البارت 8 منبوذ

بعد انقطاع التواصل الحالمي الذي نسجته مشاغبته، والتدخل الهدَّام من "عفاف" الذي دمر روعة الخيال للقاءه مع "يامور"، تسائل باستياءٍ وصوتٍ جهوري وصل إلى مسامع والدته بوضوحٍ:

-ألا يستطيع المرء أن يأخذ راحته في بيته؟!

زفر "تميم" بحنق وهو يتحسس منخاره الذي ضرب بحدة في الباب وعلى غفلة، يجيب:

-سآخذ حماماً سريعاً، وأوافيكِ إلى حيث الوليمة التي جئتِ في هذا الوقت تحديداً؛ لتدعِني إليها.

الأم وهي تهز رأسها باستنكار ولازالت بالخارج:

-سأجن منك "تميم"!! ألم تقل أنك تموت جوعاً؟!

" تميم" محاولاً السيطرة على انفعالاته، قائلاً بمجاملة:

-سلمت يداكِ يا "فوفة"؟!
-أبدئا أنتِ وأبي، وسآتي ما إن أتحمم.

"عفاف":

-لن نبدأ إلى أن تأتِ، اسرع.

أعاد "تميم" غلق باب الغرفة، وهو يشد على خصلات شعره بغيظ، وعينيه تطوف بالمكان، ولكن لم يجد أثراً لها وما يحدث معه الآن وفي اليقظة، ليس له تفسير سوى أنه عاشق لجنية، فلا يمكن أن يكن كل هذا تهيؤاتٍ وهلاوس.

من المؤكد أنه في كامل قواه العقلية، مرجحاً استحالة فرضية إصابته بالخيالات التوهمية، فإحساسه بها وهي قريبة إليه وملمس يدها بين يديه بدى حقيقياً لأبعد حد، بل أكثر الحقائق واقعية، ولكن له تأثير ذا بُعدٍ خيالي مشمول بالإثارة والاستمتاع، فوصالها ودنوها منه إلى هذا الحد منتهى المتعة.


مال بجذعه يلتقط قطع الثياب التي سقطت من يده أرضاً، ليلج إلى المرحاض، يُحكِم غلق مزلاجه، معتقداً أنه بهذا يمنح حاله بعضاً من الخصوصية، ولكن إحساسه بالرضى على ما فعل تبدد في الهواء.

فقد كانت بالمرة الأولى التي قرر بها الدخول إلى الحمام بداخله بالفعل وفي لمح البصر وجدها خلفه وهو يعد غلق بابه ولازالت يده على المقبض ولم يُفْتح لتخرج، فهذا يعني أنها من الممكن أن تكن معه حالياً ولا تُظْهِر حالها.

ترى ما مخطط "تميم"؟!

______________
بالطبع "ألورا" التي تهتم بممارسة تلك الحياة اكتسبت اللغة في وقت قصير للغاية، فحتماً قدرات هذه الفئة من المخلوقات تفوق قدرات البشر.

بينما مَن لم يشغل باله لا للأنس ولا لأحد سواها، لم يستوعب حرفاً مما قالته المضيفة.

فرفع بصره إليها بجبينٍ مقتضبٍ، لتتفهم تلك المضيفة التي لم تحد بنظراتها عنه منذ بداية الرحلة، فمالت إليه تعاونه في ذلك ومع انحناءها وفتحة الصدر الخاصة بزيها الرسمي والتي عمدت على فتح الزر الأول لتلك الفتحة المتسعة من الأساس، ظهر نهديها بسخاء.

فخفض "صفوان" رأسه يغض البصر عنها وكلما دنت إليه زاد حراكه الممتعض واتضحت عليه معالم الارتباك.

بينما انشغلت "ألورا" بإحكام غلق حزام الأمان الخاص بها، وعندما انتهت وبدأت تنتبه على ابتزال المضيفة؛ نهرتها بتلك الطلاسم اللغوية من وجهة نظر "صفوان"، وبالطبع لم يفهم على مَن استشاطت غضباً، ولا تعي لِم تملكها السخط والعداء لتلك المضيفة الحسناء وإن لم تفوقها جمالاً، قائلةً ببرود أجادت تقمصه:

-أنتِ!! ماذا تفعلين؟!

-ولِمَ كل هذا الاهتمام المبالغ به!!

-يمكنك الانصراف وأنا سأتولى مساعدة زوجي إذا لم يكن لديكِ مانعاً؟!

بعد أن استقامت المضيفة بوقفتها وقد بدت على ملامح وجهها الخيبة؛ إذ ظنته أعزباً، فلا وجود لخاتم زواج، قالت بحرج:

-أعتذر منكِ سيدتي، فقط أردت المساعدة.

ألقت المضيفة عبارتها وغادرت على الفور، فالتقط "صفوان" الذي لم يشغل بالاً لما دار طرفي الحزام التي كانت تمسك بهما المضيفة، قائلاً بتساؤلٍ ضجِر:

-ماذا أرادت تلك المرأة أن أفعل بهذه المشنقة؟! أنا لم أفهم شيئاً مما قالته تلك الوقحة!!

ناظرته بتسلية وقد أسعدها ما نعت به المضيفة، لترد على تساؤله بآخر:

-لِم تقول عنها هذا إنها قمة في الذوق وجميلة أيضاً؟!

"صفوان" بامتعاضٍ، ولازال يعبث بالحزام، يصب عليه كامل اهتمامه، يحاول تخمين فائدته أو كيفية استخدامه:

-أنا لا أتحدث عن جمالها، أنا أتحدث عن غنجها هذا وثيابها المكشوفة.

زمت "ألورا" شفتيها بغيظ تقول ببرود ظاهري:

-إذاً أنت تراها جميلة؟!

أجاب "صفوان" على الفور بما خطر على باله ويشعر به حقاً:

-أنا لا أرى جمالاً سوى في...

بتر "صفوان" آخر كلمة وهي "فيك" واستبدلها ب "مَن أحب"، ليصبح تعقيبه_ أنا لا أرى جمالاً سوى فيمَن أحب_ واختتمه سراً ب "أنتِ يا جاحدة".

رغبة مستميتة تآكلتها لمعرفة مَن صاحبة هذا الفيض من الحب التي خصها "صفوان" به، فسألته:

-أهي جميلة إلى هذا الحد!؟!

أجاب دون تردد، وهو يتهرب بنظراته منها يخفي لمعة الحزن التي شابت رماديتيه:

-بلا، فعندما وزع الله الجمال على جميع خلقه طمعت هي بالنصيب الأوفر.

"ألورا" بحالمية وإن اشتملت على بعض من الإثارة ارجعتها إلى الفضول ليس إلا، قائلة:

-يا الله "صفوان"، لا أصدق ما اسمعه منك الآن!! ألهذا الحد تحبها؟!

تحمحم وقد بدأ جبينه بالتعرق وهو يصرح بإبهامٍ:

-ومن قال أني أحبها؟! ما بي تخطى أعلى مراتب العشق.

انقطع حديثهما عندما أخذ "صفوان" يتلفت حوله بتيهٍ، أثناء هبوط الطائرة على أرض مطار "مالي" الدولي، وتلك الهزة أثارت الريبة بداخله، ولا يعلم لِم أصرت معشوقته "ألورا" الذهاب إلى هناك بتلك اللعنة.
فكان من الممكن الوصول إلى هذه البقعة النائية عن مملكتهم في لمح البصر.

وعندما رأت "ألورا" تجعد ملامح وجهه الوسيم الذي اختاره ليتهيأ به، وكان يخفيه عنها طوال القرن الماضي بأكمله بواسطة تلك الخوذة، سألته باستفسارٍ لين:

-ما بك "صفوان"؟! لا تقول أن لديك رهاب الطائرات أيها الجني؟!

قالتها بمشاكسة وأخذها على محمل الهجاء والاستنكار كونها نصف بشرية، وهو نصف شيطان؛ ليقول بامتعاض:

-حتى ولو كنت جني تمقطينه، فلدي أحاسيس وأشعر كأي كائن حي، حتى الحيوانات تتألم عندما يعاملها الآخرين بقسوة.

-وهذا لا يعني أنني لدي الرعاب أو الرهاب، أو أياً ما ذكرته تواً، أنا استغرب كل ما يدور ولِم الأنس يتعاملون مع بعضهم بكل هذا التملق؟!

-ما بي فقط دهشة، لعل ذلك التعقيب يجعلك تنظرين إلى القميء "صفوان" كونه مخلوق من خلق الله وليس شيء يتوجب عليكِ النفور منه.

ومن ثم أشاح بوجهه عنها بحزن، وهو يقول:

-أعتذر عن تجاوزي مولاتي.

هي لم تقصد، ولم تعلم لِم شعرت بالأسى حيال من أعتقدت أن لا قلب له.

ولكن على ما يبدو أن هذا الشيطان "صفوان" كما كانت تلقبه في السابق يشعر بالنبذ مثلما تشعر، أو كما يشعر كل المحيطين بها فهي منبوذة من نصفها البشري ولا تشعر بالانتماء إلى عشيرتها.

و"راكان" يشعر بالنقص ورفض والدته بالماضي له جعله يمقت البشر.

والخارجين من عشيرته يستاءون كون الملك الأعظم ولى عليهم من هو دونهم، وها هو "صفوان" يشعر بالخواء مثلها تماماً.

ترى هل سيتخطى العاشق مرحلة الصمت ليرتقِ إلى ما بعد؟!
أم سيلتزم الكتمان ؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي