الفصل 3 أميرة الجن الضوئي

رياح عاصفة اشتدت، وعلا صوت الرعد، واستحال صفاء عنان السماء إلى غسقٍ دامي، وأحدهم ثائر وقد ماجت أوداجه بغضبٍ عارم، وتشتت أصاب كل سكان مملكته والكل يتسائل:

- لِمَ كل هذا السخط الذي يعصف بملكهم؟!

وبعيد في الأفق جواد يعدو وعلى ظهره أكثرهم جاذبية على الإطلاق، ومن يمكنه رؤيته من عشيرته وكافة الفصائل من هذه المخلوقات التي تشاركنا الأرض ومتاعها ينحني في ثبات واستكانة إجلال وخنوع ل"ملك الجان "راكان"".

وما إن اقترب هذا الفارس على حصانه ذو البياض الناصع والشعر الكثيف الذي يتدلى أعلى ناصيته، رافعاً رأسه في شموخ كممطتيه من بوابة قصر الملك "الأشهب"، حتى فُتِحت البوابة على مصراعيها دون فاعل أو طلب من القادم، وكأن تلك الكتلة الحديدية المطلاة بماء القصدير تنفذ الأمر طاعة للوالج.

ترجل الملك "راكان" من أعلى سرج حصانه، يقطع الأرض أسفله بخطى ثابتة قوية وبرغم ما توحيه هذه الخطوات من نقمٍ إلا أنها واثقة محسوبة.

ولكن ما الداعي؛ ليبدو على معالم وجهه الحنق وعدم الرضى؟!

سؤال تبادر بذهن كل خدام القصر والتابعين وكذلك "صفوان" قائد جيوش الملك "الأشهب"، وصديق الطفولة والصبى للملك المفوض "راكان" فقد عاشوا معاً مرحلة طفولتهما داخل هذا القصر إلى أن اشتد ساعدهما، وأصبح كلا منهما قادراً على شغر المكانة التي وضعه بها الملك "الأشهب".

فقد منح الملك الأعظم صولجان المملكة وتاج الملك ل"راكان" بعد أن أصبح في بداية مرحلة الشباب، فها قد أتت وفود من معاشر القبائل الحليفة؛ لتشهد حفل تتويج الابن الأصغر لملك عشيرة الجن الضوئي بعد أن أتم ثلاثمائة عاماً، وقد مَنَّ الملك الأعظم على "صفوان" برتبة قائد الجيوش.

وبرغم حب عشيرة الجن الضوئي لملكهم الجديد، وثقتهم في عدله وحكمته، ولكن اليوم تملكتهم الرهبة والفزع للحالة التي خيمت توابعها على وادي "نجد" وتأثر لها كل إنس وجان من سكان تلك الرقعة من شبه الجزيرة العربية.

فها قد أعلنت وسائل الإعلام تِبعاً لبيان هيئة الأرصاد الجوية الوطنية للعاصمة "الرياض" عن هبوب رياحٍ عتية من جهة الغرب، واحتار جميع الخبراء في تفسير تلك الظاهرة التي تحدث في هذا الوقت من العام، إذ قد انتهت مواسم النوات المحددة وفقاً للخارطة الچيولوچيا التي وضعها علماء ال"ميترولوچيا" لهذه المنطقة.

ما إن وصلت خطى هذا الذي أحدث تلك الطفرة، إلى داخل بهو القصر الملكي الذي يشبه في تصميمه القصور اليونانية القديمة في عصر الإغريق، تلك التي تتميز تصاميمها بالبساطة والفخامة إذ كانوا يعتمدون الرخام والخزف في الأبنية المعمارية.

وها صوت نعل حذائه يُحدِث رتماً رتيباً على أرضية بلاط القصر وما إن أحس "صفوان" بقدومه منذ أن اقترب من أسوار القصر، حتى أصابه الارتباك واختفى بلحظة يواري المغزل الذي كان منشغل به، وهو يصنع عقداً من الأحجار الكريمة التي ظل يجمعها من مشرق الأرض ومغربها طوال الليلة الماضية لحبيبته "ألورا".

"صفوان" وهو ينتفض من مجلسه، يتقدم من الملك "راكان"، الذي أوقفه بإشارة من يده جمدت حركة الآخر على بعد ثلاثة أمتار، يهدر بصوت غاضب دون أن يلتفت إليه، قائلاً بحدة:

-"صفواااان" إذا لم تنتبه لما وُكِل إليك، وتواليه اهتمامك، فتنحَ عن مهامك.

-وبدلاً من المجهود الذي تبذله لتحجب أفكارك عني؛ بسبب تلك التي أذهبت عقلك على الأخير، كرسه لتتابع ما يحدث حولك.

ومضة تلاها التلاشي وفي طرفة عين أصبح "راكان" أمامه مباشرة، يستكمل توبيخه إلى قائد الجيوش "صفوان":

-إذا كان عشقك لها سيعرض مملكتي وعشيرتي إلى خطر هؤلاء الملاعين، فتفرغ لما أردت.

أطرق "صفوان" رأسه بخزي، وهو يقول بتلبكٍ:

-عذراً "راكان"، هل لي...........

بتر "راكان" عبارة الآخر، محاولاً التحكم بنوبة غضبه؛ لا إلا يؤذي الماثل أمامه في موقف لا يحسد عليه:

-الملك "راكان"، أنا أتحدث إليك الآن بصفتي الملك وليس صديقك يا قائد "صفوان".

-فهل أخبرتني أين كنت ليلة أمس وأتباع "دهمان" يتجولون بأرجاء المملكة يوسوسون إلى العشيرة بفتنهم حتى يشيع التفكك وتتقد الثورة ضد قرار الملك "الأشهب"؟!

-وحينها ستتهيأ الفرصة لهذا الدميم؛ لتطأ حاشيته حدود المملكة فارضين سيطرتهم على بني عشيرتك، يشتتون شملنا، وشمل بني آدم الذين أَمَّنهم الله في هذه الأرض المقدسة.

"صفوان" وهو يتهرب بنظراته؛ حتى لا يفتضح أمره:

-العفو مولاي الملك "راكان"، خطأ لن يتكرر مرةً أخرى.

-وإذا حدث، يمكن لجلالتك معاقبتي بما تراه مناسباً.

رفع "راكان" يده يقبض على فك "صفوان"، وهو يفحه حديثه من بين أسنانه:

-الخطأ هذا إذا تكرار لن يُجْدِ حينها العقاب، سيكون أهلنا وعشيرتنا في خبر كان.

-ووجهك هذا وهيئتك تلك بت أكرهها، أُفَضِّل أنت تعود إلى ما كنت عليه ونهيتك مسبقاً عن الظهور به ونحن صغار، على أن تحرص عليه الآن؛ حتى تستميلها.

-إذا كانت أنسية فاسبيها وتزوجها حتى نتفرغ لشئوننا، وإن كانت واحدة من الرعية فاطلعني عليها ولو كان مهرها قنطار من العقيق.

دمعة حائرة تلألأت بعين "صفوان" وهو ينعي حبه المستحيل، قائلاً باستعطاف:

-لو كان الأمر متعلق بثراء الأرض وما عليها، ما نامت ليلة واحدة بعيداً عن أحضاني.

زفر "راكان" بألم لما لاح بعيني رفيقه، وهو يقول:

-أخبرني "صفوان"!! من هي؟! وسآتيك بها راكعة.

أسبل "صفوان" أهدابه، ما إن شعر باختراق "راكان" لأفكاره؛ فالحديث عنها يشتته ولا يستطيع حينها السيطرة على هواجسه بها.

وبينما هما على تلك الحالة استمعوا إلى صوت ضحكات مبهجة وقد ظهرت صاحبتها تقول بمشاكسة:

-ما بكما؟! هذه أول مرة أراكما تختلفان هكذا!!

-ماذا حدث؟!

بسط "راكان" راحته إلى أخته من إنسية أخرى، ويبدو أن الملك "الأشهب" كان مولعاً بنساء الإنس، لتشاركه أخته غير الشقيقة بعضاً من صفات البشر وأولها الهيئة التي لا تتغير، فتهفو روح أحدهم عندما أحس بها حولهما بالمكان تستمع إلى حديثهما.

وضعت كفها الصغير في راحة أخيها؛ ليجذبها إليه طابعاً قبلة على منبت شعرها المزين بتاج من العاج مرصع بالزمرد والياقوت.

"راكان" بحب أخوي يشملها به، وذلك بعد أن تمرد الأخ الأكبر "أمان" ووقع مثل أبيه في غرام تلك الأنسية التي جعلته يترك كل شيء خلفه؛ ليعِش معها حياتها؛ خوفاً من أنت تنفره ما إن تعرف حقيقته ولولا هذا لصار "أمان" هو ملك العشيرة المفوض إذا هو الوحيد من بين أبناءه الثلاث الأحق بالتتويج كونه من سلالة هذه العشيرة أباً وأماً:

-أهلاً بأميرة الجن الضوئي "ألورا".

ترى ما قصة صفوان!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي