقٍ لازمه لثلاثة أشهرٍ حتى يزرعها بين ضلوعه.

ولكن أين هي؟! لا وجود لها إلى في عقله.

كور قبضته ضارباً بها هذه اللعينة "المرآة" إذ تصور له أموراً وأشخاصاً وأحداثاً ولَّت ولكنها محفورة بالذاكرة، وصوتها يهمس بالقرب من مسامعه:

- دع اللهجة الصعيدية، الزعيم لا يليق به سوى اللهجة الأم.
FLASH BACK
بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
تلك الجملة الشهيرة التي يختتم بها المأذون إجراءات عقد القران، ليربط بها زوجين بروابطٍ تُكلِّل عشق بعضهما أو تُبْنَى لها روابط مودةٍ وعِشرة قد يضلل الحب بأغصانه بعدها على مَن جمعهما المولى عز وجل، وفي أوقاتٍ وحالاتٍ قد يفشل أحد الطرفين في أحتواء الآخر وتفهمه، وتصبح الروابط السامية التي شرعها الله طوقاً يستخدمه أيٌّ منهما ليقتل أَجَّل ما أَحَلَّه الخالق ألا وهو السكينة والمودة، ولكن في حالتنا هذه الأمر يختلف كلياً.

فمع آخر كلمة نطق بها رسول جنة الداهية لم تسعه الدنيا لما حظى، عفواً فلنقُل "عبد الله زايد يعقوب" وهذا الاسم قد منحه إياه والد عدو الأمس وصديق اليوم "أسامة زايد يعقوب".

وهذا بعد أن توقف "ريكا" عن استخدام نفوذه منذ ذلك اليوم الذي منحه فيه "أسامة" الفرصة؛ كي يُثبت إخلاصه ورغبته غير المشوبة بأغراضٍ في اعتناقه للإسلام.

ولكن توقفه هذا عن ممارسة نفوذه ليس قبل أن يحصُل بواسطة هذه النفوذ على أمرٍ بالعفو لكلاً من "سوزان مارتين" حبيبة قائد سجن الجزيرة "أريان"، و"سيدرا رودريغيز" و"أسامة زايد يعقوب".

أما عنه فلا داعي لأمر عفو باسم "ريكاردو باناناز"، فقد عاونه "سام" للتواصل مع المسئولين لإعلان إسلامه.

وعمد "أسامة" على تعليم الزعيم تعاليم الدين الإسلامي بعد أن اختارت له "غادة" اسماً جديداً.

فصار اسمه كما سبق وذكرنا "عبد الله زايد يعقوب" إذ شمله "زايد" بالاحتواء والرعاية حتى صار الداهية الآن رمزاً للأخلاق والتدين.

وبعد مرور عام وبضعة أشهر عاشها "عبد الله" مع "سام" وأبيه، نال "عبد الله" ما أراد عن قناعةٍ تامة بأن هذا التوجه الديني أسمى ما تعلقت به روحه.

بعد أن استأذن "عبد الله" من وكيل زوجته "زايد يعقوب" في اصطحابها إلى إحدى الأماكن العامة بهذه الولاية التي تضج شوارعها بالحياة حتى شروق الشمس وذلك احتفالاً بهذه المناسبة السعيدة.

وقطعاً لم يمانع "زايد"؛ فقد أصبحت "غادة" زوجته الآن أمام الله وشهد على هذا جميع الحضور، ووُثِقت الروابط بينهما بميثاقٍ شرعي وعقدٍ قانوني على يد مأذون أحل اختلائهما.

أراد أن يحتويها بين ذراعيه الآن وأمامهم، ولكن حيائها هو السبب الوحيد الذي لَجَّمه، يُصَبِّر حاله فعلى أي حالٍ مَن انتظر عاماً وستة أشهر وثلاث ليالٍ وتسعة عشر ساعة بإمكانه الانتظار لثلاثين دقيقةٍ إضافية؛ حتى يصبحا بمنأى عن الراصدين.

فإن قال الداهية مكاناً عاماً فهو لم يكذب، ولكن وجهته المقصودة تعوم أعلى أمواج المحيط الهادئة في هذا الوقت من العام، إنه اليخت الذي اشتراه "عبد الله"؛ ليكن هدية عقد قرانهما.

قابضٌ على يمينها براحته اليسرى يعتصرها بين أنامله، وهو يخطو بها خارج قصر "چاكوب" أو "يعقوب" ماراً ببهو القصر الأشبه بممرٍ طويل تفترش أرضيته بُسُط حمراء من النوع الفاخر.

ولكن ما يمر به من "تابلوهاتٍ" وتحف لم تُلفت انتباهه فقد رآها من قبل إذ أنه أصبح صاحب دار وواحدٌ من قاطنيه.
وحتى وإن لم يكن كذلك فما يستحوذ عليه الآن أبعد من التمعن فيما حوله وملاحظة الثراء الفاحش الذي يصرخ به كل ركن بالقصر.

فماذا سيسترعى انتباهه أكثر من ملكة جمال زعيمها؟!

تلك السمراء بحُسنها الفتان سارت له، زوجته ومِلك يمينه، غادته وبطلة أحلامه.

أحلامه الوقحة التي تبدأ بها وتختم وهي بين أحضانه، فيفيق ضاماً وسادته التي تتلقى إطاحةً حانقة بعرض الحائط كل صباح.

ولِمَ لا فكلما ظن أن أحلامه صارت واقعاً ملموساً يتضح أنه لازال ينتظر؟!
وما أصعبه انتظار؟!

ما عادت لمسة اليد تكفي، لا ينكر أنه كلما تلاقت الأيدي وتحاضنت الراحات زادت الحرارة وارتفعت الدقات.

خلل أصابعه من بين خاصتها وما عدا للصبر رصيد فقد نفذت الباقة وهو الآن على نظام لا قِبَل لي بالبعد.

خطوات العدو لأقدامٍ تقوده لأبعد من هنا، بدأت تتهادى حتى خفتت مع تقلص أمعاءه شوقاً وشغفاً.

خجلها وعيناها التي تتهرب نظراتها من التقائها بخاصته، جعلت الداهية يشعر بالدونية والحرمان؛ فمنذ أن اختلسها من وسط الحشود وهو ينتظرها أن تعقب على هيئته، وسامته، هذه اللحية المشذبة بدقة فلا جردها حتى المنبت ولا أبقى عليها.

أين لهفتها عليه؟! ألا تلتاع أوداجها مثلما تنتفض كل خلية به تناجيها؟!

ثبت بأرضه فامتثلت ولم تلتفت، قلب عينيه بضجرٍ من ثباتها، فحتى لم تكلف نفسها العناء؛ لترفع بصرها إليه.

غادر دفء يده حضن راحتها ولم تُمانع، تخصر بيساره ورفع يمينه يحك ذقنه مطرقاً رأسه بتفكير، والشك بدأ يعتمل بداخله مُذهِباً كل ذرة تعقل.

أ بعد أن تغيرت الظروف، قادها عقلها إلى الثغرات والفوارق؟!

الآن شعرت بأن الداهية لا يليق بها، وتستكثر حالها عليه!!

الآن بعد أن غادر عالمه الذي لم يندم للحظة على تركه تُراجِع سمرائه ترتيب أولوياتها، وتُعيد تقييم اختياراتها فوجدت أن لا حق له بها.

أم ما حدث الآن من شكلياتٍ وتوقيع عقود زواجٍ لم يكن سوى استكمال لحالة وُضِعت بها وما عادت قادرة على التراجع؟!
أسئلة كثيرة تبادرت إلى ذهنه ولا توجد لها إجابات مقنعة.
                _____________
أما ببيت تميم.
أخذ يفرك جبينه بتفكير، ومن ثم ابتسم بمكر مقرراً نزع ملابسه، ولكنه لن يتخل عن القطعة الداخلية الساترة لعورته، فيجب أن يدع شيئاً محجوباً عنها لإضفاء جوٍ من التشويق، وذلك ما إذا كانت جنيته المشاكسة لعوباً.

أدار صنبور المياه لينهمر الرذاذ على كامل جسده بعد ضبطه على درجة الحرارة المحتملة، وهو يدندن أغنية عربية رومانسية لسلطان الطرب أحد أشهر مطربي العرب، وكانت كلماتها:

قُلت أدفع نص عمري بس أعيش وياك شوية ده أنت أجمل حاجة فيَّ واللي بينا خلاص قدر.
والسنين أهي بينت لي يا أحن الناس عليَّ.
إن عمري عليك شوية وإن عمري ما راح هدر.

همس بآخر مقطعٍ عندما صدق حدسه، فهي بالفعل معه، حوله، يشعر بها، وخير إثباتٍ على وجودها أناملها التي تخط بتمهلٍ مهلك فقرات عموده الفقري، وهو موالياً ظهره إلى الباب، يقف قبالة الحائط المثبت به الصنبور العلوي؛ ليغمض عينيه ليستمتع بنعومة ملمس يدها على بشرته.

إتقانها للعزف على أوتار إحساسه جعلت الأرض تميد أسفل قدميه، فبسط ذراعيه المفتولتين يستند بكلا راحتيه على الجدار أمامه، رافعاً رأسه لأعلى باسترخاءٍ، ولازال مطبقاً أجفانه يحاول تنظيم أنفاسه المتلهفة إلى المزيد.

لا قادرٌ على الالتفات، ولا يعلم لِم هو مثبتٌ بأرضه!!
ولا الثبات على وضعه خيارٌ سهل التنفيذ؛ يريدها بين ضلوعه والآن.

تهدجت أنفاسه وهي تعيد الكرة صعوداً، ومن ثم اقتربت تحاوط خصره من الخلف، تحتضن إياه بنعومةٍ، وإبهامها يرسم خطوط عضلات بطنه السداسية، لتشق آهةً شوقٍ منتشية مصدرها هو عتمة الصمت الذي يعم المكان إلا من صوت المياه المنهمر.

عجز اللسان عن النطق من فرط إحساسه بها ولم ترأف، جسده ينتفض مطالباً بها ولم تمهله الطلب بل ضغطت جسدها إليه.

يشعر بأنفاسها الحارة الحائرة ما بين يمينه ويساره بتروٍ، وكأنها تستكشف كل خليةٍ تقع عليها نظراتها.

بدأت أنفاسه تتسارع بعد خفوتٍ؛ لملمس شفاهها على جلده الرطب، وهي توزع قبلاتٍ ناعمة رقيقة على كل إنشٍ يطاله ثغرها.
شفاهه تغار من كل مكان تلثمه؛ فلقد حظى هذا المكان بما حُرِم هو من الاستمتاع به.

أسندت وجنتها إلى ظهره، وراحة يدها اليمنى استكانت فوق خافقه، تقول بهمسٍ مغوٍ، وهي تؤشر بإبهام كفها الرقيق المستريح بموضع مضغته النابضة:

-أنا هنا "تميم" فلا تُجهد عقلك، كلما اشتقتني فاعلم أن ما بك من شوقٍ فيضٌ من اشتياقي إليك.

وكأن حديثها سماحٌ منها إليه بحل انعقاد لسانه، ليقول هامساً، وهو يبتلع بإثارة:

-ها أنتِ معي وأشتاقك "يامور"!!
-امنحيني ما تبخلين به عليَّ حبيبي، دعيني اقترب منكِ مرةً، فقط مرة "يامور"، سأموت إن لم أفعلها.

بدى انسدال ذراعيها المحاوطة له، وابتعادها القريب وعدم مغادرتها بمثابة سماحٍ آخر له بالحركة وربما تأشيرة منحٍ منها لما يتمناه، وما إن شعر باستجابة عضلات جسده لما يفكر به العقل، وتتوق إليه الروح، ويهفو إليه القلب.

فلم يتمهل ليلتفت إليها بل التقط معصم يدها المنحصرة يجذبها إليه وهو يستدير ليُقابِلُها، فارتطم بصدره العاري جسدها الممتلئ باعتدالٍ في مناطق ومنحوتٌ بأخرى، لتعلو راحة يدها الحرة تستند مرةً ثانية بموضع ذاك الذي يضرب بعنفٍ داخل قفصه الصدري.

وهو يميل برأسه إليها في انجذابٍ سحري، ونظراته المشتتة ما بين عينيها وشفتيها وجسدها المهلك المحدد بثوبها الملتصق عليها كطبقة جلدٍ أخرى بفعل المياه.

بينما ارتكزت نظراتها على شفاهه، مسبلةٌ أهدابها، وكلما اقترب منها ملي متراً، ابتعدته بدلالٍ، وما إن يزفر بخيبة تعاود الاقتراب بمشاكسةٍ محببة، لينبض إثر رغبته بها النابعة من عشقه الأمدي عرقٌ بجانب ثغره، ورعشة الشفاه دليل على ولهه بها.

وتلك الأنفاس المعطرة المنبعثة من بين شفتيها دمرت ما به من ثبات.
عن أي ثبات!!

فأوداجه مبعثرةٌ حد اللعنة؛ ليقرر أنه لا مزيد من التمهل سيفعلها.
وإن كان الموت نصيبه بعدها فأهلاً به، مادام شهد شفتيها آخر زادٍ له بالحياة.

رفع يده يحاوط خصرها بخشونة؛ فقد فاض كيل الانتظار، يرفع جسدها إليه وما إن حانت لحظة الخلاص.

حتى دق باب غرفته مرةً أخرى ووالدته تستعجل خروجه، ولولا اختفائها من بين يديه ما شعر ولا انتبه.

تأفف بضيقٍ وخيبة؛ ما إن وجد ذراعيه تحاوط الهواء، يهز رأسه برفضٍ مزمجراً، وهو يعتصر قبضة يده المتكورة بغيظٍ ضارباً الحائط خلفه بقوة، وأصبح كالثور الهائج يصارع أحاسيساً مدمجة ما بين نشوةٍ لما شارف عليه، وقهرٍ على ما لم ينل.

وإحساسٌ بالفرحة لثاني لقاء لهما معاً باليقظة، وحزنٌ؛ جراء تبخرها بعد أن أمَّلته ومنَّته بها، ومن ثَمَّ رحلت بِجُورٍ، فالحالة التي تركته عليها ظالمةٌ لا عدل فيها.

جل ما أراده قطرة، قبلة، فقط قبلة.

التقط "تميم" المنشفة المعلقة على مشجب الحمام، يحاوط بها خصره.
ومن ثم أسلت سرواله القصير من أسفل منشفته يتلفت حوله وگأنه يفعلها في ميدانٍ عام وليس بحمامه الخاص، فتلك المشاكسة ألزمته الحيطة؛ فلربما يكون مراقباً.

قرعٌ مستمر على باب الغرفة، وصوت "عفاف" النزق يردد:

-"تميم"، كل هذا بالحمام!!
-اسرع لن أُسخن الطعام، فقد تأخرت على الجامعة والمحاضرة الأولى موكلةٌ لي اليوم.

زفر "تميم" بضجرٍ، يقول بشفاهٍ مزمومة:

-اذهبي "عفاف"، الله لا يسامحك.

"عفاف" بصدمة:

-ماذا تقول؟!

"تميم" بتراجعٍ:

-لا شيء، أقول وفقكِ الله.

ترى كيف ستتطور علاقة هذا الثنائي المرح؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي