الفصل 21 حفل غنائي

عزيزي الرجل:
لا تهدد سلام إحداهن بكلمة حبٍ إذا لم تكن مؤهلٌ لهكذا عهد، فيأتيك قلبها خاضعاً لمعسول زيفك، فتتجبر بحجة أنها انقادت إليك، ظناً منك أنه روع أمنها غيرك، تلك حججٌ واهية.

فما هي بمريمٍ وما أنت بيوسف!!

احذر إذ يأتيك القدر بمن تصنع لأقرنائك عِقداً تتقلده، ترسم لك أحلاماٌ كبقايا الثرى الذي نثرته على مثيلتها وأنت غافلٌ أيها الأبله.

كلمة أحبكِ ميثاقٌ ووعد فلا تُدرجها تحت بنودِ التسلية.

وأخيراً إذا أردتها عذراء المشاعر فابحث عن مثلية القلب.
                _____________
أناملُ فنانٍ بارع تتلاعب بأوتار آلة موسيقية، وصوتٍ كرواني يصدح صداه بالأرجاء، الجميع في حالة سُبات وكأنما على رؤسهم الطير أو كمن سُلِبت عقولهم على الأخير.

تلك النغمات الرنانة تُضْرب بحرفية وإتقان على نمارق الحرمان، وكلمات الغنوة المؤداة تُجسد ما بناشدها من عذابٍ ومعاناة، والمؤدي قد تفوق على أقرانه في إيصال إحساسه النابع من مأساةٍ حقيقية عايشها بالفعل.

الحزن مخيم على ملامح وجهه ببشرته الحنطية، والأنين يطل من عينين سوادهما أشد حلكة من سماء ليل قمرها غاب عنها في خسوف كلي.

هذا الألم المتمثل بوضوح على هيئته وعمق صوته المؤثر شاع وَجْدَه على جميع الحاضرين بل على الأجواء أكملها، وذلك بالرغم من حالة اللاوعي التي هو عليها الآن.

إلا أن ما يبثه تواً لمتابعيه لا غبارٌ عليه، فمَن يتغنى بتلك الكلمات التي تقشعر لعمقها الأبدان وترتجف لمكنوناتها الأفئدة والأوصال وبهذا الصوت الشجي، قطعاً فنانٌ مرهف.
إنه "دي إتش مان" هذا الوسيم ذو الجسد الرياضي المُعضل بتناسقٍ غير مهيب.

في البداية كان لحن أغنيته الحزينة يتهادى برتمٍ ونغماتٍ منخفضةٍ ناعمة، وهو يتمايل بوقارٍ مع اللحن، وانسجام جمهوره أصبح حافزاً له؛ كي يمنحهم المزيد.

ومن ثم زادت الحماسة وضج بالأرجاء صياح الشباب وصافرات التشجيع دليل على تأثرهم بما يؤديه، وذلك عندما علا صوته بالشدو تزامناً مع ارتفاع وتيرة وقوة اللحن.

في هذه الأثناء تقدم إلى المسرح واحدٌ من الفتية يلقي إليه قدحاً من الجعة سهل الفتح، فالتقطه "دي إتش" بمهارة، وهو يؤشر إلى فرقته بأن يكرروا المقطع السابق لحين انتهاءه من فتح العبوة، رافعاً إياها إلى فمه، يدعي ارتشافه منها، فيحذو الشباب الحاضرين لهذا الحفل الموسيقي حذوه، وسيلحق بهم من سيتابعوا البث الفضائي المسجل بعد انتهاء عرضه الحي مباشرةً على القنوات الفضائية المختصة بالفنون والغناء  داخل الولاية وخارجها بل بجميع أنحاء العالم ، ومن ذا الذي لا يعرف "دي إتش مان" أسطورة الغناء والطرب بأنواعه الشرقي والغربي.

أما عن الفتيات الحاضرات لهذا الحفل، فقد بدأت أعينهن تقطر قلوباً إعجاباً به وحباً لتلك الهالة التي تحيطه، وهن يتابعن عن كثب هذا الوسيم الأكثر شهرة من بين مطربي عصره من الشباب.

استكمل "دي إتش" عرضه الغنائي، وعندما ظهرت عليه علامات السكر المصطنع، بدأ في إقران غناءه الطربي الذي زاد صخبه بحركاتٍ إيقاعية تتناغم مع اللحن يؤديها بمهارة ورشاقة.

هذا بعد أن خلع عنه طوق "جيتاره"؛ كي ينزع هذا القميص القطني الذي يرتديه لتظهر من أسفله عضلات ذراعيه وعظمتي الطرقوة خاصته اللتان أبرزتهما للرائين تلك السترة الداخلية ذات العلامة التجارية الشهيرة بحملاتيها العريضتين التي تستر جزءه العلوي.

وهذا الوشم الذي يحمل رمز القوة وهو ثعبان "الكوبرا" المرسوم ببراعة على طول ذراعه الأيسر يعطيه مظهراً أكثر جاذبية، وبرغم من غرابة اعتماده هذا الوشم مقارنةً بحالمية ورومانسية ما يؤديه ولكن الأكثر عجباً أنه لم يختره ولم يلجأ لأحد كي يدقه له بل وُلِد موشوماً به.

وهناك قلادة تُطَوِّق عنقه وتعمد خلع سترته؛ كي يُسَلَّط الضوء عليها، إذ أن هذه القلادة تشبه تلك التي يقتنيها عبدة الشيطان.

"دي إتش مان" وإن كان يتقلد تلك اللعنة التي يرتديها هؤلاء المغيبين ولكنه يؤمن بأن الله وحده لا شريك له هو الأحق بالعبادة.

وإن كان يدعي الثمالة وهو لا يعاقر الخمر؛ ذلك حتى يسلك الآخرين نهجه، ولكنه يخاف الله.

وإن كان يُعَلِّقُ الفتيات به ويستقطبهن؛ كي تأتيه واحدة تلو الأخرى طالبةً رفقته، ولكنه أبداً لم ولن تُذل قدماه في طريق الزنى؛ فهو أشد الكبائر ذنباً لدى المولى عز وجل بعد الشرك به.

أسمعت يوماً عمن يحض الناس على فعل كل الموبيقات وينأى  بحاله عنها ولا يقربها؟

إنه هو مَن يزين إلى غيره الفسوق ولاينتهجه.

يُحرِّض على السلب والنهب، ويحث على الكذب والقتل، ويقود من وقع بفخه إلى فعل تلك المحرمات ولا يَعْمَدُها !!

إنه خلقٌ من عباد الله سبحانه وتعالى، خالف أمر من أوامره، ولكنه يعلم بوجوده، يخشى لقاءه، يهاب عقابه، ومع هذا يغوي سائر خلقه ممَن امتثلوا؛ ليلقوا نفس مصيره.

إنه طريد الجنة، مقصي الرحمة، منبوذ مغفرة الله التي وسعت كل شيء إلا هو ونسله، وها نحن أمام من هو أقرب سلالته إليه، إنه "دي إتش مان" أو لنقل "دهمان".

تناقضٌ كلي يشوب هذه العشيرة من المخلوقات  بين ما يفعلوه وما يؤمنوا به، إذ أن إبليس كبير الشياطين كان واحد من الجان العابدين لله، ولتوحيده وعبادته الخالصة لجلال وجهه العظيم كرمه الله بأن رفعه إلى الملأ الأعلى، وهذا ما نص عليه القرآن الكريم "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه".

لحظة إدراك!! ففي الآية السابقة جملة خبرية ألا وهي "إذ قلنا للملائكة" !!
أي أن الله سبحانه وتعالى يخاطب فئة من خلقه ألا وهم الملائكة وإبليس مَعْنيٌّ معهم بالقول، وأعطى جلاله الأمر لهم بالسجود لأبو البشر سيدنا" آدم" عليه السلام، فكانت الطاعة واجبة على الملائكة الذين تلقوا الأمر والجان العابد الناسك من بينهم إبليس، ولكن الكل لبى إلا إبليس، فسق عن أمر ربه أي امتنع عن التنفيذ وإبداء الولاء والطاعة.

وما نعنيه هنا أن من يوسوس لنسل آدم لا يسلك مسلكهم فهو لا ينكر الألوهية بل كان عابد في منزلة الملائكة، كل عداوته موجهة إلى مَن جعلوه منبوذاً من رحمة الله، ألا وهم نحن البشر.

وها نحن أمام أكثرهم شراً، فالنساء لعبته، ودمار قلوبهن شاغلته، كل أنثى مهما كان جنسها حشرة وأقل شأنٍ من هذا الكائن الضعيف فهناك بعض من الحشرات النافعة، ولكن ما هو العائد من تلك الكائنات غير المجدية ألا وهي كل مؤنث؟! كلها تساؤلات ساخرة وهذا هو معنى كلمة أنثى من منظوره.

علت على ثغره ابتسامة تهكمية وهو يرمق كل "كابلز" من المتابعين، زاجراً ذكره ولسان حاله يهاجمهم، مُصرِّحاً:

حسناً، أبناء آدم من الذكور ، أنتم تجدون لهن جدوى، فهن وعاء لنطفة ماءكم.

ولكن لعشيرة "دي إتش" غير ذوات أهمية، فيمكن لذكور فصيلته أن يطئوا الدواب والقطط ومنهم مَن يُلقح ذاتياً.

-أنت كاذب "دي إتش".

هذا ما صرخ به عقله، مستأنفاً تعنيفه للذات:

-إذا كن غير مجديات ووجودهن من عدمه لا يؤثر؛ لِمَ أنت هنا الآن تنعي خواء قلبك؟!

خر راكعاً على ركبتيه وصوته الذي اختنق بالعبرات وهو يختم غنوته بآخر مقطعاً، جعل المصطفين أمامه أسفل المنصة التي يعتليها ينهار بعضهم باكياً تضامناً مع حالته التي لا يعلموا عنها شيئاً، والبعض يصفق بحرارة.

وآخرون ممن جاءوا برفقة حبيباتهم يضمونهن إليهم خوفاً من ألم الفراق الذي قد يلحق بهم، والعظة ممَن يجتوي أمام الجمع من ظلم الحبيب، ألا وهو "دي إتش مان".

الله وحده أعلم من الظالم ومن المظلوم في قصة شيطاننا الأوعر "دهمان".

وكان آخر ما نطقه في شدوه يشوبه جرعات الضنى:

-نهيتكِ فابتعدتِ، وعن قلبي نأيتِ، ماذا كان عذركِ؟! فبهجري احترقتِ.

ومع آخر كلمة، وفي وسط اتقاد الجمهور وتحيتهم له، وورود تراشقت من كل حدب وصوب تنهال عليه من المقصورات العلوية التي يشغرها الصفوة، حتى بدى كملاكٍ تمطر عليه السماء أزهاراً وهو أبعد ما يكون عن ذلك.

انقطع التيار الكهربائي فجأة، فساد المكان ظلام حالك، وتَوقُف مكبرات الصوت أصدر صفيراً مزعجاً جعل الأغلبية يرفعون كفوفهم يصمون بها مسامعهم.

بينما من لم تهتز شعرة في بدنه أثار سخطه شيء أبعد ما يكون عما باغت الجمع وهالهم.

كل هذا لم يشغل "دي إتش" بالاً له، فالعواء أصوات أتباعه الذين يتهيئون في صورة كلاب سوداء مرورها بالمصلى ينقطع له النُّسُك، فهل سيتأذى من صفير آلة؟!

الغسق وليفه، والدجى سكينته، والطسم غشاء بصيرته، الكبر والخيلاء صفاته الغريزية إذ رفض أصله السجود لمُن خُلق من الطين، وحجته أنه يرى أن تكوينه أعلى وأرقى؛ فهو مخلوق من نار، بينما من خلقهم القادر من نور وهم الملائكة امتثلوا لأمر بارئهم ولم يجادلوا.

الفتنة مسلكه، والخديعة داءه، والوسواس أسلوب حياته، يَزِج ولا يُزَج، يقود ولا ينقاد، لا سلطان عليه من خلقٍ إلا ضعاف النفوس والإيمان.

عودة إلى ما ضاج منه سليل نسل الأبالسة، فعندما حل السواد القاتم بالأفق القريب جراء توقف مولد الطاقة استمع إلى نفر من أفراد فرقته الموسيقية يتمتم بذكر الله والصلاة على المصطفى.

تلك الفرقة التي اشترط على مدير أعماله جمعها من ماجوسي الهند، معللاً تميز هذا الشعب بحسه الفني، وشريطة ديانتهم بررها كون أمه المزعومة كانت تتبع معتقداتهم.

ولكن ما مَن أحد ممَن يعاملوه يعرفون له ملة، ولا أي دين يتبع.

وبأي لقاءٍ صحفي يُموِّه محاوره عندما يستنبط من حياده عن مجرى الحديث من الفن إلى النواحي الشخصية بغرض الخوض في هذا الجانب الذي يخفيه، مقوماً الانجراف المتعمد لمقدم البرنامج في بعض الأحيان، قاطعاً عليه السبل حتى لا يتطرق إلى ميوله الدينية وعقائده.

ألقى "دهمان" ال "جيتار" من يده بحدة بعد أن خلعه عن رقبته، وهو يتوجه صوب الصوت يعرف وجهته برغم العتمة السائدة، ممسك بتلابيب هذا الذي لا يتمكن من كشف كف يده من الدجنة التي حجبت الرؤية كلياً، ولا يعرف لدافعه هوية.

ولكنه علم من صوت فحيحه مَن هو، وذلك عندما اقترب ممسكاً به وكأنه لصٌ ضبط بنهيبته تجاه خيال رجل يقف منزوياً بأحد أركان المسرح خلف الكواليس، يقول بانزعاجٍ:

-القِ بهذا خارج المكان الذي أتواجد به، فلا عمل له معي.

رد عليه "ديڤيد" مدير أعماله، يحاول تهدأته؛ ليتبين من آمره ما فعل المقصود بطرده أو يتقصى عن شخصه على الأقل حتى ما إذا عاد الضوء يعرف مَن عليه إقصاءه من فريق العمل، فالكل متخبط ولا أحد يمكنه التمييز في ظل الوضع الحالي.

"ديڤيد" بمهادنة:

-اهدأ "دي"، واعلمني ماذا صدر منه، أو تمهل لحين يعمل الشباب على إصلاح عطل المولد الكهربائي؛ كي أعرف مَن المعني بالطرد.

هدر به "دهمان" بنبرةٍ غير قابلة للنقاش:

-لا جدال، ولست ملزماً بإبداء أسبابي، ولن يمكث هذا هنا لحظة أخرى.

-شغل كشاف هاتفك، وخذه من أمامي الآن حتى لا اضطر لطرد كلاكما.

ثوانٍ وكان كل مَن بالمحيط يُفَعِّلون إضاءة هواتفهم حتى اتضحت الرؤية بعض الشيء، فظهر وجه من صب "دهمان" جم غضبه عليه، وعندها توجه "ديفيد" بسؤاله وهو يركز الضوء المنبعث من جواله؛ ليزداد صدق حدثه:

-ماذا فعلت "إبرام"؟! أنت آخر شخص كنت أتوقع أن يبدر منه شيء يعكر صفو "دي"!!

"إبرام" بتأتأة:

-س.. سيد "ديڤيد"، أ.. أنا لم أفعل شيئاً، وأنت تعلم بأنني في أَمَس الحاجة إلى العمل.

قلب "دهمان" عينيه بمللٍ، يبتسم ساخرا، يعقب بسفورٍ وتهكم:

-وما دخلي أنا بمشاكلك ووضعك المادي، هل قال لك أحد أنني صاحب مؤسسة خيرية، وأنت "ديڤيد"، ألم تستمع إلى ما أمرتك به؟! قلت لا جدال!!

-وإذا كان لديك رغبة مُلِحة لمعرفة سر القنبلة الذرية؛ اغربا عن وجهي أنتما الاثنان بل رجعة.

قالها ومن ثم والهما ظهره يعود إلى منتصف المسرح وها قد صدحت الكشافات العلوية للاستاد المغطى المقام به الحفل دليلاً على نجاح عمال الصيانة في إصلاح العطل، ومع مطالبة المحتشدين بإعادة الأغنية أشار "دي إتش" إلى مايسترو الفرقة الذي لبى على الفور.

مر ما حدث مع زميلهم ولم يتجرأ أحدهم على التدخل أو الاعتراض، وهم على يقين تام أن هذا ال "دي إتش" لن يتراجع عن قراره ظناً منهم أن ما به تعسفاً.

و لكنهم لم ولن يتخيلوا أن رب عملهم لا شيء يبغضه قدر رؤياه لمَن تعطر لسانه بذكر إله العالمين ومن اصطفاه، حتى وإن علموا لن يفرق هذا كثيراً فهم أيضاً لهم معتقداتهم التي ينتهجونها، وإن خسر "إبرام" عمله، يكفيه أن قلبه عامر بالإيمان.

عاود جرحه المتقيح النزف، وذلك عندما بدأ الغناء مجدداً لكلمات من تأليفه ولحن من توزيعه، كل هذا الإبداع من وحي وإلهام قصة عشق برغم من مرور أعوامٍ وقرون عليها إلا إنها لا زالت خالدة بروحٍ زادت قنوطاً مما خُلِقت عليه.

بعد ساعة ونصف من الغناء المتواصل قاد فيها متابعيه إلى ما يهواه وكأنه برمج عقولهم على الأخير، وقلادته الشيطانية صارت "style" جذب به الانتباه ليقرر البعض اقتناء مثيلتها.

فما بها إذا كانوا سيحذون حذوه؟!
إذ أن الفنان المبدع "دي إتش" واحد من طائفة عبدة الشيطان، ولا يعلمون بأنه الشيطان ذاته.

وكذلك ذاك الوشم الذي صار مطلباً من كل العاملين بهذه الحرفة ففور انتهاء الحفل وبعد أن انفض الجمع، توجه البعض إلى محال تختص بدق الأوشمة ليُنْسخ لهم الحِرَفيّ مثيل لخاصة ال "دي إتش" على أذرعهم وبنفس المكان.

أما عن القلادة، فهناك من وكله "دهمان" لبيع عدد لا بأس به منها أمام الاستاد، وبالطبع كلها أُلقيت عليها تعويذة يحفظها "دهمان" عن ظهر قلب، فما إن يتقلدها مقتنيها حتى يُسَلط عليه قرينه السفلي ويتمكن منه فيصبح هذا المُقلد الأعمى أسير شيطانه.

كما قال المولى عز وجل:

" من يغش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين".

فلكل إنسان منا شيطانه الذي يلازمه ولا يفارقه وتلك هي الخية التي حاكها إبليس ونسله وأوليائه من البشر؛ كي يَلقى ابن آدم نفس مصيره، ولكنه أبداً لن يفلح إلا إذا غفل المستهدف منا عن ذكر الله، حتى حبيبنا المصطفى عندما سُئل عن قرينه، أوحى له الله بقوله:

"ما منكم من أحدٍ إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة.
قالوا: وإياك يا رسول الله؟!
قال: وإياي، لكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير".

لحظة إدراك!!
لكن الله أعانني عليه، فأسلم!!
فبهذا القول تصريح من أشرف الخلق بأن الله جعله رحمة للعالمين، ولم يختص المولى عز وجل قوله واقتصره بجعله رحمة للبشرية، بل لجميع خلقه فهناك طوائف من الجن عاشرت هدي المصطفى وآمنت على يديه.

وما إبليس إلا أصل الجن فشتَ بعض من نسله ليحظَ برحمة الله، فصار من ماء ظهره أعداء له وصدق القول "يخلق من ظهر الفاسد عالم".

تلك هي الحرب الطاحنة ما بين معاشر الجن فيما بينهم، وأتباع إبليس اللعين مع البشرية أيضاً.

هبط من أعلى المنصة بروحٍ مستنزفة، يسير بتهدلٍ، وقد أرجع البعض سبب حالته تلك كونه أكثر بالشرب.

ساقته قدماه إلى مقطورته المتنقلة والمجهزة على أعلى مستوى، حيث يتوفر بها كل سبل الراحة، بداية من مرحاض ذو كابينة زجاجية للاستحمام، وإلى جانب الكابينة حوض وجه صغير يعلوه مرآة تتوسط حافظتين من الألومينتال المزخرف بنقشٍ متقن، وهاتين الحافظتين تحويان أغراضه الشخصية كماكينة الحلاقة وفرشاة الأسنان الكهربائية وأدوات الاغتسال.

وقطعاً كذا عبوة من معطر الفم بنكهاتٍ مختلفة، فحتى مع تلبسه لتلك الهيئة البشرية إلا أنه حين يتميز غيظاً كما حدث منذ قليل بموقف "إبرام" تبدأ بعض صفاته الشيطانية بالظهور ومن بينها رائحة العطن التي تفوح بجوفٍ امتلأ على الأخير بالغل والحقد، لذا يحرص على أن يكن بكامل وعيه؛ كي يتمكن من ضحر تلك البوادر في مهدها.

ولج إلى داخل المقطورة يغلق عليه بابها بقدمه، يلقي ميدالية مفاتيحه وهاتفه المحمول بإهمالٍ على التخت الصغير الملحق بالمقصورة، يجلس أرضاً بإنهاك، فكلما واتته ذكراها تتملكه تلك الحالة من الوهن.

أسند ظهره إلى التخت خلفه، يرجع رأسه إلى الوراء يريحه على الفراش في محاولة منه للاسترخاء.

ولكن كل ساق سيسقى بما سقى ولا يظلم ربك أحد، فمن يُوقِع غيره في شرور الأعمال، سُلِطت عليه هواجسه بها، وكلما سعى إلى ملأ فراغ خَلَّفته لا يجد مَن تحل محلها بقلبه.

نعم، فلقد نبت بداخله قلباً لمَن لا قلب له؛ فقط لتسكنه.

ليست مثالية، ولا جمالها يفوق حسن غيرها، ولا هي بملاكٍ، ولكنه أحبها بصدق، مَن شب على الكراهية والبغض والضغائن، يعرف قلبه للعشق سبيلا.

ترى ما قصة هذا العاشق؟!
وكيف بدأت وعلام انتهت؟!
تعليقات يا بشر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي