الفصل 18 استياء

عودة إلى قاعة استقبال ملك الجن القمري.

بينما من استدعها الملك "طلخان" في التو واللحظة، انتقلت إلى عالمها في لمح البصر وذلك بعد أن تركت ال "تيمو" خاصتها في حيرته، وخلفته وراءها مشتتاً وهي تراقبه الآن عن بعد.

نيران غيرتها متقدة، فأخذت تتوعده بداخلها، فقط تسنح لها الفرصة لتغب عن هنا وتلقاه، ولكن من خصتها "يامور" بعقاب أكبر ووعيد أشد وطئة ليس لها في معركة عشقها الغاشم هذا، شاه ولا ناقة.

فلا "همس" تنافسها عليه، ولا هما ندتان من الأساس، إذ أن "تميم" في قرارته لا يرى غير جنيته، و"همس" لا زال قلبها محصنٌ ولم يُخْترق بعد.

هرعت إلى غرفتها بعد أن تهيأت في زيها الملكي خالعة عنها ثوب أميرة الأحلام، ولكن بقى تاجها الأثري المتوارث وهذا ما لا يمكن استحضاره، يجب أن ترتديه هو بعينه فلنعتبره وشم المُلك.

اصطدمت تلك المتعجلة ب"تبرق" وكلاهما تعبرا من خلال الباب المغلق، ولا يمكن لغيرهما اجتياز هذا الحاجز المحصن.

ولِم لا فهي الغرفة الخاصة بأميرة الجن القمري؟!

شهقة تفاجئ صدرت عن كليهما، فلم تنتبه إحداهما على حضور الأخرى، جذبتها "تبرق" قابضة على رسغها؛ لتعود بها إلى داخل الجناح العائد ل"يامور" بقصر الملك، قائلة باستنكار:

-أين كنتِ "يامور"؟!

-لقد أرسل الملك "طلخان" في طلبكِ منذ عشر دقائق، وتعرفين قلة صبره، ستودري حالك "يامور"!!

ابتسمت "يامور" بحالمية وأشرق وجهها الصبوح بعد توتر؛ لذا وكزتها "تبرق" بمرفقها تبتسم بمشاكسة:

-هل كنتِ معه؟!

زاغت نظرات "يامور" وبدى عليها الارتباك، متسائلة تدعي عدم الفهم، ولكن هيهات فرفيقتها عاصرت قصة عشقها لذاك الإنسي منذ البداية، وإن أخفت عنها الآن فحتماً ستفضي لها ما بجوفها في وقت لاحق.

"يامور":

-من تقصدين؟!

قلبت "تبرق" عينيها بنزق، تعض على شفتها السفلية، قائلة بهيام، وهي تُرَوِّح براحة يديها أمام وجهها في حركة حماسية، مسبلةً أهدابها بحالمية.

-"تميم"، قلب أميرته، وهل يوجد غيره؟!

ابتسمت "يامور" على خفة صديقتها وابنة رئيس ديوان المملكة، ولكنها تجاهلت سؤالها، وردت السؤال بسؤال، معقبةً بإلهاء وأناملها تعبث بحاوية متاعها:

-أين هو تاجي؟!
-يجب أن ألبي أمر الملك، اسرعي "تبرق" وبعدها سنتحدث.

بسطت تلك الحسناء "تبرق" راحتها بالتاج الملكي الخاص ب"يامور"، قائلة بامتعاض وذلك بعد أن التقطته من أمام تلك المغيبة بعشق الإنسي:

-ها هو أيتها البلهاء، لقد أذهب هذا الوسيم عقلك على الأخير!!

التقطت "يامور" التاج من يد تلك المشاغبة، تضعه على رأسها بتعجلٍ، وهي تلقي نظرةً خاطفة على هيئتها بالمرآة المتواجدة أعلى طاولة الزينة المزخرفة والمُطْلى عوارضها الخشبية بماء الذهب مثلها مثل سائر أثاث هذا القصر.

ومن ثم اختفت "يامور" تاركة هذه الجنية الحالمة تحدق إلى انعكاس صورتها في ذات المرآة، تمعن النظر إلى حلتها بِتباهٍ، راصدة هيئتها من جميع الزوايا وكأنها عارضة أزياء تعتلي منصة العرض وتخضع إلى جلسة تصوير باحترافية.

ومن ثم تنهدت وهي تميل بجذعها تستند بكلا راحتيها إلى طاولة الزينة تُحدث إنعكاسها، قائلة:

-وأنتِ "تبرق"، متى ستقعين في الحب؟!

ولجت "يامور" إلى جناح الاستقبال الملكي الخاص بالقصر، تتهادى في خُطى محسوبة تليق بأميرة، مطرقةً رأسها باحترام لشخص الداعي وهو والدها الملك "طلخان"، والضيف وهو "راكان" ملك عشيرة الجن الضوئي.

تجز على أنيابها بغيرة وحنق، فها قد راودتها الأفكار في تواصل روحاني مع خاتم تحصينها المعلق بالسلسال الفضي المطوق لعنق ال "تيمو" خاصتها، مما يجعلها شبه متواجدة بينهما الآن بالمقهى، أي أنها في هذه الحالة ينطبق عليها مقولة الغائب الحاضر.

تصنمت بأرضها إذ يقف خليلها خلف تلك الإنسية يسحب الكرسي لها بكياسة وذوقٍ رفيع كي تجلس عليه برأسٍ مرفوع في ثقةٍ ووقار أنثوي شامخ عكسها تماماً، ف"يامور" بداخلها طفلة تتصرف بعفوية وبراءة لا عِلم لها بمكر النساء ولا تملقهن.

بينما هناك من يتابع تحركاتها بتمعن، يستكشف أفكارها التي تدور حول تلك الحسناء بجمالها الفريد ولا يعرف من هذه التي تشغل عقل وفكر الأميرة "يامور".

فما يلتقطه "راكان" الآن أشبه بنسخة لمقطع الڤيديو بالبث المباشر الملتقط عبر قناة الإرسال خاصتها ويُعرض عليه ما يدور بنصفيها الكرويين داخل عقلها تفصيلياً.

دنت "يامور" من كرسي العرش تحط بجسدها قليلاً من علٍ منحنية الرأس في تبجيل لجلالة الملك، ويمينها أعلى صدرها في إيماءة توقير، ومن ثم استقامت بجذعها، تلقي التحية باحترام، قائلة وعينيها تتنقل خلسة ما بين ملامح وجه أبيها الملك "طلخان" تحاول استنباط الحالة المزاجية التي هو عليها الآن فهي تقدره وتخشاه حالها كحال باقي الرعية.

وما بين هذا الذي يجلس بعنجهية وغطرسة يتفرس بها بنظرات متفحصة، لا تقييم ذكر لأنثى بل نظرات مخترقة لا اشتهاء بها ولا يلوح بمقلتيه الافتتان والرغبة.

"يامور" موجهةً حديثها إلى كليهما:

-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رد كلا من "طلخان"و" راكان" التحية، لتستكمل حديثها الموجه إلى والدها:

-لقد أتيت بناء على رغبتك جلالة الملك.
-آمُرني، أطيع.

زجرها "طلخان" بنظرات متوعدة، يتسائل باستفسار يحوي بطيته التعنيف، قائلاً:

-لقد استدعيتكِ منذ ما يقرب خمسة عشر دقيقة، أين كنتِ يا أميرة؟!

طالما خاطبها بصيغة رسمية ولم يذكر اسمها صراحةً ما بين الجملة الاستفهامية؛ فهذا مؤشرٌ علمت على إثره أن هناك عقابٌ سيلزمها الحجر داخل جناحها، ولا تطأ قدميها عتبة بابه وما عليها الآن سوى أن تأمل في ألا تطل مدة العقاب.

وبسؤالها عن سبب التأخير وتلك الإشارات التي ورداتها بما يدور في عالم موازي، أجابت بشرود، تختلق كذبة لتَخِل على "طلخان" ولكنها مفضوحة بالنسبة لمن ابتسم بتهكمٍ، إثر قولها التالي:

-لقد كنتُ في جولة بين المروچ على جزيرتي مولاي الملك.
-أسألك العفو جلالتك.

استدارت أعين "راكان" بجحوظ حتى كادت أن تقفز مقلتيه من محجريهما، وتلك الوقحة "يامور" تعري صاحبة الطلة الساحرة القوية من ثيابها الخارجية تتطلع إلى ما ترتديه أسفلهما، وبينما تُقيّيم الأميرة غريمتها، احتسب "راكان" تخيلاتها الغريبة تلك شذوذاً.

ولكن ما بها أبعد عما جال بخاطر "راكان" إنه فضول وغيرة، وبالرغم من أن قلبها يحترق الآن بلهيب تلك الغيرة من منافسة واهية بعقلها إلا أن ما يرصده العقل يشيد بالذوق الرفيع لغريمتها في انتقاء ملابسها الداخلية التي تقتنيها من أفخم محال الألبسة النسائية، مقررة أنها ستسلك نفس الموضة.

سَبَّات نابية انهالت بخاطر "راكان" يعنيها بها، متسائلاً أين هي من تعاليم الدين؟!

أصابته الخيبة، فهو من ظن أنه سيؤثر عليها بجاذبيته وتلك الهالة الملكية، ووسامة الملامح!!

بالأخير تكن ميولها الانحرافية تلك عائق أمام هذا التحالف الذي خطط ودبر وتنازل عن فكرة العزوبية وتخطى كرهه واشمئزازه من مصطلح أنثى، لتأتِ هذه الصفيقة التي تفتقر إلى أدنى معاني الأخلاق ولا تعرف للتقوى طريق؛ لتأكد استحقاق الجنس الآخر مهما كانت فصيلته للقب الدونية.

هز رأسه باستياءٍ، مستغفراً ربه بكل ما ذُكِر في دينهم من أقوال تلتمس العفو من المولى عز وجل.

ولكن تلك الوقحة من وجهة نظره لم تكف عن الاسترسال والتفحص التهكمي المتفرس، لذا انتفض "راكان" من جلسته، يرمقها باشمئزاز، فهي لا زالت تتطرق في الوصف التخيلي الدقيق لملامح من تتهيأ صورتها بالعقل الملوث لأميرة الصفاقة والوقاحة تلك، لا تفلت أية تفصيلة بها إلى وارتكز خيالها المريض يتمعن ويتمحص، وعند المنحنيات والتضاريس ولم يتمالك حاله إلا وهو يقول موجهاً حديثه إلى الملك "طلخان":

-سأترك لجلالتك مهمة مفاتحتها في الأمر؛ فلا أريد إهدار وقت جلالتكم الثمين.
-استئذانك بالسماح لي بالانصراف.

"طلخان" بريبةٍ ومعالم وجه لا تفسر بالنسبة إليها، ولكن التقط "راكان" تخوفه، فقال بإصرار يطمأنه:

-لا ينشغل بال جلالتك، ستقبل بالأخير، فلدي طرقي الخاصة.

قالها "راكان" وهو يمطرها بوابل من نظرات الاستنكار المتحاملة، ظناً منه أن منازعه في هذه الصفقة امرأة لا رجل.

في كلا الأحوال لن يُقِف مساعه في مد جسور الروابط بينه وبين تطلعاته لا إنس ولا جان ولا حتى معاشر الأبالسة بكل طوائفهم، فقد قرر ما يريد وسيحصل عليه.

بينما من تقف بتيه لا تفهم عما يدور شيئاً أخذت توزع النظرات بينهما ولا تعلم السر وراء لفتاته التحفظية المستنكرة الموجهة إليها من عيني الذئب خاصة هذا ال "راكان"، ولا إلام يرنو بقوله "فاتحها _ وستقبل"، في حين انشرح الملك "طلخان"؛ لتأكيد "راكان" بشأن حتمية قبول صاحبة الشأن "يامور" لعرضه بالزواج منها.

"طلخان" بودٍ:

-أتمنى أن يتم ما أردنا على وجه السرعة، فكما ذكرت الوضع غير مطمئن، وهؤلاء الأوغاد لن ييأسوا .

-وسأدرج نصيحتك بشأن الخدام تحت بند الأمور المنظورة، وسأفعل ما فيه الخير بإذن الله.

"راكان" باستحسان:

-أثق بعدلك ورجاحتك وسداد قولك وفعلك جلالة الملك.

"طلخان" برحابة:

-ثقة أعتز بصاحبها، ولو أنني كنت أحبذ أن تطل مدة تشريفك، ولكن طالما أردت الرحيل فمؤكد أن هناك سبب هام ولا أريد أن أكن عائق لك عن ما تجده أحق بوقتك، صحبتك السلامة جلالة الملك "راكان".

ألقى "راكان" التحية على ملك الجن القمري يخصه بها من دونها ليختفِ عن قاعة الاستقبال بل عن المملكة بأسرها إلى حيث مملكته بالأراضي المقدسة.

وفي أثناء فترة انتقاله وما بعدها أخذت تدور برأسه الدوائر عمن شغلت بال تلك الزوجة المستقبلية أكثر مما انشغل باله بالزوجة المنشودة نفسها.

ولا يعرف لم أخذت صورة تلك المجهولة بالنسبة إليه حتى الآن تنطبع بذاكرته، ولا لم تتدافع برأسه التساؤلات بشأنها؟!

ولكن أرجأ ذلك إلى الفضول والعدائية لمن لا يعرف لها جنس ولا طريق.

ترى ماذا سيحدث مع "يامور"؟! وهل ستقبل بهذه الزيجة؟!

وماذا سيكون رد فعل الملك "طلخان" إذا ما رفضت ابنته عرض ملك الجن الضوئي "راكان"؟!

وهل ستؤثر من تشكلت بذهن "يامور" لتترسخ ملامحها بفكر من جاء يطلب الزواج من أميرة ويرحل حافر صورة أخرى بعقله، على تلك المعاهدة ما بين المملكتين!!

والأهم ترى ماذا حدث مع "صفوان"، وملكة عرش قلبه؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي