الفصل 7 جزر المالديف

ردت" ألورا" بخيبةٍ تصدع معها قلب العاشق:

-لا أريد "صفوان"، أريدك أنت أن تعلمني.

"راكان" بمهادنة:

-جربيه يا أميرة، وإذا فشل سيكن شرف تدريبكِ من نصيبي، فما مِن كائنٍ كان يمكنه رفض طلب من حسناء مثلك.

ابتسمت "ألورا" بزهوٍ، وهي تعقد يديها خلف ظهرها، تتمايل بغنج لإطراء أخيها المراعي، قائلة بطرب:

-آه منك "راكان"!! بارعٌ في الإقناع.

قهقه "راكان" على براءة وعذوبة تلك الجنية فعلاً وقولاً، ليقول من بين ضحكاته:

-وأنتِ فائقة الحسن "ألورا".

حلت انعقاد راحتيها، تضع طرف سبابتها بين شفاهها، وقبل أن تنطق بطلبها بأن يلازمها "صفوان" ولا يظهر معها للمحيطين.

إذ ستتنزه وكفى، وسترجأ أمر تعلم الفروسية؛ حتى تنتهِ شاغلة أخيها.

ولكن لم يمهلها فرصة للاعتراض، إذ هتف "راكان" بقائد الجيش "صفوان"، قائلاً بمرح صديق:

-اغثنِ "صفوان" بالله عليك، خذها إلى حيث تريد، فالأميرة يبدو أن جيناتها البشرية ستطفح علينا وتريد التنزه وقد ترغب بالتبضع.

انقشعت غمامة الحزن التي خيمت على معالم وجهها البديع، وهي تقول بدلالٍ:

-ولِم لا؟! سأذهب إلى التسوق وأشتري بعض الحلى والزينة.

جحظت أعين "راكان" بذهول، فجوهرة واحدة من المرصع بها تاجها، يشتري السوق الحرة بأكملها من بضائع ومحال، فهز رأسه بيأس معقباً:

-النساء لا يختلفن مهما كانت أجناسهن.

ومن ثم خاطب "صفوان" الشارد بعفوية أميرته، وذلك رغماً من أنه لم يرفع بصره إليها، حتى وهي تواليه ظهرها، بل ظل منكس الرأس يستمتع بنغم الكلمات ودلال النبرة، بينما قال "راكان" بتعاطفٍ:

-لك الله "صفوان".

ومن ثم استكمل بحنكة ملك:

-تنكرا ولا تلفتا الأنظار، لا أريد تشتتاً ولا تساؤلاتٍ، وتحصنا؛ لا إلا يتبعكما اللئيم "دهمان".

"صفوان" قائلاً بامتثال ف"راكان" ليس بحاجة إلى توصية ومَن غيره سيكون أميناً عليها؟! :

-سمعاً وطاعة مولاي الملك "راكان".

تمتم "صفوان" بينه وبين حاله:

-ليت تلك الغيداء تعلم ما ب "صفوان" من لهجٍ وعشقٍ يجعله على أتم الاستعداد للتضحية بروحه فداءً لدمعة حزن من عينيها القاتلتين شديدتي الزرقة.

فتلك الفاتنة بشعرها الأسود المموج بسلاسةٍ ونعومة، وبشرتها ناصعة البياض، لا يستطيع "صفوان" العيش بدونها.

وما يجعله مستكيناً، هو رفضها للزواج من أي مَن كان ممَن طلبوا وصالها، شاكراً بارئه على زهدها لأي علاقةٍ تربطها من بني جنسها؛ وإلا اضطر إلى تلبس رداء نصفه الشيطاني الذي يبغضه، مقسماً بربه الذي لا يشرك به أحد على إنه سيحرق الكون بما عليه، ولن تكن لغيره.

هو فقط مستسلمٌ للأمر الواقع ما دام ينعم برؤياها.

تعقيب ساخر آخر من "ألورا" على ردود "صفوان" المتحفظة، وهي تنظر إلى"راكان" بضيق:

-اللعنة "راكان"، سيفتضح أمرنا منذ أول دقيقة، أنا أريد التجول براحةٍ وسط البشر، لا أن أكون كالهواء بينهم، أرغب بتمضية بضعة أيام في سكينة بعيداً عن الحروب والنزاعات.

-و"صفوان" لن يخلع الطربوش المدلى من لسانه هذا.

-قل لي كيف يمكنه أن يتحكم بحاله، ولا يبدي طبيعته المخيفة ما إن يستفزه أحدٌ أو نقع بمشكلةٍ ما؟!

-هل من الأساس سيتخلى عن زيه الحربي هذا ودرعه وسيفه وتلك الخوذة التي تغطي نصف وجهه ولا يظهر منه سوى عينين فقط؛ ليرتد ملابس من هم في مثل عمره من بني البشر؟!

-فمائة عام لدينا بمثابة عشرة فقط لديهم.

- أي "صفوان" الجني ذو الثلاثمائة عام وأكثر سيغدو شاباً في الثلاثين من عمره.

-كيف سيتصرف؟! سيأكل بطرقهم!! سيتعامل بأسلوبهم!!

-حسناً "راكان" كنت ارفض منذ البداية، قبل أن تعاقبني بهذا الشكل.

وهنا ولم يتمالك "راكان" حاله من الضحك، وهو يصفق باستحسان لمَن أخذ الانتقاض على محمل الجد وفعل النقيض، لتلتفت "ألورا"؛ كي تتبين ما في الأمر، وما المدعاة لكل هذه الجلبة التي أحدثها الملك "راكان" متخلياً عن وقاره؟!

لتجد ما جعلها تفغر فاها على الأخير، وقد جحظت عيناها بدهشةٍ وانبهار، لمَن تخلى بالفعل عن زيه، بل عن تلك الهيئة كاملة.

يرتدي منطالاً من الچينز "الكاتينج"، وقميص باللون الأبيض مفتوحة أزراره الأولى لتظهر قوة عضلات صدره، وعنقه المحاط بسلسال فضي يتدلى منه رمز المملكة.

وعندما لم يصدر عنها ردة فعل، سمح "صفوان" لنفسه برفع بصره إليها، وما إن علت نظراتها إلى وجهه حتى كادت أن تصاب بالدوار، وبدأت عيناها تقطرا قلوباً، وشعرت وكأن هناك فراشات ترفرف بداخل قفصها الصدري.

فمَن يقف أمامها الآن بشعره البني المصفف بعناية وذقنه المشذب وعيناه اللتان تزينهما أهداباً داكنة، تبدو وكأنهما لؤلؤتان رماديتان أو كحجري قمر بداخل أصدافهما، هيئته تسلب الأنفاس.

اتسعت ابتسامته منكساً رأسه مرةً أخرى على استحياء زاده جاذبية، أو كان ينقصه سحراً على سحر طلته الرجولية الجذابة، ليُظهِر هذه الإطراقة الرصينة حتى يزداد افتتانها به.

"راكان" قاطعاً تأملاتها:

-انتبهي أنتِ عليه؛ حتى لا يعلق هو الآخر مع أنسية، يكفينا مَن واقعٌ لها بالفعل، ولا يريد الإفصاح عنها وكأنها إحدى حوريات الجنة.

لا تعلم لِم تشكلت بصدرها غصة حانقة، عندما أتى "راكان" على ذكر تلك الحبيبة المجهولة؛ لتنهر حالها، قائلة بينها وبين نفسها:

-ما بكِ "ألورا"؟! إنه "صفوان"!! "صفوان" نسل اللعينة "ريتا" إحدى شياطين الجن العاشق!!
-افيقي "ألورا".
              ________________
هناك في الأفق البعيد على متن طائرة سياحية أعلى مطار مالي الدولي، المطار الرئيسي في جزر المالديف بالمحيط الهندي الواقعة جهة الجنوب الغربي من الهند وسري لانكا في بحر أكاديف.

تلك السلسلة المكونة من ستةٍ وعشرين من الجزر المرجانية تمتد من  أتول إلى أدو أتول.

حيث الطبيعة الخلابة المليئة بالنخيل والزمرد الأخضر، وتحيط بها في تألق الشواطئ البيضاء المعزولة، بزرقة مياهها الدافئة.

وكذلك الشعاب المرجانية المتحلقة حول تلك الجزر والمتناثرة على أعالي رُباها، والتي تعد موطناً لمجموعةٍ متنوعة ووفيرة من الحياة البحرية، والدلافين المتراقصة بتلاعب تعلو قافزة مع كل موجة حائرة قادمة من على مدد البصر، كلها مناظر طبيعية رائعة تضفي مزيداً من الحالمية والسحر على المكان.

وبعد النداء الخاص بالهبوط أخذت المضيفة تمر بين الركاب، تناشدهم بربط أحزمة الأمان، فقد أوشكت الطائرة على أن تحط بأرض المطار.

حتى وصلت إلى المقعد الخاص ب"صفوان" وتجاوره "ألورا"؛ لتوجه المضيفة حديثها المنمق بلغتها الإنجليزية الطلقة لكليهما، ولكنها خصت "صفوان" بنظرات إعجابٍ، وتسبيلاتٍ متوالية، كما زادتها حرفياً في غنجها بغيةً في لفت انتباهه، قائلةً:

-أعتذر منكما هل يمكنكما ربط الأحزمة، أم تحتاجان إلى مساعدة؟!

هل سيستجيب العاشق إلى نجوى الدخيلة ؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي