الفصل 26 حب من النظرة الأولى

شرد "حسام" يتذكر لقائهما الأول بعد أن انتهى اجتماع رؤساء الفروع الذي عقده صاحب الشركة "كمال الغازولي" وابنه "أيهم"، واختلى ثلاثتهم بالغرفة المجاورة لقاعة المؤتمرات، وقد خيم اليأس على "حسام" ينعي حظه العسر، إذ لم يهنئ بتلك الترقية التي تلقاها تواً، ولو علم بما جال بخاطر "أيهم" لأخذ يرقص كطائر ال "باروتيا".

إعجاب يلوح بمقلتي "أيهم" إشادة بعبقرية "حسام" الفاذة، وخاطرة راودته ماذا إذا جعل "حسام" يشعر وكأن المال ماله؟!
ماذا إذا تحول "حسام" من مجرد فرد عامل إلى صاحب ملك؟!
حتماً سيزداد شغفه ويعطي المزيد، أخذت الأفكار تتقاذفه متدافعة تصب جميعها في نقطة واحدة، فبعد أن يسافر "أيهم" ويترك سلسلة الشركات المتواجدة في مصر بعهدة "حسام".

ما الضامن في ألا يطمع بها الموكل عليها، فجميعنا بشر، يتلاعب بنا الشيطان؟!
ومهما كان ما يبديه "حسام" من قناعة ونزاهة حتى ولو كانت صادقة، قد يتملك منه قرينه ويعض اليد التي مُدت إليه بالخير.

لذا لابد وأن يكن هناك رابط أقوى بين المؤتمن وما أُؤتمن عليه.

بِخُطى واثقة جلس "أيهم" على الكرسي الرئيسي للمكتب مؤشراً بعينيه إلى "حسام"، يقول بأمرٍ:

-اجلس.

تقدم "حسام" بإحباطٍ يحتل أحد المقعدين الفرعيين المتواجدين أمام المكتب، وما إن همت "دنيا" لتجلس على الأريكة الجلدية خلفها على بعد من مجلسهما، ناداها "أيهم" مُطالباً إياها بالآتي:

-تقدمي "دنيا".

بالرغم من الدهشة التي اعتلت معالم وجهها، إلا أنها دنت تلبي النداء، جالسةً بخفارة على المقعد المقابل ل "حسام"، مطرقةً رأسها على استحياءٍ، تفرك راحتيها معاً بتوترٍ، فاستهل "أيهم" حديثه الموجه إلى "حسام"، قائلاً:

-ما حدث بالبهو قبل الاجتماع، أريد تفسيراً له.
-كيف سمحت لنفسك بفعل ذلك؟!

"دنيا" بحرجٍ:

-أخي، على ما أعتقد.....

بتر "أيهم" حديثها، باسطاً راحة يده بوجهها، زاجراً إياها بحدة أجاد تصنعها:

-انتظري أنتِ، أنا لم أوجه حديثاً إليكِ بعد.

تحمحم "حسام" يجلي صوته، ولا يعرف ما الذي يمكن قوله؛ ليبرر ما حدث:

-سيد "أيهم"، أنا.... لم.. اعذرني على هفوتي، لم أتعمد إساءة الأدب و.........

رفعةُ يدٍ بمثابة الضغط على زر التوقف، و"أيهم" يلعن تحت أنفاسه؛ لِم يأخذ الحديث مع هذا الأبله مساراً آخراً؟!
حسناً سيقرب له المسافات؛ لربما يفهم ويبدأ باستدراك الموقف ويستغل الفرصة.

"أيهم" بنبرةٍ لانت حِدَّتها:

-يا الله "حسام"، ما من أسياد وعبيد هنا، كلنا سواسية، ولم أعامل أحداً قط ممَن يعاونوني في العمل بدونية، نحن أسرةٌ واحدة.

مرر "أيهم" إليه الكرة وعلى هذا ال "حسام" التسديد، ولكنه أعاد إليه الكرة بغباءٍ، وهو يعقب:

-المقامات محفوظة أستاذ "أيهم"، لذا...

"أيهم" سراً: - انطق أيها الغبي.

استطرد "حسام" حديثه مستكملاً بعد توقف، ولكن التردد يلوح على معالم وجهه الحنطي الوسيم برجولةٍٍ شرقية، وهو يمرر أنامله بين خصلات شعره الأسود الناعم دليلاً على الحرج الذي يتملكه الآن:

-لذا أطلب منك...

"أيهم" سراً بحماس التمعت له فيروزيتاه اللتان ورث لونهما وبريقهما الآسر عن والدته الفرنسية، بينما شقيقته تشبه كثيراً والدهما وإن كانت ذات بشرة بيضاء حليبية وهذا ما أخذته عن والدتهما الراحلة:

- وأخيراً، اكمل، فتح الله عليك، أطلب منك يد أخت.......

"حسام" داحراً آمال الآخر:

-لذا أطلب منك العفو، كما أنني أعتذر للآنسة "دنيا"، عن غلطةٍ غير مقصودة.

جز "أيهم" على قواطعه غيظاً، ولا يعرف هل ما به سذاجة أم مكر!!

أيريد منه أن يطلب يده لأخته صراحةً ليضمن "أيهم" ولاءه، ويسافر مطمئناً على ماله بإدارة منتفع وشريك، هذا ما إذا انحلت عقدة لسان هذا الأحمق وطلبها لنفسه، وإلا سيقتله أيهما أقرب؟!

حسناً "حسام" لنجرب طريقة أخرى، كان هذا ما يدور بِبِنات أفكار "أيهم" تزامناً مع رد "دنيا" على اعتذار "حسام"، قائلةً:

-تقبلت اعتذارك، وعلى كل حال لا مجال لتكررها.

سبةٌ نابية احتجزها "أيهم" بجوفه، وهو يوبخها في سره، قائلاً دون صوت:

-لِمَ لا مجال لتكررها أيتها الحمقاء؟! فإذا لم يكررها؛ فمن سيضع بإصبعك خاتم الخطبة؟! أنا!!

" أيهم" راسماً الغضب بإتقانٍ، ضارباً براحة يمينه أعلى سطح المكتب، يهدر فيهما بحدة:

-هاااي!! كفاكما إدعاء، أترياني أبلهاً؛ لأُصدق أنه لا شيء بينكما!!

-وأنت "حسام"، أنت!! من كنت أعامله كأخٍ أصغر.

-أنت، من يخُن ثقتي به!!

استقام "حسام" من مجلسه، وقد علم بما لا يدع مجالاً للشك أن لا عمل له بهذا المكان بعد الآن، وأبى كبريائه أن ينتظر حتى يقم "أيهم" بطرده؛ فأي شيء سينطق به لسانه لن يُغيِّر مما تسلل من شك إلى قلب "أيهم".

وقبل أن يستدير ليخرج بعدما قرر أنه سيكتب طلب استقالة ويقدمه إلى مديرة مكتب السيد "كمال" فلا يصح أن يذهب هكذا بلا عودة، وذلك بعد أن فسر ما يقوله ويفعله "أيهم" الآن على أنه غيرة ورفض لما أصدره "كمال الغازولي" من قرارات بشأن تولي "حسام" إدارة الفروع المحلية لشركاتهم بمصر، لذا ضخم "أيهم" الحدث ليتخلص منه.

لكن صدر عن "أيهم" ما جعل مقلتي "حسام" تستديرا بمحجريهما، وذلك عندما قال:

-كنت أعتقد أن ما بيننا من ود وصداقة؛ سيجعلك تأتيني لتصرح بحبك لمَن دق لها قلبك، من باب الصداقة حتى!!

تجمد "حسام" بموضعه وعجز لسانه عن النطق، بينما "دنيا" لم يكن حالها أفضل منه، فتصنمت هي الأخرى وما يدل على أنها لازالت على قيد الحياة، عينيها التي تتنقل نظراتها ما بين "أيهم" و"حسام".

فُكَّت الأصنام مع إلقاء "أيهم" لآخر "Card" بجعبته، وهو يطرق رأسه يهزه بحزنٍ مصطنع:

-ماذا بها إذا كنت تحب أختي؟! أن تصارحني أفضل من أن أعلم بمحض الصدفة.

انتظر "أيهم" رد فعل لما قال، وداخله يقسم بأنه إذا ما لم يقتنص "حسام" هذه الفرصة سيقم برفده رفداً نهائياً من الشركة ولن تطأ قدمه بوابتها مدى الحياة حتى لو رفض والده هذا القرار.
وهذا ليس تعنتاً، ولن يُقْصِه لا لشيء وإنما لكونه أجدباً،  فلا يوجد على وجه البسيطة مَن هو أحمق إلى هذا الحد.

فمهما بلغت سذاجة أو قناعة المتلقي، ليس مِن المنطقي أن يتجاهل عرضاً كهذا، ومن يفعل فهو أكثرهم غباء على الإطلاق، فكما يقولون الحظ لن يطرق بابك مرتين.

والتفسير المنطقي إن صدر عن "حسام" أي فعل أو كلمة تدل على تجاوزه لما نبث به "أيهم" الآن، فحتماً ستكون تلك الأفكار التي انبهر الجميع لحرفيتها وعبقرية القائم عليها منذ قليل، لم تكن من وحي خيال "حسام" وإبداعه، قطعاً ستكون مسروقة ونسبها إليه.

كما أن عدم استغلال "حسام" للموقف، يدل على أن لديه مشكلة بالاستيعاب، وغير قادر على الاستدراك لما يدور حوله، فلن يخرج من يده إدارة محل بقالة لا سلسلة من أكبر الشركات الموجودة بالشرق الأوسط بل بالوطن العربي بأكمله.

"أيهم" مانحاً آخر فرصة:

-ماذا؟! هل أكلت القطة لسانك؟! أم هناك شيء تود أخبري به أخي؟!

قال "أيهم" ما قال متكئاً على حروف آخر ما أردف به كضوءٍ أخضر للآخر؛ علَّه ينطق.

ابتلع "حسام" رمقه، ونظراته مصوبة على تلك التي فغرت فاها على الأخير حتى كاد أن يلامس فكها الأرض، ولكنها بدت نقيةً ولذيذة.

أراد "حسام" الابتسام على هيئتها الطفولية ورد فعلها التلقائي هذا، ولكن الموقف الذي وُضِع به لا يحتمل أيةَ مهاتراتٍ.

على أي حال سيجازف فإن لاقى ما سيقوله استحسان من قِبَل "أيهم"؛ فسيكون بهذا قد نال كل مساعه من الحياة، وأراد الله أن يكافئه على جهده وتعبه وأثمر صبره على ما ابتلاه الله به من مشقة ومعافرة حتى تحققت أمانيه التي سعى إليها، وأيضاً تلك التي لم يبذل لأجلها أي جهدٍ يذكر.

ولكن لآماله التي جاهد للوصول إليها لذة، أما مكافأة الله له ب "دنياه" سيظل لآخر العمر ناسكاً، ولن يوفِ دين الكريم حينما جاد عليه بها.

"حسام" بتوجسٍ، ولكنه صادقٌ بكل حرفٍ مما يهم بقوله:

-كان سوء تقدير مني سيد "أيهم"، ولكن كنت سأفاتحك بعد انتهاء الاجتماع ولم يُسعفنِ الوقت.

-كنت سأخبرك بأنني أُعجبت بالآنسة "دنيا" منذ أن وقعت عينيا عليها للمرة الأولى ولكن بنظرتك الصائبة التقط مدى احترامي وتقديري لها.

-ومع ذلك أقسم لك أنني لم ألقاها قبل اليوم، وهذا لسوء حظي.

"دنيا" ولا زالت على حالتها البلهاء تلك:

-عفواً!! عمن تتحدثان؟!

ابتسامة كادت تخرج للعلن وأدها "أيهم" بمهدها؛ لا إلا يفتضح مخططه، فتحمحم محاولاً التحكم بحاله، يوجه خطابه إلى "حسام" الذي حُبِست أنفاسه؛ ترقباً ينتظر تعقيباً على ما قال من ذلك الذي لم تبدُ على معالم وجهه أي ردة فعل يمكنه من خلالها أن يستشف وقع ما تفوه به، ولا علم له إذا كان سيقابل "أيهم" تلميحاته بالترحاب أم سيكون مصيره الطرد دون ذكر أسباب.

"أيهم" بوقار:

-حسناً "حسام" يمكنك التعامل بطبيعية لحين مفاتحة والدي بالأمر.

هل ما التقطته مسامعه صحيح أم أنه يتوهم؟!
لا "حسام"، لابد وأنه لا يعني ما وصلك، مؤكد أنك تحلم، أو أخطأت بتفسير الرد، لذا تسائل بتشكك:

-أي أمر؟!

اللعنة!! كيف ستتحكم بحالك الآن "أيهم"، وثنائي الغباء هذا لا يمنحانك الفرصة، لابد وأن ينصرفا حتى لا يفسدا الأمر، هذا ما جال برأس "أيهم"؛ لذا أردف بتأكيد ضمني لظنون "حسام":

-"حسام"، قُد أنت سيارة "دنيا" واصطحبها إلى الجامعة فاليوم هو موعد ظهور نتيجتها كما أخبرتني هي قبل فعلتك الحمقاء تلك.

-ويمكنكما الجلوس سوياً في أحد المحال العامة لتتناقشا في موضوعكما قبل أن أبلغ طلبك بالتقدم لخطبة "دنيا" إلى أبي، فلابد من موافقة العروس.

كادت دقات قلبه أن تصم آذان الحاضرين غبطة،
وبرغم من وضوح تصريح "أيهم" إلا أنه يخشى التصديق.

رمقه "حسام" باستجداء؛ لا إلا يكن ما صدر عنه مجرد أمل، وأن السيد "كمال" ربما يكون له رأي مغاير.

إيماءة تشجيعية منحها "أيهم" ل "حسام"، تقدم الأخير على إثرها يبسط راحة يده اليمنى إليها، وبرغم التشتت الذي هي بدوامته الآن، ولكنها سعيدة ولا تعلم سبباً لذلك.

أيمكن أن تكن هي الأخرى قد أحبته من النظرة الأولى؟!

لم تحرك ساكناً، ولم تحل انعقاد راحتيها بل زادت من فركهما معاً، ولكن لم يدع "أيهم" فرصة للاعتراض أو التفكير بل قال بحث:

-هيا "دنيا" وهاتفيني فور اضطلاعك على النتيجة حتى تكون الفرحة فرحتين، ولا تتأخرا.

ومن ثم وجه حديثه إلى "حسام":

-هيا يا صاح، واعتبر بقية اليوم إجازة استثنائية لك، وغداً ستتولى منصبك الجديد، يا سيادة المدير العام.

-صحيح، ستجد مع مديرة مكتبي الذي سيئول إليك بعد سفري، عقد شقة قريبة من هنا؛ كي تتمكن من مباشرة عملك دون عوائق إذ سيتطلب منك منصبك الجديد التواجد بصفة مستمرة داخل المقر الأم، وربما يتم استدعائك بأوقات متأخرة.

-وتأخيرك بسبب بعد المسافة بين سكنك وبين المقر قد يؤدي إلى خسارة أموال طائلة، ويجب أن تحرص على مال زوجتك وأبناءك.

"حسام" بكبرياء وإيباء وذلك برغم أن ما قاله "أيهم" كتذيِّل يدعو لقبوله عقد الشقة جعل بدنه يقشعر لهفة؛ أحقاً سيَهِبه الله من فضله العمر؛ ليجمعهما رابطاً أحله مُشرِعه؟! أم من كثرت البشائر سيصاب بسكتة دماغية قبل أن يرتبط اسمها به إلى آخر نفس له بالحياة؟! :

-لا سيد "أيهم"، هذا كثير.

-كما أن والدتي سيدة طاعنة في السن ولا يمكن أن أتركها لحالها.

"أيهم" بعد أن استقام من جلسته يلملم أشيائه التي وضعها بإهمال على سطح المكتب كميدالية المفاتيح وهاتفه المحمول، معقباً:

-احضرها لتُقِم معك، على أية حال الشقة ملكك من الآن، ويمكنك التصرف بها كما تشاء.
-هيا قبل أن أغير رأيي.

قالها وتجاوزهما إلى باب المكتب، ولكن لم يتحرك أياً منهما، فأعطاهما "أيهم" الأمر التالي على هيئة استفهام ساخر، وهو يواليهما ظهره:

-هل ستقضيا ما تبقى لكما من عمر هنا؟!

-اذهبي معه "دنيا"، ولا تقلقي إن لم يَرُق لكِ الارتباط بهذا الأحمق لن يجبركِ أحد.

أدار "أيهم" مقبض الباب وسبقهما إلى الخارج بتمهلٍ، فرفعت "دنيا" يدها ليلتقطها ذلك الذي لم يمل الانتظار وظل باسطاً كفه إليها حتى حنَّت عليه ولبت رجاءه.

تبِعاه متشابكي الأيدي وبإذنٍ من وَلِيِّها، وأحدهما وهو" حسام" يسير على قدمين تلامس الأرض لجسد في عالم الواقع الوردي، وروح تعانق السحاب.

خفق قلبه لنعومة يدها التي يحتضنها كفه العريض، فأحكم قبضته عليها وكأنه يخشى أن يسلبه إياها أحد، أو ربما لا زال غير مستوعب لطواعية القدر.

لم ينتبه "حسام" أنه قد تجاوز "أيهم".
كيف !!
وهو في حالة أشبه بالسكر، مغيب بها وعنها؟!

تجتاحه أحاسيس راودته عندما لامست أنامله شفاهها بالمصعد، مشاعر لو لم يدق قلب من اجتابته لأُطلِق عليها رغبة غريزية، ولكن عن أي شهوة نتحدث؟!
مجرد لمسة من يدها أعطته إحساساً بالكمال!!

استوقفه "أيهم" وهو يوصيه دون أمر مباشر:

-"حسام"، أثق بك، فلا تجعلني أندم، حينها لا حديث، ولا أفعال ستفي إذا آذيتني فيها.

"حسام" برجولة:

-أُقْتَل، ولا تُمس شعرة منها، لا أؤذيك بنفسي فيها!!
-لا تقلق، ثقتك بمحلها.

تابع سيره ونظراته معلقة بها، سكوتها لا يمكنه تفسيره، هل تشعر بأنها تورطت به؟!
أم لا زالت غير مستوعبة؟!
أم.....
عند هذه الخاطرة، وقبضة امتدت تخترق ما بين ضلوعه، معتصرة مضغته التي خفت صوت دقاتها، ضاغطة بقسوة على وتينه تهدده بانهيار مدمر لعالم كان على مشارفه ولكن يبدو أن للقدر رأي آخر.

ترى ما تلك الخاطرة؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي