الفصل 22 حب بعد عداء

عدو الأمس صديق اليوم، هذا ما إذا كانت عداوتهما تصب في اتجاهٍ ثالث، وهذا المصب أبعد ما يكون عن تقوى الله، فمن لا يخاف المولى عز وجل عليك أن تَعُد له العدة والعتاد، أو فلتمهله إلى بارئك، إنه يُمهل ولا يُهمل.
                  _____________

شياطينه حاضرة، وألسنة الغضب تندلع من مقلتيه لهيبها يحاكي حِمماً بركانية انفجر حاويها ليعم الخراب بالأرجاء، يمينه أزاحت بِطيشٍ كل ما هو كائن على سطح المكتب أمامه، يزمجر بحدة متخصراً بيساره، يدور حول نفسه على غير هدى، ثلاثة أعوامٍ من الضياع والتكتف لجمته، كارهاً ضيق السعة وقلة الحيلة.

إنه "أيهم الغازولي" صاحب أكبر شركات لتصنيع مستحضرات التجميل "El gazoly cosmetics".

والوريث الوحيد لثروة عائلة "الغازولي" يبلغ من العمر ثمانية وثلاثون عاماً.

لا سُلطة شفعت له ليمحِ مَن دمره، ولا ثروة مكنته مِن أن يشفِ غليله، وال "أيهم" ضاق ذِرعاً، فكلما خطط ودبر فشلت كل  محاولاته لأخذ الثأر.

ثلاثة أعوام ولم يُقلع عن تناول المهدئات والأقراص المنومة گي لا يراها في يقظته وأحلامه وهي تناظره بتوسلٍ ليُغِثها، ولكن گيف وقد كان مقيداً؟!

-----------------------
منذ ما يقارب ثلاثة أعوام في الماضي الذي مهما توالت عليه السنون إلا إنه محفورٌ بالذاكرة كنقشٍ وشمه قاسٍ لا يعرف للرحمة سبيل.

كان "أيهم" يجلس بِبهو قصر عائلة الغازولي الذي يحوي بين جدرانه متاعاً لا يتثنى لك تخيله، أثاثٌ على قدرٍ رفيع من الفخامة والتناسق يتميز بطابعٍ كلاسيكي وهذا ما عليه الطابق الأرضي للقصر.

أما غرف الدور العلوي وما فوقه، فكل جناحٍ به وُسِم بما يميل إليه ساكنه، وكل غرفة تختلف كلياً عن مثيلاتها وفقاً لاختلاف أذواق تلك العائلة المكونة من أربعة أفرادٍ ألا وهما الأب "كمال الغازولي"، وسيدة المجتمع "راوية الغازولي"، والابن الأكبر "أيهم الغازولي"، ومدللة أخيها "دنيا الغازولي"

يرتشف بتمهلٍ واستمتاع قدح قهوته الصباحية بعد أن جلبته إليه الخادمة، ومن ثّمَ لاحت على شفتيه ابتسامة رائعة، وهو يستمع إلى وقع أقدام تلك المشاكسة، وعلى ما يبدو أنها تفتعل المشاكل مع خطيبها عبر الهاتف، فبالرغم من أنه تمت خطبتهما عن حب وقع به العاشقان من النظرة الأولى، ولكنهما دوماً ما يتناقران وكأن هناك من أجبرهما على هذا الارتباط.

إنها "دنيا الغازولي" الأخت الصغرى ل "أيهم" ، وحين ذاك كانت تبلغ من العمر الحادية والعشرين ربيعاً، بينما كان "أيهم" بالخمسة والثلاثين.

هبطت "دنيا" الدرج، وهي تتهادى في مشيتها، وبرغم عبوسها ولكنها حقاً جميلة ورقيقة، جمالها ليس حد الفتنة ولكنها مرحةٌ وشقية، تُدخل البهجة على نفوس حاضريها.

حَبَها الله روحاً تُخطف لخفَّتها القلوب، وما إن رأت "دنيا شقيقها حتى حُلَّ انعقاد جبينها، تُهدي إليه ابتسامةً عذبة وهي تقول:

-صباح الخير أخي.

" أيهم" وهو يهز رأسه بيأسٍ من تصرفات هذا الثنائي المشاكس، مردفاً بسخريةٍ:

-عن أي خيرٍ تتحدثين؟!
-ألن ننتهِ من واصلة النقار هذه؟! بل وبدأتيها اليوم باكراً!!
-رفقاً بالرجل "دنيا"، إنه يحبكِ!!

أطرقت رأسها على استحياء، ولم تُجب فهي أيضاً تعشقه منذ أن قابلته أول مرة بشركة ذويها، وحدث بينهما صدام بدئاه بِمُشادةٍ كلامية، واستهجان من قِبَلِه بشأن عجرفتها، ولكنها أبعد ما يكون عن ذلك، كل ما في الأمر أنها متحفظة بعض الشيء مع الأغراب، لكن مَن عاشرها يعرف مدى تواضعها وحبها لتكوين علاقاتٍ اجتماعيةٍ وصداقات.

شَكَّل "حسام" انطباعه الأول عنها عندما آل بهما الحال، يقفان سوياً أمام باب المصعد الكهربائي الخاص بالشركة.

كان هو أول مَن وصل إليه، ولكن سبابتها سبقته ضاغطةً على زر الاستدعاء بتعجلٍ، وبالرغم مِن كونها لا تحب استخدامه ولكن هذا اليوم ستفعلها، فهي بموقفٍ لا تُحسد عليه.

إذ قامت وهي في طريقها إلى الجامعة بالاصطدام بإحدى سيارات الأجرة مما تسبب بضررٍ لكلا السيارتين، وفي هذه الأثناء أصر سائق السيارة الأخرى على تحرير محضر بالواقعة في قسم الشرطة، وللحق هي بالفعل كانت المخطئة.

إذ توقفت بسيارتها فجأة إثر تشتتٍ أصابها عندما استمعت إلى رنين هاتفها المثبت بالحامل المخصص لذلك أعلى المِقوَد، وكان المتصل صديقتها "وفاء" التي اتفقت معها على أنها ستسبقها إلى مقر الجامعة للاستعلام عن نتيجتيهما كوْن محل سكن "وفاء" هو الأقرب للحرم الجامعي.

ولكن "دنيا" لم تُطِق صبراً كي تزف إليها صديقتها الخبر؛ فقررت أن توافِها إلى هناك، وعندما رن الهاتف باسمها أصاب رفيقتها الذعر، ولم تُقايس فرق المسافة بينها وبين السيارة التي خلفها مباشرةً قبل التوقف، وإنما دعست دون تروٍ على المكابح فنجم عن ذلك هذا الحادث.

وبعد تدخل من أصحاب السيارات المحاذية وبعض المارة الذين أشهدهم السائق، وحكموا بأن تتكفل هي بتصليح السيارة ما دام الخطأ بَدَر منها، فلا قِبَل لذاك السائق الأجير بدفع تكلفة الصيانة مما يفيض له من إيراد بعد ترضية صاحب السيارة وإعطائه الأجر المتفق عليه ليستأجرها من صاحبها لعدد محدد من الساعات كل يوم كي يعمل؛ توفيراً لاحتياجات أسرته، هذا إلى جانب ارتفاع أسعار الوقود.

بالطبع لم تعترض فعلى كل حال، كانت تنوي فعل ذلك دون حُكم أحد ولكن توترها في هذا الموقف لجم لسانها؛ فتلك كانت أول مرة يحدث هذا معها؛ إذ تعلمت القيادة عما قريب.

تعلم أن "أيهم" سيلقي على مسامعها عريضة شجبٍ واستنكار، فقد نبه عليها سابقاً أكثر من مرة ألا تقود السيارة بمفردها قبل أن يرافقها عدة مرات كي يطمئن أنها قد أتقنت قواعد القيادة وعلى دراية كاملة بقوانين المرور.

أيٌّ ما سيصدر عن "أيهم" فسيكون له كامل الحق به، لكن مهما سيحدث قطعاً أفضل مِن أن تُعْلِم أبيها بتلك الورطة، فحينها سيكون العقاب مضاعفاً.

بعد أن طلبت "دنيا" من السائق أن يتبعها، فالمختص بالصيانة الذي يتعامل معه هذا السائق لا يعتمد البطاقات الإتمانية، وطلب ماله عداً ونقداً، وعندما اقترحت "دنيا" على سائق السيارة المنكوبة الذهاب إلى ورشة تصليح أخرى أخبرها بأن مثل هؤلاء ممن يعملون في هذه المهنة إناس بسطاء ولا يعرفون هكذا تعقيدات ولا يحبذون التعاملات البنكية ولا يحوزون ماكينة سحب وإيداع من الأساس.

ولتزداد الأمور تعقيداً، فعندما استلهمت الصواب وقررت أنها ستتوجه إلى أقرب صرافة أو ماكينة سحب نقدي، لم يفِ الرصيد المتاح بالبطاقة لسداد فاتورة التصليح، وبالطبع التابع لها فاض به، لذا أسرعت بالتوجه إلى مقر الشركة والولوج عَدواً، مما أثار دهشة أفراد الأمن وموظفي الاستعلامات ولكن ما من معقب، إنها ابنة رب عملهم.

ركضت قدر استطاعتها حتى تجلب بقية ما تدين له به قبل أن يفتعل المشاكل أمام البوابة ويتدخل أفراد الأمن وحينها ستكون الطامة الكبرى إذا وصل الخبر إلى أبيها.

لكن كان العائق بطريقها إلى مكتب أخيها هو "حسام" الموظف الجديد بالشركة، والذي يشيد "أيهم" بأخلاقه ونزاهته رغم كونه من أسرة متوسطة، لكن عفة النفس والأمانة لا علاقة لهما بالمستوى المادي، وللحقيقة هي لم تهتم عمن يتحاكى أخيها، ولا تذكر اسم المختص بعرائض المدح.

كل منا وله شغفه، وما كانت روح "حسام" متعلقة بشيء قدر تعلقه بعمله وإثبات جدارته لمرؤسيه،  لذلك كان يسرع هو الآخر بدوره ليلحق بالاجتماع الذي يضم مدراء الفروع التابعة للشركة الأم الذي يرتب له كلاً من الأب وابنه "أيهم" منذ عدة أيام، كي يدرسا مع موظفيهما الوضع الحالي للشركة وبقية الفروع ووضع خطط لتطوير المنتجات، وكذلك فتح أسواق إضافية سواء أكانت محلية أو عالمية.

منذ أن علم "حسام" بشأن هذا الاجتماع وهو يقوم بعمل دراسة شاملة وحصر لمنتجات الشركة ومقارنتها بما تقدمه الشركات المنافسة.

وأعد خطة تنمية تدعم عدة جوانب من بينها حملة دعاية إذا ما نُفِذت كالمطلوب ستحقق الشركة أرباحاً فلكية، لتأتِ هذه الفتاة غريبة الأطوار لتُحِل دون وصول أفكاره البناءة التي حتماً ما ستُثبت أقدامه بالشركة وربما ينال ترقية وزيادة في الراتب إلى جانب إذاعة الصيت وكسب ثقة المالك "كمال الغازولي"، وذراعه الأيمن "أيهم" ولده.

توقف المصعد فالتقطت مقبض بابه بكفها الصغير تفتحه لتلج، ساحبةً الباب خلفها، فعاقت دون حدوث ذلك يداً أخرى، وصاحبها يقول بانزعاج:

-تمهلي يا آنسة، سأستقل أنا الآخر المصعد.

ناظرته بأعين يتطاير منها الشرر وهي تقول:

-استخدم الدرج.

وما رفضها لعلة غير أنها لا تريد أن يراها أحد على الحالة التي تنتابها عندما ترتاد هكذا أمكنة، ف "دنيا" تعاني فوبيا الأماكن المغلقة.

"حسام" معقباً بضيقٍ وحِدة، يقول بتهكمٍ، ولا يعلم للآن أنها ابنة الثري "كمال الغازولي":

-وهل يجب على جميع الموجودين بمبنى مكان إداري كهذا انتظار سيادتكِ حتى تنتهِ من شاغلتك التي أتت بكِ إلى هنا، والتي قطعاً ستكون أمراً تافهاً، ونُعَطِل مصالحنا ومصالح الشركة لحين أن تُنعمي علينا بسماحكِ لاستقلال المصعد!!
-أو يكن الخيار من وجهة نظركِ العقيمة أن نلجأ إلى السلم للصعود إلى الأدوار المرتفعة.

المناطحة والتجاوز في الرد ليست طبيعته، ولا هو ممن يمكنك استفزازه بسهولة، على العكس تماماً فهو هادئ بطبعه، خلوق ومتسامح إلى أبعد حد، ولكن توتره وحماسته أبرزا جانباً من شخصيته ليس له وجود من الأساس بل طفق من وحي الموقف.

أما عنها فإن كانت الظروف مواتية لأمطرته بسيل من اللعنات، وبعدها ستطلب من أخيها رفد هذا المتعجرف عديم الذوق والكياسة، ولكن ستخرج حالها من هذه الورطة أولاً، ومِن ثَمَّ ستجعله شاغلتها مُقْسِمَة بكل الأيمان أنها ستقصيه عن الشركة وإن تمكنت ستحرص على عدم السماح له بالعمل لدى أي شركة أخرى استناداً إلى نفوذ والدها وأخيها.

رمقته بنظرة تقليل ومن ثم زفرت بحنق، مقررةً أنه لا وقت الآن للجدال، لذا تنحت جانباً تواليه زاويتها اليسرى محاولة صرف انتباهه عنها؛ حتى لا يلحظ ما سيطرأ عليها من أعراض هذا المرض النفسي اللعين.

سبةٌ نابية خرجت من بين شفاهها عندما شعرت باهتزاز المصعد ورعشة الضوء.

أو كان ينقصها؟!
فهي بالكاد تحاول أن تتماسك أمام هذا البغيض، استقر الوضع بالمصعد، ولكن حالتها لم تبقَ على استقرارها إذ بدأت يديها في الارتجاف وتسارعت أنفاسها وشحب وجهها.

وبوميض من مصباح الإنارة الخاص بتلك اللعنة التي يستقلونها في أقل من دقيقة بعد سابقتها، وها قد بدأ ثباتها المزعوم في الانهيار بشكل ملحوظ.

لذا استندت بضعفٍ إلى الحائط المعدني الذي خلفها، وهي تزوم بسبب عدم قدرتها على التنفس.

أما عَمَّن كان يدعي عدم الاهتمام أخذت نازعة الرجولة و النخوة تقضه.

التفت إليها ولا يعلم لم نهش الألم قلبه لحالتها تلك، وأخذه الفضول أو هكذا ظن لمعرفة ما الذي أصابها، تحمحم يجلي صوته:

-عذرا آنسة، هل تحتاجين إلى مساعدة؟!

أفرجت عن أجفانها التي كانت تطبق عليهما بقوة، وصوتها يأبى الخروج، ونظرة التماس صوبتها إليه، قُبِلَت بأخرى مشفقة أو ربما غير ذلك.

سقطت الحقيبة من يدها بعد أن فشلت في التحكم بأطرافها، ولولا أنها ألقت بكامل ثقل جسدها إلى الحائط خلفها ويدها الحرة استماتة على مقبض معدني يشبه العلاقة، لسقطت هي الأخرى أسفل قدميه كحقيبة يدها، إذ مادت الأرض بها وأصبحت ساقيها كالهلام لا تقوا على حملها.

نظرات متوسلة وَزَّعتها بينه وبين تلك الحقيبة الملقاة أرضاً، تَفَهَّمها هذا اللماح على الفور، يميل سريعاً يلتقط تلك التي تصب كامل انتباهها عليها، ومن ثم فتح سحابها ويده تعيث بمحتوياتها على غير علم عما يبحث.

تنفس الصعداء ما إن وقعت بيده زجاجة دواء صغيرة، وبنظرة عابرة عَلِم أنها تحوي أقراصاً مهدئة.

نعم، فهو على دراية شاملة باستخدامات كل مادة فعالة المكونة لكافة العلاجات، فهذا من صميم اختصاصاته إذ تخرج "حسام" من كلية العلوم قسم الكيمياء.

وبعد أن أتم "حسام" دراسته الجامعية عمل على تطوير مهاراته بأن تلقَ دوراتٍ تدريبية في التنمية البشرية وإدارة الأعمال كي يساير تطورات واحتياجات سوق العمل.

وإلى جانب دراسته كان يشغر وظيفة مساعد صيدلي بالفترة المسائية ليوفر مصاريف دراسته وكذلك مصروفاته الشخصية، وهذا حال كل من رحل عنهم السند والداعم ألا وهو الأب.

فمنهم من يعافر ليصل بذاته ومَن تُرِكوا أمانة في أعناقهم إلى بر الأمان، ومنهم من يُلقي باللوم على الظروف التي حتمت عليه التخلي عن أحلامه.

الطموح وقوة الإيمان والرضا بقضاء الله كلها عوامل ساعدت "حسام" على شق طريقه بنفسه دون حاجة لمخلوقٍ، حتى وإن غاب عنه السند.

ولكن حاله كان أفضل من غيره بكثير؛ إذ ترك له أبيه هو ووالدته معاشاً يقتاتون به، كما أن الحمل لم يُثْقل على تلك الأم الرؤوم التي آثرت العيش لأجل ولدها إذ لم يمن الله عليهما بغيره.
وهذا أبداً لم يكن سبباً لقنوطها هي أو زوجها المتوفى فحتى لو لم يرزقهما الله بغير "حسام"، فالمولى لم يبخل عليهما بل أطعمهما الذرية.

وها قد ظهرت حكمة الله في ذلك فلو كان بكنفها أكثر من طفل ما كانت ستتمكن من رعايتهم وحدها، وكذا علينا أن نتخيل كم المعاناة التي كانت ستتكبدها لتأمين متطلباتهم المعيشية البسيطة، فلله في خلقه شئون.

ظلت والدة "حسام" رافضة لفكرة الزواج بعد أن توفَى عنها زوجها حتى لا تأتي لوحيدها بزوج من الوارد أن يكن بلا ضمير ولا يمت للإنسانية بصلة فيسوء معاملة ابنها أو يُخَيِّرها فيما بعد بين العيش في عصمته أو إيداع وحيدها لدى عائلة أبيه، وهذا خيار لن تقوى على تنفيذه.

انتصب في وقفته بهلع ما إن ازدادت حالتها سوءاً، وهو يفتح غطاء العبوة، يلتقط منها قرصاً، يعرف كيفية استخدامه، إذ قربه إلى فمها قائلاً بلين:

-افتحي فمكِ كي أضعه تحت اللسان.

مع من تتحدث "حسام" ف "دنياك" بدنيا أخرى.
تشنج قد أصابها ولا سلطة عليها بجسد لا يستجيب.

عندما لم يبدر عنها بادرة علم أن ما بها أخرجها عن السيطرة، لذا رفع يده الأخرى يقبض على أسفل محاولاً أن يفرج عن تيبس فكيها العلوي والسفلي كي يتمكن من إقحام القرص داخل فمها.

ها قد نجح وكل هذا تم بثوانٍ معدودة فإذا لم يسرع في التصرف ربما واتتها نوبة صرع أو أثَّر تشنجها هذا على الوظائف الحيوية للجسد، يعلم أن رهاب الأماكن المغلقة لو تزامن معه انقطاع الضوء يزيد من تدهور حالة من يعاني من هكذا أمراض، وحتماً قد أجاد التشخيص.

هناك أمر غريب، قوى تجذبه إليها على غير العادة، وعندما لامست أنامله شفاهها استشعر انجرافاً عاطفياً غير معهود، إحساسه وهو قريب إليها لذة، وشعوره ما إن لامسها متعة، وفوحها العطر ما أجمله أريچ!!
سؤال طرأ بذهنه جعله يبتعد كمن لدغته حية، ألا وهو : - إذا كان هذا حاله من مجرد لمسة، فماذا سيحدث إذا ضمها إليه؟!

أطرقت رأسها على استحياءٍ، فبينما تخطط هي لهدم مستقبله كان معها هو قمة في الرجولة والنخوة، إذ بعد غلاظتها معه لم يتوانَ عن مساعدتها بأدبٍ ولم يسعَ لاستِغلال الموقف.

سؤال آخر بغير محله نبثت به شفاهه، ولا نعني هنا غرابة السؤال ولكن عداء من وُجِّه إليه السؤال، وفظاعة ما كان يضمره والمقصود هنا "دنيا".

"حسام" باهتمام:

-هل أنتِ بخيرٍ الآن؟

أومأت بإيجابٍ دون حديث، وفي تلك الأثناء توقف المصعد بالدور الثامن لهذا الصرح العملاق المكون من خمسة عشر طابق وهذا فقط المبنى الإداري الذي يحاوطه عمائر أخرى من بينها معمل مكون من طابقين، وعدة عنابر تخزين ومبانٍ لخطوط الإنتاج وكذلك مستودعات المواد الخام.

وهذا كله يتشعب منه عدة فروع بمحافظات مختلفة داخل مصر، وثلاثة فروع أخرى بثلاث دول أجنبية كبرى، إحداها بالولايات المتحدة الأمريكية وآخر بإيطاليا والثالث بفرنسا بلد السحر والجمال وأصل العطور، فلنا أن نتخيل مدى ثراء مالكيها و "دنيا" واحدة منهم.

وزيادة في إيضاح مدى سماحته زادها من الشعر بيتا وهو يعرض عليها الآتي، وهذا بعد أن فتح عنها باب المصعد يفسح لها الطريق، بل وتقدمها بعدة خطواتٍ وكأنما يدلل على صدقه ورغبته في إكمال موقفه النبيل:

-أتودين أن أرافقكِ إلى وجهتكِ؛ كي اطمئن أنكِ بمأمنٍ؟

قال ما ذيل به عرضه باندفاع، أهدته على إثره ابتسامة خجولة، فبدى عليه الارتباك، ولكن بعد ردها زال عنه توتره ليحل محله إحساس آخر، وهذا عندما أردفت قائلة:

-اطمئن، مقصدي ليس ببعيد، فمكتب أخي "أيهم" على مقربة.

ارتد بصره سريعاً إليها وقد جحظت عيناه حتى كادتا أن تقفزا من محجريهما، وعدة أسئلة بلهاء غير مترابطة لفظها دفعة واحدة:

-مَن؟! "أيهم"!! أخوكِ؟!

إيماءة إيجاب أخرى تكللت بابتسامة تسلية ما إن لاحظت بروز عينيه واصفرار وجهه.

بينما أخذ "حسام" يفرك راحتيه معاً بتوترٍ، واعتذار رغب في إبداءه ولكن تلك المشاكسة وأدته في مهده عندما قالت:

-اهدأ!! ما بك؟! لا تتوتر هكذا، ولا تخاف أيضاً، لن أخبر "أيهم" عن فظاظتك.

أبى نعته بالجبن، فقال بامتعاض:

-أنا لا أخاف أحداً سوى خالقي، ولست غليظاً، فعلى ما أعتقد أنتِ مَن بدأ.

بالرغم من لسانها السليط هذا إلا أنه لا يريد تركها ولكن قد أضاع الكثير من الوقت لذا قال منهياً الحوار:

-استأذن منكِ، يجب عليَّ الانصراف.

ألقى جملته ولم ينتظر رداً بل والاها ظهره معاوداً أدراجه إلى حيث المصعد، ولكن بعد خطوتين يتيمتين ثبت يستدير بكامل جسده لمقابلتها فوجدها لازالت تبصره.

ابتسم هذا الوسيم صاحب العينين العسليتين الناعستين بوقارٍ مهلك، وكذلك نظرات الزهو المطلة من مقلتيه بثتها مدى ثقته بحاله.

زاغت بصرها عنه عندما ضبطها بالجرم المشهود ألا وهو "هيامها" به، ولا تعرف لما عاودت الالتفات إليه.

إشارة لها بأن تقترب صدرت عنه لبتها على الفور ولا سبب محدد يفسر انصياعها لأوامره!! ربما هذا النوع من الفتيات ينجذب إلى الشخصية القيادية.

استحضر روح الدعابة وهو يسألها بمكرٍ محبب:

-ما رأيكِ في جولةٍ أخرى بالمصعد؟!

النية في ذمة الله، إذ أعتقدت أنه يريد الاختلاء بها، أخذت تنهر حالها على استجابتها المخزية لدعوته بالاقتراب، وكذلك عندما شردت به؛ فعلى ما يبدو أن هذا الهمجي ليس بالسجية التي ظنته عليها، لذا كشرت عن أنيابها وها قد بدأت ترتب النعوت والسباب كي تقذفها بوجهه دفعة واحدة، وقبل أن تنطق رفع راحة يده بوجهها كأمر آخر منه إليها بالتمهل، تَبِعه تبرير لما قال:

-إذا كنتِ قد جئتِ إلى هنا لمقابلة الأستاذ "أيهم"، فهو غير متواجد بمكتبه الآن.
-إنه بقاعة المؤتمرات بالطابق الرابع عشر.
-وعلى ما يبدو أنكِ على عجالة من الأمر الذي أتى بكِ إلى هنا؛ لذا لا أعتقد أنكِ ستلجأين إلى الدرج.
-وبما أن مفعول الدواء لا زال سارياً، فأنصحك بالإسراع قبل أن يستقل المصعد غيرنا، وهذا به مضيعة لوقتي ووقتكِ.

مرةً أخرى تركها توازن الأمور وتقرر ماذا ستفعل وهو يستكمل ما تبقى من خطوات قليلة، يفتح باب المصعد سريعاً قبل أن يقم أحد باستدعاءه، وعندما أوشك على أن يلج إليه، رمقها بنظرة مستفسرة، وافته على إثرها عن قناعة بأن اقتراحه هو الأمثل، ولكن ما جعلها تعلم أنه سمة رابط سيجمعهما أنها تناست في حضرته لما أتت إلى هنا من الأساس، فبالكاد هو من ذَكَّرها أنها جائت ل.

تقدمته مطأطأة الرأس إلى داخل المصعد، وافتتح معها الحديث باستفساراتٍ لم تُذْكر صريحة، ولكن إجاباتها كانت وافية.

هندم من هيئته الأكثر من جذابة يتلمس ياقة قميصه، قائلاً بزهوٍ فكاهي أحبته:

-"حسام".

أجابت دون أن تُسْأل:

-"دنيا".

طلب قُبِل بالموافقة الضمنية دون تأكيد صريح، فقط إيحاءات مبطنة تدل على القبول:

-أُنهي عملي الساعة الثالثة والنصف، وبعدها أذهب إلى مقهى قريب من هنا اسمه........ على ناصية الشارع العمومي.
-أحب القهوة التي يقدمونها هناك.

تمهل ثوانٍ ومن ثم استكمل مستفسرًا:

-أتحبين القهوة؟

أجابت عن غير عمد ولكنها الحقيقة، أما عن عينيها فضحت تلهفها:

-لا.

أطرق رأسه يهزه بخيبةٍ مصطنعة، وهو يتمتم:

-إذا سأنتظركِ هناك كأصدقاء.

لم توافق ولم تعترض وفي موقفها هذا بارقة أمل، لذا لن يضغط عليها بالقبول، فإذا أحست بانجذاب نحوه كما استشعر هو، حتماً ستأتي.

قادها معه إلى حيث قاعة الاجتماعات ويبدو أن اليوم يوم سعده إذ وجد أن السيد "أيهم" لا زال على وشك البدء وهذا ما استنتجه من جملته الافتتاحية التي التقطتها مسامعه وهو يدنو إلى القاعة.

طرق الباب بتريثٍ ينتظر لحين يُسْمح له بالدخول، وهي تنتظر على بعد أمتارٍ بتخبط، وهي توازن ما إذا كانت ستقبل بدعوته أم ستتجاهل الأمر.

ثوانٍ معدودة واستمع إلى إذن بالسماح ولج على إثره إلى داخل القاعة، يتوجه إلى حيث مقعد "أيهم" الذي ناظره باستياء؛ لتأخره، مال إليه "حسام" يحدثه عن قرب قائلاً باحترام:

-أعتذر عن التأخير.

أومأ "أيهم" دون تعقيب، ليتم الآخر حديثه بما أملته عليه "دنياه":

-الآنسة "دنيا" تنتظر سيادتك بالخارج في أمر سري لا تريد أن يعلم السيد "كمال" به؛ لذا لا ترغب منك الإفصاح عن وجودها هنا.

زوى "أيهم" ما بين حاجبيه بدهشة، فأخته لا تأتي إلى هنا إلا للضرورة القصوى، ولكن الأكثر عجباً لم تشترط عدم معرفة والدهما بمجيئها ولِم اختارت "حسام" تحديداً؛ لتُسند إليه مهمة إبلاغه!!

استقام "أيهم" من مجلسه، يستأذن الحضور وعلى رأسهم والده قائلاً بعملية وهو يرفع هاتفه الذي عمل على إيقاف نغمة التنبيه الخاصة به، ووضعه على نظام الذبذبات، وهذا حال جميع الحضور، فإذا أصدر أوامر بعدم الإزعاج فهذا لا يعني انقطاعهم عن العالم إذ ربما يكن هناك أمر طارئ سواء أكان شخصياً أو خاص بالعمل:

-عذراً لقد وردتني مكالمة هامة، دقيقة واحدة وسنبدأ.
-استئذنك سيد "كمال" الأمر في غاية الأهمية.

أشار إليه السيد "كمال" والده بالخروج، فتوجه بخطوات واسعة إلى الخارج، إذ أُذِن له بدقيقةٍ ليس إلا.

نعم، فالوقت عامل أساسي يجب استغلاله، كل دقيقة ولها ثمن.

غادر "أيهم" القاعة، فوجدها تقف منزوية على بعد تستر بجانب إحدى الحاويات الخاصة بملفات العمل، ولولا هسيسها ما تمكن من رؤيتها.

هز رأسه بيأس من تصرفاتها الطفولية، ومن ثَمَّ اقترب يطبق أنامله على شحمة أذنها، يزجرها قائلاً:

-ماذا فعلتِ يا كارثة وحلت على رأسي؟ انطقي قبل أن أفقد أعصابي.

أجابت على سؤاله بسؤال:

-هل أبي معكم بالداخل في هذا الاجتماع؟!

أما عن هذا الذي خرج بعد أن تلق أمرَاً من السيد "كمال" بإحضار الملف الخاص بالطلبيات الواردة لمناقشتها ومعرفة ما إذا كانت القدرة الإنتاجية لديهم ستفي لتوفير الكميات المطلوبة أم سيحتاجون لمضاعفة الطاقة وعمل ورديات إضافية.

لم يتمكن من السيطرة على نوبة الضحك التي هيمنت عليه؛ جراء رؤيته لمشاكسته سليطة اللسان منكمشة على حالها في وضع مناقض لتلك التي كانت تتعامل معه بجليطة منذ اللحظة الأولى وكأنها شخص آخر، لكن هذه الطفلة الماثلة أمامهما الآن أبعد ما يكون عن التسلط والعجرفة إذ تبدو كفتاة مذعورة تقف بخزي أمام ولي أمرها، الذي ضبطها تقوم بعملٍ تخريبي يتطلب منه تقويمها.

التفت "أيهم" ليتبين من المتابع خشيةً من أن يكن والدهما، فعلى أي حال حتى وإن أخطأت فهو دوماً وبرحابة المتستر على جرائمها الطفولية والحامي الداعم لها على طول الخط، وهذا كون السيد "كمال" شخص عملي وشديد بعض الشيء.

تحمحم "حسام" مجلياً صوته، يقول بارتباك:

-أعتذر، فأنا لم أتعمد المقاطعة، لكن السيد "كمال" أرسلني في مهمة ولم أقصد التلصص عليكما.

قالها وأنصرف إلى وجهته دون إضافة وذلك بعد أن أطرقت رأسها بخجل استشعره المغادر لذا أعفاها من الحرج.

بينما استدعى "أيهم" ثباته، فلا وقت الآن للتعنيف، ربما لاحقاً.

أفضت "دنيا" إلى أخيها بالمصيبة الأزلية التي وقعت بها من وجهة نظرها.

بينما يقف متخصرا وهو على وشك الفتك بها، ارتاع خوفاً من أن تكن معاناتها التي أتت بها إلى هنا شيء يصعب حله ، وفي الوقت ذاته يحمد الله أنها خرجت من هذا الحادث سالمة.

في هذه الأثناء عاد "حسام" وبيده المطلوب، فاستوقفه "أيهم"، قائلاً:

-"حسام"، سأتصل بمسئول خزينة الصرف؛ ليسلمك مبلغاً من المال وخذ الآنسة "دنيا" معك، واعط النقود للسائق الموجود أمام البوابة الرئيسية واعتذر له نيابة عني.

مرافقتها مطلبٌ يلتمسه قلبه، وتطوق إليه روحه منذ أول كلمة بينهما، وكلاهما كان يكابر، ولكن ما يُمْله عليه العقل بعيداً عن علاقة لا زالت في علم الغيب عند الله، حتى وإن أخلص فؤاده الدعاء للمولى في أن يكلل تعارفهما وانجذابه إليها برابط مقدس فهذه الأمنية آن ذاك تدرج تحت بند الاحلام بعيدة المنال، لذا يصبو لما هو متاح فإن أراد كرم من الفيَّاض عليه الكد والاجتهاد.

لذا قال بامتعاضٍ:

-والاجتماع سيد "أيهم"؟!

"أيهم" بِحثٍ:

-الاجتماع مقام على شرف الفكرة التي حدثتني عنها بالأمس، فقط أسرع.

حماسة هيمنت على صديقنا "حسام" ولم يعِ على حاله إلا وهو يقبض على رسغها يسحبها خلفه وكأنه اعتاد على فعل ذلك.

هدرةٌ غاضبة أسقطت قلب هذا الأهوج أسفل قدميه، بينما ذلك الغيور على عرضه، يزجره قائلاً بصياح:

-"حساااام"!!

-ماذا تفعل؟!

-هل جُننت؟!

حتى بعد أن التفت إليه المعني بهذا الاستهجان القاسي، وتلك التي تحاول أن تسل مرفقها من الكماشة التي استماتة عليها، وصديقنا الشغوف على حاله إذ لم يستوعب للآن ما الخطأ الذي اقترفه.

حاول التركيز ليصل إلى ما يرمي إليه رئيسه، ولكن دون جدوى، فتسائل باحترام:

-معذرة!! هل صدر مني شيء أزعجك سيدي؟!

"أيهم" وهو على وشك ارتكاب جريمة ولكن ضحيته لن تُعاقب بجريمة شرف، بل سيقتله لأن الخلاص من الأغبياء يجنب البشرية انتشار سلالة أشد بلاء.

أمرٌ موجز، تبعه تقدم مضجر صوب الهدف:

-دعها.

سؤال أبله ورد على لسان عبقري في مجاله وهذا ما دُهِش له "أيهم".

"حسام" دون تفكير:

-مَن؟!

وقبل أن تطاله يد أخيها، هي مَن أسرعت تقبض على ساعد "حسام"، تجذبه بعيداً عدة خطوات.

فأصبح المشهد كالتالي.
هو ممسك برسغها وراحة يدها الحرة مطوقة لساعد اليد ذاتها تسحبه بمنأى عن ذلك الذي ما أن يتمكن منه لن يُبقِه على قيد الحياة.

يتبعها بتيهٍ وكأنه سلمها مقاليده، وبعد مسافة لا بأس بها نفضت كلا راحتيها عنه ومنه، وهي توبخه ولكنها حرصت على ألا تُظهِر أمام أخيها تبادلها الحوار معه، لازال كانت تقف على مسافة قريبة منه الى حد ما ولكن وجهها يقابله وظهرها لأخيها:

-كنت تقهق منذ قليل عندما رأيت "أيهم" يعنفني، والآن كدت تُلقي بحالك أمام القطار أيها الأحمق!!

-ما الجرأة التي جعلتك تمسك يدي هكذا وعلى مرآى من أخي؟!

-أي عاقل يفعل ما فعلته أنت الآن؟!

معها حق، وأخيها وإن أرداه قتيلا فعذره معه، وما أنقذ الموقف صفعة تلقاها "حسام" على وجنته حرصت على أن تكن مدوية ولكنها غير مؤلمة.

ناظرته باستياء أجادت تقمصه، قائلة بصوت وصل إلى مسامع أخيها الذي هدأت نواجزه بردة فعلها تلك، كما أن حتى وإن ساءه ما فعل هذا الأحمق ولكنه يعلم علم اليقين أن ما اقترفه نابع من اندفاعه وتهوره، هذا إلى جانب إصراره الشديد على حضور هذا الاجتماع المصيري.

"دنيا":

-اذهب أنت أيها الوقح وتكفل بما أمرك به السيد "أيهم".

قالتها وعاودت أدراجها إلى حيث أخيها تعدل من هندامها وكأنها فتحت عكة، قائلة بمرح:

-لا تزعج حالك، لقد تمت السيطرة على الوضع؛ فهذا المختل لا يستحق أن تلوث يدك بدمائه.

-انظر إليه، يبدو أرعن لا يُحسن.

نقية وبريئة؛ لذا يخاف عليها ويعاملها كابنته ومن كثرة ما اقترفه من أخطاء إلى جانب تعدد علاقاته، يخشى أن يعاقبه الله فيها، لذا عزم على أمرٍ سينفذه بعد انتهاء الاجتماع مباشرةً.

طلب "حسام" من أخته أن تنتظره في الغرفة المجاورة لقاعة الاجتماعات.

وبالفعل أنهى "حسام" ما أمره به "أيهم" على وجه السرعة، ولحق به إلى القاعة.

ولكن ال "أيهم" لم يكف عن رميه بنظرات حانقة طوال مدة الاجتماع، هذا بالرغم أن أفكاره وخططه لاقت استحسان من قِبَل جميع الحاضرين بما فيهم "أيهم" ذاته لكن هذا كله لم يشفع له ولم يجعل نظرات الآخر تلين.

تصفيق حار كان تعقيب الحضور على ما استفاض "حسام" في عرضه قاطعاً كل السبل على من انتابته الغيرة تجاهه، وكل تساؤل غرضه التقليل مما عَمِد ليالٍ على إعداده والتخطيط إليه بإتقان كانت له إجابة محكمة، وكل عقدة وضعها الآخرون في طريق وصوله إلى ما يحلم به كانت لها ألف حل.

ها قد أثمر تعبه وجده، ولمع نجمه خاصةً في وجود الرأس الكبيرة المكونة لهذا الصرح العملاق الذي أشاد بفكر وقدرات هذا الشاب الطموح، مقرراً تعينه مديراً عاماً للفروع المحلية المتواجدة داخل مصر، مُصدراً أمر ل"أيهم" بالسفر لتولي شئونهم الخارجية ومتابعة سير العمل في الفرع الذي تقرر إنشاءه ب "برلين".

وللحق لاقى هذا الاقتراح قبول مبتهج من قِبَل "أيهم"، ف "أوروبا" بلاد الانفتاح.

على أي حال ماذا سيتمنى أكثر من ذلك؟!
منها سيُرفع عنه أعباء مضاعفة جاد أبيه بها عليه منذ عدة أعوام لتؤُل إلى من هو أهل لحملها، ومنها سيحظى بالحرية والاستمتاع ودون رقيب.

وزيادة في فيض الكريم فما ظنه "حسام" سيكون سبب نكبته إلا أن تغابيه في الموقف السابق مع "دنيا" على مشهد من "أيهم" كان قدرٌ من الله وفي صالحه.

انفض الاجتماع بإشارة من مترأسه وهو السيد "كمال"، وبعد أن لملم "حسام" أوراقه ووسائطه استعداداً للانصراف، وجد من يربت على كتفه بحدة قائلاً بأمر:

-انتظر.

التفت يبتلع، وهو علم تام بصاحب اليد الواكزة قائلاً بتوجس:

-أوامرك سيد" أيهم"؟!

"أيهم" وهو يؤشر له بأن يتبعه:

-هناك حديث لم ننتهِ منه بعد.

نظراتٌ حائرة، وهلع انتاب "حسام"، وانطفأت بداخله شموع الفرحة.

أيعقل بعد أن نال مساعه وابتسمت إليه الحياة بعد أعوام من الشقاء أدارت فيها ظهرها إليه، يعاود طالعه الشئوم الذي ظن أنه قد فارقه بالظهور كشبحٍ سُلِط عليه ليرافقه كظله؛ محطماً كل فرحة وأمل له على صخور قاسية لا ترحم، وأي صخرة هذه المرة؟!

إنه "أيهم الغازولي"، ولا قِبَل لمهمش مثله أن يعارضه هذا إذا ما أراد أن ينحِهِ حتى ولو قالها أبيه، فمن السهل إقناعه بغير ذلك.

بخطوات ميتة تبعه "حسام" حيث وجهته، وعندما أشار "أيهم" إليه بغطرسة؛ كي يفتح باب المكتب المجاور، لمحاها تنتفض من جلستها شاهقة بتفاجئ فعلى ما يبدو كانت شاردة بشيء ما، أو ربما بشخص ما.

هالهما سكوته ومن كانت تسرع بفوضاوية لتتقصَ خبر نتيجتها للعام الأخير لها بالجامعة تناست كل شيء، وبقى ما ينتويه "أيهم" الآن هو ما يستحوذ على فكرها وكامل تركيزها، مندهشةً تتسائل لمَ تصعدت الأمور إلى هذا الحد؟!

أما "حسام" فقد سلم أمره إلى الله، إذ ضاع أي أمل له في تلك النقلة التي كانت سترفعه إلى أعالي قمم النجاح، يتمتم مناجياً ربه دون صوت:

-الله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

هل سيكون القدر متصالحا مع "حسام"، وستنطلق شرارة العشق لتنر عتمة لياليه؟

ترى من التي فقدها "أيهم"؟! وكيف حدث هذا؟!

ومن هم أعداء الماضي وعلام سيجتمعوا؟!





                      

                  ________________
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي