الفصل11 الملك

ما نراه الآن بعيداً عن كل التوقعات طفرة لن تتخيلها،ولم يتهيئ عقلك بعد لاستيعابها عالم آخر ووجهة أخرى، هيا بنا؛ لنخض سوياً هذه التجربة وندعنا مما هو كائن لننطلق إلى ماهو خارج عن المألوف عالم مليء بالأسرار نبحر معاً إلى دنيا كل ما بها خارق للعادة، ولكن حاذر من أن تقع في بحور عشق تتوه خلالها عن أرض الواقع ستحبه مهما فعل هو تركيبة فريدة وصديقه أكثرهم غرابة على الإطلاق.

إذا وصفناه بالشموخ والكبرياء فنكن بذلك أبخسناه حقه، وإذا تحدثنا عن شخصيته وتلك الهالة التي تحيط به بالطبع لن نتقن الوصف، ولو جئنا على ذكر وسامته وجاذبيته سنكتب عنه قصائداً وأشعار، أما عن طبائعه ومكنوناته فهو محيرٌ للغاية؛ فتارةً تجده حنوناً مراعي، وتارةً أخرى حازم وصارم.

يسير بكبر وعظمة في بلاط استراحة الملك "طلخان" في زي فارسٍ مغوار، تشرأب لطلته الأعناق وتتفنن الأعين في دراسة كل لمحة ولفتة منه، إنه الملك "راكان".

"راكان" بحنكة سياسي مخضرم:

-السلام على من أتبع السلام، ممنون لترحيبك بزيارتي جلالة الملك "طلخان".

"طلخان" مجيباً بحاجبٍ مرفوع دهشة واستحسان؛ لحلو حديثه المنمق وكياسته.

فها هو قد أتى إليه، ولم يعطه فرصةً للتباهي بل ذكَّره بحفاوة استقباله لوزيره، وكذلك رد "طلخان" على طلب "راكان" لزيارته مع ذلك المرسل بالقبول المبتهج:

-نحن لم نحتفِ بك بعد، وإن كنت متعجباً لطلبك، فهذا لا ينفي إنه مرحب بك في أي وقت.

أومأ "راكان" بحبور، قائلاً بمديح:

-هذا المتوقع من ملكٍ عظيمٍ مثلك.
-أما عن سبب الزيارة فهو خيرٌ لكلنا.

أشار "طلخان" إلى أحد الوثائر الفخمة المحاكة من القطيفة الناعمة على يمينه، قائلاً بود:

-تفضل بالجلوس، القصر قصرك يا ملك "راكان".

طالما سمع "راكان" عن حكمة الملك "طلخان"، وترسخت تلك الفكرة لديه منذ أن قابله بعرس الأمير "نعمان" أمير مملكة الجن المائي.

ولِم لا وهو يستطيع الإطلاع على أفكاره؟!
ويرى بوضوح مدى إعجاب "طلخان" الظاهر على وجهه لشخص "راكان"، وهذا ما جعله يزداد ثقة.

وليس المقصود هنا ثقة "راكان" بحاله، لأننا لو تطرقنا إلى هذا قد نقع بحدود الشعرة الفاصلة بين الثقة والغرور، وكلاهما نقيضين.

الثقة تنبع من القوة والقدرة على الفعل وتحمل نتائجه والاستعداد لأي رد فعل من الطرف الآخر، إنما متصفي الغرور لا قِبَل لهم بشيء وإن فعلوا لن يصمدوا.

فجلوسه الآن أمام "طلخان" وبكل هذه الأريحية وعلى أرض الآخر ودون نظرة خوف وهيبة: "ثقة".

وما جاء في طلبه أقصى درجاتها اللا متناهية التي لن تجد مخلوق على وجه الأرض وأسفلها يمتلك الحد الأدنى مما يتمتع به "راكان" بخصوص هذه النقطة "الثقة".

أما في هذا الموقف فنحن نعني ب"ازداد ثقة" أي علم بأن طلبه لن يرد.

وهنا سنتطرق إلى الجن القمري، هذه الفئة من المخلوقات وملكهم "طلخان"، فهذا النوع من الجن يشبه كثيراً الإنس في هيئته.

كما أن ثمانين بالمائة منهم مسلمون، وعشرين بالمائة فقط شياطين، كما أن هذه العشيرة تأتي بالمرتبة الثانية بعد الجن الضوئي من حيث القدرات والطاقة.

وما لا يعرفه البعض أن هذين النوعين من عشائر الجن يمكنهم التزواج دون غيرهم من الأنواع الأخرى، وذلك إذا ما كانوا مسلمين ولكنهم يفضلون أن تكن زيجاتهم من نفس فصائلهم كبعض قبائل البشر يتزوجون فيما بينهم والخارج عن قانون القبيلة منبوذ.

أما الشياطين منهم فلا يتكاثرون إلا عن طريق القطط.؛ لذا ووفقا لتلك القواعد فطلب "راكان" للزواج من ابنة "طلخان"، أمراً كان "راكان" يتشكك بشأن وقوعه.
حتى وإن وافق "طلخان" من قبل على زواج ابنته الكبرى من الأمير "نعمان" أمير مملكة الجن المائي وملكها المستقبلي بعد تنحي الملك الأعظم كما الحال مع "راكان"؛ فهذا لا يعني حتمية القبول بزواج الصغرى من ملك الجن الضوئي.

تحمحم "راكان" يجلي صوته قائلاً، بعد أن جلس بخيلاء لا يخلو من الوقار بالمكان الذي أشار إليه "طلخان"، يستهل حديثه بالآتي:

-لابد وأن هناك بعض من هؤلاء الخنازير والقردة قد تجرؤا واستباحوا حدود مملكتك يا جلالة الملك.

نظرات الاستنكار المستاءة التي لاحت بمقلتي الملك" طلخان" تناقض الخيالات التي راودته الآن عن أحداث دارت بينه وبين خدام التحصين والتي تأكد صدق ما أقره راكان تواً.

لكن "راكان" عاد ليخفف وطئ ما قال؛ فهو آتٍ لتحالفٍ، وليس لتخالفٍ وعداء، لذا استكمل:

-جلالة الملك نحن وحدنا ولم أطلب زيارتك لأنتقدك حاشى لله؛ لقد جئت إليك لنجد حلاً لما نحن بصدده الآن.
_وإن كان تصريحك بتعدي هؤلاء الأوغاد تراه لا يصح، فأنا لن أخجل وأقولها.
_نعم، لقد قبضت على "دهمان" وأتباعه على حدود مملكتي.
_وإذا كان خدام تحصين مملكة الجن القمري يمتلكون قوى السحر والتعاويذ الخاصة به.

- فنحن نسل من عاشروا أشرف الخلق.

- وتحصيننا بآيات الذكر وخدام القرآن الكريم لا يقهروا، ومع ذلك تجاوزوا حدود مملكتي بالأراضي المقدسة.

-لقد اخترقوا بلاد الحجاز .

-وهذا ليس خطر علينا فقط، لا، وعلى بني آدم، وعلى كل ممالك الجن المعادين لهم.

-فعلى ما يبدو أنهم تحالفوا مع شيطانهم الأعظم ليتلبسوا بعض من الجن والحراس على حدود المملكتين أو الخارجين لهدف، فيخرج الحدود جني من عشائرنا ويعود جني يتلبسه شيطان رچيم.

-وما نفعله الآن خطأ أعظم، أن نسكت ونتكتم على كارثة كهذه، لهو أكثر الأمور فداحة.

ومن ثم ثبت "راكان" نظراته إلى عيني الآخر يقول بإقرار لم يخفَ على "طلخان" كتأكيد منه على أن الابن يمتلك قدرات أبيه:

-ما فعلته مع خدام تحصينك، "دهمان" وأتباعه أحق به جلالة الملك.

-خدامك لم يقصروا.

-الخطر أكبر من خيانة تابعينا وإذا ظللنا نضرب بيد من حديد على الذيل ستظل الرأس تدبر.

أطرق "طلخان" رأسه بوجوم، فها ذا "راكان" الشاب صاحب الثلاثمائة عام مقارنة بسنوات عمره التي تخطت السبعمائة عام.
يلفت نظره إلى كونه ظلم خدَّامه وأمر بسلسلتهم بأغلال من سجيل وحجزهم إلى سابع أرض.

وعند تلك الخاطرة، أردف "راكان" يطرق على الحديد وهو ساخن:

-الأمر لم يخرج من يدك.

- افرج عن خدامك المخلصين؛ لا إلا تتهمك العشيرة بالظلم والجور جلالة الملك.

ها قد أتضحت الرؤية كاملة أمام "طلخان".

فما من أحد يعلم بشأن معاقبة الخدم، ولم تأتِ قسوة عقابه هذه المرة بذهن أحد سواه لا قبل الآن ،ولا يوجد غيرهما تواً ليقرأ ما بذهنه ليُعلم به "راكان"؛ إذاً فلابد وأن ما أشاعه "راكان" عن نفسه صحيح، ليجب "راكان" مقصراً عليه الطريق، يقطع الشك باليقين:

-نعم، صحيح جلالتك.

رفع "طلخان" بصره إليه، قائلاً:

-هات ما عندك يا ملك عشيرتك والأحق بالملك؟

"راكان" بانتشاء مجيباً بإيجاز:

-تحالف.

قطب "طلخان" جبينه، متسائلاً بعدم استدراك:

-أي نوع من التحالف تقصد؟!

"راكان" بتطميع وترغيب:

-لا نوع محدد، تحالف على كل شاكلة، تحالف لا يمكن بعده الإيقاع بثلاثتنا.

تباً!! لم يستوعب "طلخان" بعد ما يريد أن يصل إليه هذا الذئب، ولا إلم يرمي بقوله ثلاثتنا، ليجتسه "راكان" من تخبطه قائلاً:

-التحالف الذي سيبدأ بينا إذا اتفقنا الآن سيربطنا بطرفٍ ثالث أنت مرتبطٌ به من الأساس.

تأفف "طلخان" بضجر، قائلاً:

-أكشف أوراقك كاملة "راكان"، لقد آمنت بقدراتك وانتهينا يا ملك، فلا تقطرني بالحديث، نفذ صبري.

ابتسم "راكان" برحابة، ولِم لا؟! فقد بلغ عنصر التشويق مبلغه من حليفه الجديد وأثمر بنتاجه؛ لذا قال مطلبه بصيغة الأمر المباشر:

-ستزوجني ابنتك.

-وقبل أن تجيب، ودون تجريح مني خذ ما سأقوله ووازنه، إذا تمت هذه الزيجة سأكون وقتها ولدك الذي لم تنجبه، وأتمنى أن يمد الله بعمرك ولكن من منا خالد.

-فكر في شتات رعيتك من بعدك، لن يقبلوا بفتاة تحكمهم وإن قبلوا ستدخل الفتنة بينهم من قِبَل أتباع هؤلاء الغيلان والمردة.

-وأنا مثال حي أمامك، قَطعاً سمعت بمعارضة فئة من عشيرتي لتنصيبي ملكاً عليهم بعد انشقاق أخي "أمان".

-وحتى لا ترهق ذاتك بالتفكير، الثالث في هذه الحالة سيكون الضلع الذي سيغلق الطريق على مثلثنا وهو صهرنا "نعمان".

تهللت أسارير الملك "طلخان" ولم يُخفِ ذلك؛ فعلى أية حال هو مكشوف بالنسبة ل"راكان"، ولكان سؤال جال بخلده، لم ينتظر "راكان" حتى يطرحه، فأجاب:

-سأخبرك بعائد التحالف جلالة الملك.

-التحصين بالسحر الذي يجيده خدامك، والتحصين الروحاني الذي يبرع به خدامي لو دمجناه مع قوى الجان المائي وتحصينهم وقوة الجان الضوئي بقيادتي لن يقدر على اختراقنا لا "دهمان" ولا "إبليس" شيطانهم الأعظم.

نظرات استحسان لاحت بعيني ملك الجان القمري، وقول لم يقاطعه "راكان" هذه المرة:

-أنت لا تقاوم "راكان"، دعنِ أشيد بذكائك وقدراتك.

-اتفقنا جلالة الملك؛ فنسبك شرف لي ولعشيرتي جمعاء، وأضمن لك ولاء صهري "نعمان"، ولكن تبقى المعضلة......

بتر "راكان" عبارة "طلخان"، قائلاً بثقة:

-استدعها، ستقبل.

"طلخان" مردفاً:

-لا أعتقد لقد رفضت الزواج من قبل، وجلالتك تعرف.........

"راكان" مقاطعاً:

-أعلم قانون الزواج لديكم.

-إذ لابد وأن تقبل الأميرة تلك الزيجة بالرضى حتى تهب نفسها لي وإلا كان الزواج باطلاً بعرفكم، فعلى أية حال هذه أعرافنا أيضاً، فهبة النفس لا جبر فيها.

-توكل على الله واستدعها.

طرقعة إبهام وسبابة من يسرى الملك "طلخان" ظهر على إثرها من اللاشيء أحد خدام القصر، ليقول ملك الجان القمري بأمر موجز:

-ارسل إحدى التابعات تستدعي الأميرة "يامور" بالتو واللحظة أينما كانت.

الخادم برأس منكس احتراماً للملك وضيفه، قائلاً:

-نافذ أمرك جلالة الملك "طلخان".

قالها ومن ثم أختفى كما حضَّره الملك "طلخان" بطرقعة أخرى.

ترى ستكون أميرة الجن القمري هي الملكة المنتظرة لقلب هذا الطاغية؟
               
في انتظار تعليقاتكم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي