الفصل 15 عشق أسطوري

في قصر الملك الأشهب.
ما يجعل شيطانه مستكيناً، هو رفض أميرة الجن القمري وملكة عرش قلبه للزواج من أي مَن كان ممَن طلبوا وصالها، شاكراً بارئه على زهدها لأي علاقةٍ تربطها من بني جنسها؛ وإلا اضطر إلى تلبس رداء نصفه الشيطاني الذي يبغضه، مقسماً بربه الذي لا يشرك به أحد على إنه سيحرق الكون بما عليه، ولن تكن لغيره.

هو فقط مستسلمٌ للأمر الواقع ما دام ينعم برؤياها.

تعقيب ساخر آخر من "ألورا" على ردود "صفوان" المتحفظة، وهي تنظر إلى"راكان" بضيق:

-اللعنة "راكان"، سيفتضح أمرنا منذ أول دقيقة، أنا أريد التجول براحةٍ وسط البشر، لا أن أكون كالهواء بينهم، أرغب بتمضية بضعة أيام في سكينة بعيداً عن الحروب والنزاعات.

-و"صفوان" لن يخلع الطربوش المدلى من لسانه هذا.

-قل لي كيف يمكنه أن يتحكم بحاله، ولا يبدي طبيعته المخيفة ما إن يستفزه أحدٌ أو نقع بمشكلةٍ ما؟!

-هل من الأساس سيتخلى عن زيه الحربي هذا ودرعه وسيفه وتلك الخوذة التي تغطي نصف وجهه ولا يظهر منه سوى عينين فقط؛ ليرتد ملابس من هم في مثل عمره من بني البشر؟!

-فمائة عام لدينا بمثابة عشرة فقط لديهم.

- أي "صفوان" الجني ذو الثلاثمائة عام وأكثر سيغدو شاباً في الثلاثين من عمره.

-كيف سيتصرف؟! سيأكل بطرقهم!! سيتعامل بأسلوبهم!!

-حسناً "راكان" كنت ارفض منذ البداية، قبل أن تعاقبني بهذا الشكل.

وهنا ولم يتمالك "راكان" حاله من الضحك، وهو يصفق باستحسان لمَن أخذ الانتقاض على محمل الجد وفعل النقيض، لتلتفت "ألورا"؛ كي تتبين ما في الأمر، وما المدعاة لكل هذه الجلبة التي أحدثها الملك "راكان" متخلياً عن وقاره؟!

لتجد ما جعلها تفغر فاها على الأخير، وقد جحظت عيناها بدهشةٍ وانبهار، لمَن تخلى بالفعل عن زيه، بل عن تلك الهيئة كاملة.

يرتدي منطالاً من الچينز "الكاتينج"، وقميص باللون الأبيض مفتوحة أزراره الأولى لتظهر قوة عضلات صدره، وعنقه المحاط بسلسال فضي يتدلى منه رمز المملكة.

وعندما لم يصدر عنها ردة فعل، سمح "صفوان" لنفسه برفع بصره إليها، وما إن علت نظراتها إلى وجهه حتى كادت أن تصاب بالدوار، وبدأت عيناها تقطرا قلوباً، وشعرت وكأن هناك فراشات ترفرف بداخل قفصها الصدري.

فمَن يقف أمامها الآن بشعره البني المصفف بعناية وذقنه المشذب وعيناه اللتان تزينهما أهداباً داكنة، تبدو وكأنهما لؤلؤتان رماديتان أو كحجري قمر بداخل أصدافهما، هيئته تسلب الأنفاس.

اتسعت ابتسامته منكساً رأسه مرةً أخرى على استحياء زاده جاذبية، أو كان ينقصه سحراً على سحر طلته الرجولية الجذابة، ليُظهِر هذه الإطراقة الرصينة حتى يزداد افتتانها به.

"راكان" قاطعاً تأملاتها:

-انتبهي أنتِ عليه؛ حتى لا يعلق هو الآخر مع أنسية، يكفينا مَن واقعٌ لها بالفعل، ولا يريد الإفصاح عنها وكأنها إحدى حوريات الجنة.

لا تعلم لِم تشكلت بصدرها غصة حانقة، عندما أتى "راكان" على ذكر تلك الحبيبة المجهولة؛ لتنهر حالها، قائلة بينها وبين نفسها:

-ما بكِ "ألورا"؟! إنه "صفوان"!! "صفوان" نسل اللعينة "ريتا" إحدى شياطين الجن العاشق!!
-افيقي "ألورا".
              ________________
هناك في الأفق البعيد على متن طائرة سياحية أعلى مطار مالي الدولي، المطار الرئيسي في جزر المالديف بالمحيط الهندي الواقعة جهة الجنوب الغربي من الهند وسري لانكا في بحر أكاديف.

تلك السلسلة المكونة من ستةٍ وعشرين من الجزر المرجانية تمتد من  أتول إلى أدو أتول.

حيث الطبيعة الخلابة المليئة بالنخيل والزمرد الأخضر، وتحيط بها في تألق الشواطئ البيضاء المعزولة، بزرقة مياهها الدافئة.

وكذلك الشعاب المرجانية المتحلقة حول تلك الجزر والمتناثرة على أعالي رُباها، والتي تعد موطناً لمجموعةٍ متنوعة ووفيرة من الحياة البحرية، والدلافين المتراقصة بتلاعب تعلو قافزة مع كل موجة حائرة قادمة من على مدد البصر، كلها مناظر طبيعية رائعة تضفي مزيداً من الحالمية والسحر على المكان.

وبعد النداء الخاص بالهبوط أخذت المضيفة تمر بين الركاب، تناشدهم بربط أحزمة الأمان، فقد أوشكت الطائرة على أن تحط بأرض المطار.

حتى وصلت إلى المقعد الخاص ب"صفوان" وتجاوره "ألورا"؛ لتوجه المضيفة حديثها المنمق بلغتها الإنجليزية الطلقة لكليهما، ولكنها خصت "صفوان" بنظرات إعجابٍ، وتسبيلاتٍ متوالية، كما زادتها حرفياً في غنجها بغيةً في لفت انتباهه، قائلةً:

-أعتذر منكما هل يمكنكما ربط الأحزمة، أم تحتاجان إلى مساعدة؟!

بالطبع "ألورا" التي تهتم بممارسة تلك الحياة اكتسبت اللغة في وقت قصير للغاية، فحتماً قدرات هذه الفئة من المخلوقات تفوق قدرات البشر.

بينما مَن لم يشغل باله لا للأنس ولا لأحد سواها، لم يستوعب حرفاً مما قالته المضيفة.

فرفع بصره إليها بجبينٍ مقتضبٍ، لتتفهم تلك المضيفة التي لم تحد بنظراتها عنه منذ بداية الرحلة، فمالت إليه تعاونه في ذلك ومع انحناءها وفتحة الصدر الخاصة بزيها الرسمي والتي عمدت على فتح الزر الأول لتلك الفتحة المتسعة من الأساس، ظهر نهديها بسخاء.

فخفض "صفوان" رأسه يغض البصر عنها وكلما دنت إليه زاد حراكه الممتعض واتضحت عليه معالم الارتباك.

بينما انشغلت "ألورا" بإحكام غلق حزام الأمان الخاص بها، وعندما انتهت وبدأت تنتبه على ابتزال المضيفة؛ نهرتها بتلك الطلاسم اللغوية من وجهة نظر "صفوان"، وبالطبع لم يفهم على مَن استشاطت غضباً، ولا تعي لِم تملكها السخط والعداء لتلك المضيفة الحسناء وإن لم تفوقها جمالاً، قائلةً ببرود أجادت تقمصه:

-أنتِ!! ماذا تفعلين؟!

-ولِمَ كل هذا الاهتمام المبالغ به!!

-يمكنك الانصراف وأنا سأتولى مساعدة زوجي إذا لم يكن لديكِ مانعاً؟!

بعد أن استقامت المضيفة بوقفتها وقد بدت على ملامح وجهها الخيبة؛ إذ ظنته أعزباً، فلا وجود لخاتم زواج، قالت بحرج:

-أعتذر منكِ سيدتي، فقط أردت المساعدة.

ألقت المضيفة عبارتها وغادرت على الفور، فالتقط "صفوان" الذي لم يشغل بالاً لما دار طرفي الحزام التي كانت تمسك بهما المضيفة، قائلاً بتساؤلٍ ضجِر:

-ماذا أرادت تلك المرأة أن أفعل بهذه المشنقة؟! أنا لم أفهم شيئاً مما قالته تلك الوقحة!!

ناظرته بتسلية وقد أسعدها ما نعت به المضيفة، لترد على تساؤله بآخر:

-لِم تقول عنها هذا إنها قمة في الذوق وجميلة أيضاً؟!

"صفوان" بامتعاضٍ، ولازال يعبث بالحزام، يصب عليه كامل اهتمامه، يحاول تخمين فائدته أو كيفية استخدامه:

-أنا لا أتحدث عن جمالها، أنا أتحدث عن غنجها هذا وثيابها المكشوفة.

زمت "ألورا" شفتيها بغيظ تقول ببرود ظاهري:

-إذاً أنت تراها جميلة؟!

أجاب "صفوان" على الفور بما خطر على باله ويشعر به حقاً:

-أنا لا أرى جمالاً سوى في...

بتر "صفوان" آخر كلمة وهي "فيك" واستبدلها ب "مَن أحب"، ليصبح تعقيبه_ أنا لا أرى جمالاً سوى فيمَن أحب_ واختتمه سراً ب "أنتِ يا جاحدة".

رغبة مستميتة تآكلتها لمعرفة مَن صاحبة هذا الفيض من الحب التي خصها "صفوان" به، فسألته:

-أهي جميلة إلى هذا الحد!؟!

أجاب دون تردد، وهو يتهرب بنظراته منها يخفي لمعة الحزن التي شابت رماديتيه:

-بلا، فعندما وزع الله الجمال على جميع خلقه طمعت هي بالنصيب الأوفر.

"ألورا" بحالمية وإن اشتملت على بعض من الإثارة ارجعتها إلى الفضول ليس إلا، قائلة:

-يا الله "صفوان"، لا أصدق ما اسمعه منك الآن!! ألهذا الحد تحبها؟!

تحمحم وقد بدأ جبينه بالتعرق وهو يصرح بإبهامٍ:

-ومن قال أني أحبها؟! ما بي تخطى أعلى مراتب العشق.

انقطع حديثهما عندما أخذ "صفوان" يتلفت حوله بتيهٍ، أثناء هبوط الطائرة على أرض مطار "مالي" الدولي، وتلك الهزة أثارت الريبة بداخله، ولا يعلم لِم أصرت معشوقته "ألورا" الذهاب إلى هناك بتلك اللعنة.
فكان من الممكن الوصول إلى هذه البقعة النائية عن مملكتهم في لمح البصر.

وعندما رأت "ألورا" تجعد ملامح وجهه الوسيم الذي اختاره ليتهيأ به، وكان يخفيه عنها طوال القرن الماضي بأكمله بواسطة تلك الخوذة، سألته باستفسارٍ لين:

-ما بك "صفوان"؟! لا تقول أن لديك رهاب الطائرات أيها الجني؟!

قالتها بمشاكسة وأخذها على محمل الهجاء والاستنكار كونها نصف بشرية، وهو نصف شيطان؛ ليقول بامتعاض:

-حتى ولو كنت جني تمقطينه، فلدي أحاسيس وأشعر كأي كائن حي، حتى الحيوانات تتألم عندما يعاملها الآخرين بقسوة.

-وهذا لا يعني أنني لدي الرعاب أو الرهاب، أو أياً ما ذكرته تواً، أنا استغرب كل ما يدور ولِم الأنس يتعاملون مع بعضهم بكل هذا التملق؟!

-ما بي فقط دهشة، لعل ذلك التعقيب يجعلك تنظرين إلى القميء "صفوان" كونه مخلوق من خلق الله وليس شيء يتوجب عليكِ النفور منه.

ومن ثم أشاح بوجهه عنها بحزن، وهو يقول:

-أعتذر عن تجاوزي مولاتي.

هي لم تقصد، ولم تعلم لِم شعرت بالأسى حيال من أعتقدت أن لا قلب له.

ولكن على ما يبدو أن هذا الشيطان "صفوان" كما كانت تلقبه في السابق يشعر بالنبذ مثلما تشعر، أو كما يشعر كل المحيطين بها فهي منبوذة من نصفها البشري ولا تشعر بالانتماء إلى عشيرتها.

و"راكان" يشعر بالنقص ورفض والدته بالماضي له جعله يمقت البشر.

والخارجين من عشيرته يستاءون كون الملك الأعظم ولى عليهم من هو دونهم، وها هو "صفوان" يشعر بالخواء مثلها تماماً.

نظرت إليه "ألورا" بإشفاقٍ، وعندما ألقى على مسامعها لومه اجتاح الحزن أوصالها، وبإشاحة وجهه عنها أنَّت روحها وجعاً عليه.

ولكن طرأت لها خاطرة، إذ مالت إليه تمسك بطرفي حزام الأمان اللذان لازالت يداه قابضتيْن عليهما، يعتصرهما بين أنامله بعصبيةٍ مفرطة، وكأنه بهذا يهدأ من ثورة غضبه ويستدعي ثباته الانفعالي.

ولكن ما إن شعر "صفوان" بدنوها منه، ورأسها القريبة إلى ضلوعه، وخصلات شعرها التي لامست صدره بقميصه المفتوح هذا؛ حتى توقف قلبه عن العمل وغفى طنين نبضه لثانية، ومن ثم عاد ليهدر بقوة وكأنه "كلاشنكوف" تدوي أعيرته لتصم الآذان، وبات التنفس بشكل منتظم أمراً صعباً وشاق.
فما إن ارتد رأسه إليها حين استشعر قربها المهلك هذا، ومع أول نوبة شهيق خشى أن يُخْرِج هواء زفيره المحمل بعبقها؛ إذ ربما تبتعد ولن يحظ بطيب فوحها بصدره مرةً أخرى.

لا، حبيبتي!!
وملكة عرش قلب "صفوان" رفقاً بي حباً بالله، فإذا كان جفائكِ قاسٍ، فقربك مميت.

ومع ملامسة باطن راحتيها لظهر يديه القابضة على الحزام ما عاد العقل يتحكم بالعصب العضلي، إذ سقط ما بيده دون إرادة منه؛ لتضطر إلى أن تميل إليه أكثر حتى تستطع الإمساك بالطرف البعيد عنها، فأغمض عينيه يقترب منها بحظرٍ يملأ صدره بعبير نسيمها المعطر بانتشاء.

استماعها إلى قرع نبضاته المتعالية، ورعشة يديه أشعرتها بالذنب.
أهذا كله كون الطائرة على وشك الهبوط، شيء لايصدقه عقل، فإذا أخبرها أحدهم أن المحيط قد جف ماءه لصدقته، وما وارد على خاطرها ما تراه الآن!!

رفعت "ألورا" رأسها إليه بعد أن أحكمت غلق الحزام، ولقربه منها لامس شعرها، فجانب وجهها شفاهه بتمهلٍ فتاك؛ ليرتجف جسده بأكمله، ومرفقيه المستند بهما إلى متكأي المقعد قبضت راحتيهما على حافتيه بقوة وكأنه غريق في بحر عشقها ويديه مستمية على طوق النجاة.

زوت "ألورا" ما بين حاحبيها بدهشةٍ بالغة، وهي تسأله بتعجب:

-"صفوان"!! اهدأ، ما الداعي لكل هذا الخوف؟!

تنهيدةٌ حارة غادرت ضلوعه، وتلك ال"ألورا" خاصته تطالبه بأن يهدأ.
عن أي هدوء تتحدث؟!
أبعد سماع اسمه تنطقه شفاهها، وهذا القرب الذي انعش حواسه، تقول له اهدأ!!

ولكن عند كلمة خوف انتبهت نواجزه، فأفرج عن أهدابه، يقول باستياءٍ:

-"صفوان" لا يعرف الخوف، فالخوف بذاته يهابني.

ابتسمت "ألورا" لمكابرته، وسألته بعنادٍ مماثلٍ رافعة إحدى حاجبيها بتخابث:

-حقاً!! ولِمَ تنتفض إذاً؟!

أسبل أهدابه ولم يجب، ولكن الروح تصرخ مجيبة:

-منكِ.

وزادتها، وهي تبتسم ابتسامة ساخرة بزاوية فمها، تسأله بتحدٍ:

-ولِمَ يهدر قلبك بقوة؟!

التفت إليها، وعينيه تجيب بلسان حاله:

-لكِ.

ولكن هل تبصر؟! وعندما لم تتغير ردة فعلها الهازئة، ابتعد بنظراته عنها، وهو ينهر حاله:

-كفى "صفوان"، إلا هذا الحد ويكفيك هدر كرامة.

والذي يسلخ حاله ويلومها ما إن رفعت يدها إلى وجنته تدير رأسه إليها، حتى تخلَ عن كل وعدٍ قطعه الآن على نفسه، وبدأت وتيرة أنفاسه في التعالي.

ود لو يستطيع أن يرفع يده؛ ليثقل راحتها على جانب وجهه، ولكن كيف؟!
إنها الأميرة "ألورا"، وهو الشيطان "صفوان"!!

فما كان منه إلى أن أغمض عينيه يستمتع بنعومة باطن كفها الملامس لصدغه.

بينما قالت "ألورا" بلينٍ، ظناً منها أن امتناعه عن الرد؛ كونه أخذ مشاكستها مرة أخرى على محمل الاستهزاء والسخرية:

-لِمَ كل كلمة تأخذها بجدية، وتُقَلِبُها مستنبطاً معانٍ لا علاقة لها بما أقصده؟!

قلبه يتراقص طرباً، أحقاً ما سَمِع؟!
هل معنى ما تقوله الآن أنها تحاول مراضاته؟!
أم أنه يتوهم؟!

أفرج عن جفنيه يناظرها بعدم استيعاب، وعينيه تلمعان بهيامٍ ووله، ظنت "ألورا" بريقهما هذا طبيعياً، فتسائلت بفضول:

-"صفوان"، هل هذا لون عينيك الذي خُلِقت عليه؟!

أخفض بصره، يقول بحرجٍ، يحاول مدارة خجله وتلهفه أيضاً لإطالة الحديث معها، إذ ربما تنطق اسمه بنغم صوتها الناعم هذا مرةً أخرى متمنياً أن تفعلها مراتٍ ومرات:

-أجل مولاتي.

"ألورا" بمشاكسة:

-ولِمَ تتهرب بعينيك الساحرتين عني "صفوان"؟!

ماس كهربي زُرِع كابله بوريد "صفوان"، وهو لا يصدق ما تسمعه أذنيه، أتتغزل بعينيه وتتغنى باسمه في جملة واحدة؟!
هذا كثير!! فقلبه الصغير لا يحتمل.

أطرق "صفوان" رأسه بخجل يحاول تنظيم أنفاسه الثائرة، يجيب بثباتٍ جاهد في استحضاره:

-العفو مولاتي.

تأففت "ألورا"، قائلة بضجرٍ:

-أنا لم استنكر "صفوان"؛ لتطلب العفو، أنا أتسائل فقط.

أربعة!! أربعة "صفوان" في أقل من عشر دقائق، ليهتف قلبه مهللاً بأن اليوم لابد وأن يُخلد، نعم فهو يوم حظه.
رفع بصره إليها، قائلاً باستحياء:

-أعتذر إذا ضايقتكِ مولاتي.

"ألورا" بضيق:

-كف عن مناداتي بالألقاب، فقط "ألورا"، "ألورا" "صفوان".

صياح آخر: -الله أكبر!! الخامسة!! زيديني يا ملكة عرش قلب "صفوان".

أومأ بطاعة خشية من أن يرد بما يزيد من حنقها، فبدى ببراءة طفل صغير، لذا ابتسمت إليه بعذوبة أطاحت بعقله وقلبه؛ ليشخص بها وبسحر ابتسامتها وعينها، وتلك الشفاه التوتية المغوية.

يتسائل: - إذا كان هذا حاله لسماع اسمه من بينهما، فما باله لو.......

قطع تخيلاته المستحيلة وهو يزجر حاله:

-لا يشطح خيالك لبعيد "صفوان"، فليس لكونها تتحدث إليك الآن بلين فهذا يجعلك تُمني نفسك بأكثر من حديث!!

ويلك "صفوان"!! ما بكِ اليوم حبيبتي؟!

فها قد رفعت معذبة قلب "صفوان" راحتها بعد انسدال تتحسس جبينه الذي تندى بقطرات العرق، وذلك عندما لاحظت تصنمه، فقط ما يدل على أنه لازال حياً يرزق أنفاسه المتلاحقة وتفاحة آدم خاصته التي تتحرك صعوداً وهبوطاً كلما ابتلع رمقه.

ازدادت حالته سوءاً ما إن لمسته؛ لتبعد يدها على الفور أثر الحرارة الشديدة التي يصهد بها جبينه وسائر جسده، مجزمة أن ارتفاعها يتعدى ١٠٠ درجة سليزية أي تفوق درجة غليان الماء، ومع ذلك لا يظهر عليه أية أعراض أو حتى احمرار يعلو وجنتيه جراء هذا، كل الغريب في الأمر حالة التيه التي هو عليها الآن.

"ألورا" بقلقٍ حقيقي:

-ماذا يحدث معك "صفوان"؟!

"صفوان" بشرود:

-أنتِ.

تجعد جبينها ورددت بعدم فهم:

-أنا!! ما بي أنا؟! وما دخلي بما أنت فيه الآن؟! حرارتك عالية "صفوان"، اهدأ حباً في الله.

"صفوان" مغيباً، يقول بهيام:

-السابعة.

"ألورا" وهي تعتقد أنه يتحدث عن الوقت:

-إنها الخامسة.

انتبه "صفوان" على حاله، فأطرق رأسه يتحمحم مجلياً صوته:

-لا عليكِ مولاتي سأكون بخير.

ها قد حطت الطائرة بسلام على أرض المطار وبدأ الركاب بمغادرة مقاعدهم، و"صفوان" مثبتٌ بأرضه كما هو، ويداه تُقَلِّب قفل الحزام على كل جهة وبالأخير قرر تدميره، ضارباً الأرض بقدمه في غيظٍ وضيق، وكأنه طفلٌ ناقمٌ أراد شيئاً ولم يلبه والديه، لتنتفض التي استقامت من مقعدها تشرأب واقفة على أطراف أصابع قدميها؛ كي تَطَل حاوية المحفوظات الموجودة أعلى مقعده تُخرِج منها حقيبتين صغيرتين عائدتين إليهما.

فهي من وضعتهما بالداخل ما إن استقلا الطائرة مثلهما مثل أي ركاب عاديين، وبالطبع لم يكن هو الفاعل.
فمن أين له أن يعرف مكان الحاوية، أو فيما تستخدم!!
على أية حال هما حقيبتي يد ليس إلا، ولم تكن بحاجة لمعاونته في رفعهما، حتى ولو كانت إنسية فوزنهما لا يذكر، وما بهما يعتبر متعلقاتٍ شخصية مما قد يستخدمها أو يحوزها من هم على الطائرة في وضعهما، أما بشأن الثياب فما أن يريداها عليهما بالتمني وستتهيأ في الحال ولكنها اشترطت عليه أن يتعايشا هذه الأيام القليلة كبشرييْن عادييْن، لذا سيلجئا للتسوق.

وما إن دعس بباطن قدمه على خاصتها، حتى اختل توازنها وكادت أن تقع أرضاً، لولا أنه التقطها بين يديه، لتسقط جالسة على ساقيه يحاوط خصرها بذراعيه، ويدٍ ارتكزت بها على كتفه ويمينها أعلى صدره جهة اليسار.

تلاقت الأعين وتلاشت الأماكن، ومن حسن حظ "صفوان" أن الطائرة بدأت تخلو بالفعل من الركاب، ولكن لازال هناك الطيار بمقصورته، وكذلك المساعد والمضيفتين إذ لم ينتهوا بعد من عملهم بالداخل.

لا يريدها أن تبتعد بل يتمنى أن يقضي ما كتبه الله من عمر وهو جالس على هذه الحالة يحتويها بين ذراعيه، يهيم بسحر زرقة عينيها، ينعم بطراوة جسدها بين يديه، يراقب كل لفتة وهفوة ورمشة عين لها.

يتمتع بالنظر إليها ويشبع شوق القرون التي مضت وهو يخشى أن يرفع بصره إليها؛ حتى لا يعتمل ما يجيش بداخله الآن، وأيضاً كي لا يفتضح أمره للعيان فيأمر الملك الأعظم بنفيه أو نبذه.
لم يكن خوفه يوماً من العقاب ولكن مما سيترتب عليه.

أجل!! فنفيه يعني حرمانه منها.
ومن بعد الملك جاء رفيقه "راكان" الذي توسم فيه "صفوان" بصيرة الأب؛ لذا يبذل "صفوان" أقصى جهداً في حضرة الابن وأبيه؛ ليحجب عنهما أفكاره التي تدور عنها ولها.
فمهما كانت قدراتهما لن يستعصى على الشيطان "صفوان" منعهما من إختراق دواخله وبواطنه.

حاله وما يعتمل بداخله لم يدع له الفرصة ليلحظ ما جد عليها له، في السابق كانت تخشاه، وتنفر منه فطالما كان منذ الصغر برفقتهما بالقصر، إذ أمر الملك الأعظم بحرق هذه الشيطانة "ريتا".

ونفي أبيه الذي أعترف بذنبه أمام محكمة الجن العليا.
نعم فحبه لشيطانة ك"ريتا" وتكتمه على علاقته بها يعتبر بمثابة خيانة عظمى في عرف عشيرتهم.

وليس هذا فحسب، ولكن قَبِل أباه أن تحمل تلك الملعونة في أحشائها الدنسة نطفةً منه، وهذا كان مساعها، ابن من جني يُخْلق برحم نسل الأبالسة ولم يكن هذا مخططها وحدها.

وإنما مخطط "دهمان" اللعين؛ لتنعم قبائلهم بوليدٍ فريدٍ من نوعه يحمل  القوى الخارقة التي سيرثها من چينات الأب، والعقل الجهنمي وتفكير وخبث الأبالسة ومكرهم عن الأم.

وهذا ما اكتشفه الملك "الأشهب" قاطعاً الطريق على الخبيثين "دهمان" و"ريتا"، وذلك بأن آوى من طمع به "دهمان" وأنشأه على دين الله وطاعته لذا ربى "صفوان" على مبادئ مكتسبة آمن بها وانجذب إليها، فلنقل أنه خُيَّرَ وكان خياره الأصواب.

ولكن هذا لا يمنع ظهوره على شاكلة نصفه الآخر وذلك ما إن يتملكه الغضب، وهذا ما جعلها تنفره، إذ يصبح بلحظات فقدانه السيطرة جني بهيئة شيطانية مخيفة، في مزيج يجمع بين القوة والرهبة، باعثاً الرعب بداخل من حوله، لذا اختاره الملك "الأشهب" قائداً للجيوش ليكن وضع الملك الأعظم الجني الصحيح في المكان الصحيح.

أما عنها فهي على وشك أن تفقد صوابها!!
فمَن كان بالأمس مصدر رعبها، تستكين الآن بين أحضانه، ولا ترغب في أن تبرح مكانها، بل والأدهى أنها تتمنى لو تدنو إليه أكثر وأكثر، وذلك العطر الذي تعمد الجزء الخبيث منه استخدامه يعزز هذه الرغبة لديها.

أسبلت "ألورا" أهدابها بتيه، تستنشق طيبه الممزوج برائحة جسده الرجولية، فتبدد الخجل بداخله ما إن استشعر تأثرها به حتى ولو كان انجراف لحظي فالقليل منها أكثر ما يتمناه، إذ ظلت رماديته تتفرس بملامح وجهها تتنقل ما بين عينيها الرامشة بتشوشٍ، ووجنتيها المتوردتين، وشفاهها الشهية، وعنقها المرمري.

زافراً أنفاسه باشتهاء؛ عندما لاحظ صدرها الذي يعلو ويهبط ما بين شهيقٍ وزفير؛ لتعلُ نظراته الراصدة إلى وجهها مرةً أخرى، وهو يأسر عينيها بخاصته، ضاغطاً بلا وعي على خصرها يجذبها إليه.

ألحانٌ وأنغامٌ تشدو حوله، وعواصفٌ وزلزالٌ تعتمل بداخله، فمَن جرب حظه معها لم تنفر بل استجابت تميل إليه، وكلاهما يتنفس أنفاس الآخر.

وزيادة في فيضها عليه من النعيم، ارتفعت راحة يدها المستندة إلى صدره تحط بأريحية على جانب عنقه وإبهامها يتحرك مداعباً شعيرات ذقنه النامية بترددٍ مهلك مرسلاً ذبذباتٍ كهرومغناطيسية إلى جميع خلاياه تتجمع طاقتها في بؤرةٍ واحدة ألا وهي مضغته التي تعصف بجلبة.

أي نعيم هذا "صفوان"؟!
ما يحدث الآن لهو درب من دروب الجنون!!

يجاهد حاله أشد جهادٍ ألا يفعلها فإن اقترب، لن يقوَ على البعد، فها قد تعايش قرنين كاملين مع فكرة حبه المستحيل لا يطمح لشيء، ولم يسعَ حتى للفت انتباهها.
فمَن سيلفت الانتباه؟! "صفوان"!! المنبوذ "صفوان"!!

ابتعد يُطبق جفنيه بحدة، زافراً أنفاسه لأعلى محاولاً تنظيم وتيرتها، والسيطرة على عنفوان إحساسه بها.
ناعتاً حاله بالجبن.
"صفوان" الذي تهابه الشياطين والأبالسة، وترتعد لحضرته جيوش من معاشر الجن والمردة، جبانٌ في حبها؟!

وما إن استشعرت "ألورا" البرودة التي حلت بالأجواء من حولها جراء تراجعه، بدأ عقلها المغيب في العمل، تسب حالها بأبشع الصفات، وها قد توردت وجنتيها بخزي، تطرق رأسها باستحياء، فقرر إعفائها من الخجل، قائلاً:

-أعتذر مولاتي، لم أتعمد عرقلتكِ، أقسم على ذلك.

أومأت دون أن ترفع نظرها إليها، تهم من جلستها المخزية تلك، ولكن ذراعيه المحاوطتين لها بتملكٍ حالت دون ذلك، لتطالبه بحرجِ:

-"صفوان".

همهم بحالمية:

-أمممم.

فلازال "صفوان" تحت تأثير الحالة التي عصفت بكيانه، إذ لم يتغير شيءٌ بعد، فها هي بقربه تجلس بأريحية بين أحضانه وكأنها اعتادت على فعل ذلك، لا والأكثر روعة نطقها لاسمه على مقربة من مسامعه وللمرة الثامنة.

عاودت مناداته، ولا تعلم أتبتسم غبطة لما به؟! أم تمقت حالها وتبغضه؟! :

-"صفوان"، ابعد يديكَ.

رفع "صفوان" يديه عنها في وضعية الاستسلام، فماذا سيحلم "صفوان" بأكثر مما حظى وتلاه التاسعة؟!

حمدت الله على أنه أوقف هذه المهزلة وقبل خروج الطاقم الخاص بالطائرة من كابينة الطيار، إذ اقترب منهما هو وفريقه؛ ليتبين ما في الأمر، ويستعلم عن سبب تواجدهما للآن على متن الطائرة، فربما واجهتهما مشكلة أو ما شابه.

وليته لم يفعل؛ فبمجرد أن وقعت عيناه على تلك الحسناء حتى لمعت مقلتيه بإعجابٍ وانبهار لم تلحظه "ألورا"، ولكن ملاكها الحارس يرصد كل شيءٍ وبدقة.

وقبل أن تنبث شفاه هذا المسكين بحرف، لم يشعر إلا وكشاف إضاءة سقف الطائرة الذي يعلوه مباشرة يسقط بنظرة من عين "صفوان" على رأسه جاعلاً الدماء تنبثق منها بشكل اندهش له الجميع، وهم يشهقون بفزعٍ، يبتعدون بهلعٍ عن بؤرة السقوط.

ونظرات الحشد معلقة بالسقف، حتى من تسبب في ذلك يتابع معهم، يدعي البراءة و التفاجئ كمَن قتل القتيل ويقف ليأخذ عزائه.

رمقته "ألورا" بشك فما حدث ليس طبيعياً على الإطلاق، ومن ثم دنت إليه هامسة بجانب أذنه وأنفاسها التي لامست وجنته برقة أخمدت نيران غضبه من هذا المتبجح صاحب النظرات المعجبة.

ولنكن منصفين لا قِبَلَ لأنسي مثله بمجابهة الجني الأقوى على الإطلاق "صفوان".

عذره الوحيد أن هذا الطيار على جهالةٍ بالأمر؛ لذا اكتفى "صفوان" بهذا الجرح الذي سقط على إثره الطيار مغشياً عليه، وقد يحتاج بعد نقله من هنا إلى أن يخضع إلى جراحة تجميلية ليكن مجموع الغرز التي سيحيكها الجراح قد يصل إلى العشرين غرزة أو ربما أكثر من ذلك بخمسة إضافية ليس إلا.

كم أنت حنون وعطوف "صفوان"!!

"ألورا" بإتهام:

-ماذا فعلت "صفوان"؟!

تباً!! دعيني استمتع بقرب العاشرة، لِمَ ابتعدتِ يا ملكة الفؤاد؟!

زجرته بنظراتها، فرد مطرقاً رأسه يهزها مدعياً الحزن، قائلاً في تعاطفٍ زائف:

-لقد ظلمتني، أنا لم أفعل شيئاً، صدقيني.
-بل على العكس فهذا المسكين استدعى شفقتي مولاتي، ما حدث له قليل عليه.

تأفف بضجرٍ فالشيطان "صفوان" لا يجيد الكذب وها قد وقع بلسانه في الحديث، فعاود تصحيح ما قال:

-أعني كثير عليه، لكن ماذا بيدنا لنفعله، إنها إرادة الله.

رفعت راحتها تخفي ابتسامتها؛ لا إلا يلحظها الجمع، وهي تهمس:

-ونعم بالله، فكل شيء بإرادته ولكن كنت أنت السبب، صحيح؟!

تهرب بنظراته منه ينكس رأسه بخزي، وهو يحك مؤخرة عنقه في حركةٍ تنم عن الكذب، فلم تقوَ على تمالك حالها من الضحك، لذا مدت يدها تلتقط راحة يده تجذبه معها إلى خارج الطائرة.

بينما التهى فريق العمل بالطائرة في معاونة الطيار، فمنهم من هرع لإحضار حقيبة الإسعافات الأولية، وآخر إلى المقصورة ليتصل بأمن المطار طالباً سيارة مجهزة لنقله إلى مشفى المطار، وأخرى تحاول إيقاف النزيف لحين قدوم الدعم.

بينما مَن هرولا إلى سلم الطائرة ومنه إلى أرض المطار بإيدٍ متشابكة، في حين أن عُقِد قلبه براحتها لا يريد خلاصاً، يعدو وهي خلفه شاعراً بأنه أمتلك الدنيا وما عليها.

قانعاً وهو على أتم الاستعداد ليظل راكضاً إلى آخر العالم بشرط أن تبقَ معه تشاركه الطريق.

وبعد مسافةٍ لا بأس بها توقفت تلتقط أنفاسها، تحاول سل يدها من بين راحته، فلم يمانع وإنما نظر كلاً منهما إلى الآخر، ومن ثم انخرطا في نوبة ضحكٍ هيستيريا، وهو يميل بجذعه إلى الأمام مستنداً براحتيه إلى ركبتيه وتلك السعادة التي تجتاحه الآن لا قِبَل له بوصفها ولم تخطر يوماً بباله.

أما عنها فتشعر وكأنها تراه لأول مرة، وهي بالفعل كذلك، فقد ظل طوال هذه المدة يتجنبها ولا تعلم السبب!! وتتحاشاه؛ لخوفها منه.

ولكن "صفوان" الذي ينضح كل ما فيه برجولة جذابة، وابتسامته الصافية العذبة وهيئته الجديدة، بعيداً كل البعد عن الفكرة والشاكلة والشخص الذي ترسخت صورته بمخيلتها.
ولكن باتت شاغلتها الآن:

تُرى من هي تلك الحبيبة المجهولة؟!
ولِم تدور بداخلها التساؤلات عنها من الأساس؟!

على وعدٍ بلقاءٍ أكثر متعة، بانتظار تعليقاتكم وآرائكم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي