الفصل 5 فالكة

"تميم" بتعذر:

-خِلصنا "فوفة"!! غضبكِ سيء يا ملكة قلب "تميم".

"عفاف" بتململٍ، وهي توكزه بمرفقها من الخلف بجانب ضلوعه جهة اليسار:

-اتركني "تميم"، لن أسامحك هذه المرة، انسَ.

آهة مصطنعة خرجت من بين شفاه "تميم" عقب وكزتها تلك، يفض على إثرها
تشابك يديه حولها، وهو يضع يديه بإدعاء موضع ضربتها يئن منحنياً بجذعه إلى الأمام في تمثيل مبتذل، رق له قلب الأم؛ فاستدارت إليه مشغوفة؛ لتستكشف ما به.

قائلةً بخوفٍ حقيقي، فقد ظنت أن وكزتها تلك آلمته كونه متوعكاً عما قريب على حسب ظنونها وإهماله في التغذية عزز من شدة تأثره بضربتها، تشك أنها تعافت عليه بها:

-"تميم"؟!
-ما بك بني؟!

عندما رأى فزعها، كوب رأسها بين يديه يطبع قبلة على جبينها، قائلاً بترضية:

-قلبي يؤلمني لغضبكِ أمي، لا تؤاخذيني، فأعصابي متوترة هذه الأيام.

تحول غضب الأم إلى قلق تسأله باستفسار:

-لّمُ "تميم"؟!

"تميم" بمراوغة:

-بعض المشكلات بالعمل.

"عفاف":

-منذ أكثر من أربع سنوات بعد أن تخرجت من الجامعة ووالدك يلح عليك بالعمل معه.

-وأنت تصر على العمل كطيار كما أصريت على دخول هذه الجامعة.

-ارح قلبي "تميم" وعاون والدك في الشركة؛ ففي كل مرة تذهب فيها برحلة عمل ينقبض صدري حتى تعُد.

"تميم" بعقلانية:

-أنا أحب عملي أمي، وأعتقد أنني وبعد أن أصبحت على مشارف السابعة والعشرين من عمري يمكنني أن اتخذ قراراتي بنفسي.

مستكملاً بإصرار:

-لن أترك ما أحب للعمل بمهنةٍ لا أفقه عنها شيئاً.

-كما أنني مندهشٌ حقاً!! الدكتورة "عفاف" تخشى على ابنها من ركوب الطائرة ولا تخشى عليه من قيادة السيارة، فيمَ الاختلاف إذاً؟! فكلاهما وسيلة مواصلات.

-ما قدره الله لن يغيره العبد.

-أتحتاجين لأذكركِ بهذا دوماً أمي؟!

ثم استكمل بجديةٍ مصطنعة:

-أين إيمانكِ بالله؟! أين الإفطار؟!

-أنا أتضور جوعاً يا سيدة "فوفة".

ابتسمت "عفاف" لمشاكسة ابنها، وخرجت وهي تدعو الله أن يحفظه لها.

أما عن "تميم" فبعد خروج والدته أخذ يبحث عنها بكل زاويةٍ في الغرفة وقلبه يتراقص فرحاً، متسائلاً:
- أمعنى رؤيته لها في اليقظة؛ فبذلك سترافقه في صحوه ومنامه؟!

تخصر وهو يزفر بخيبةٍ، فحتى خزانة الملابس بحث عنها بها، وأخذ يُحدث حاله باستنكار:

-لقد جُننت حقاً "تميم"!! ويجب أن تذهب إلى طبيب نفسي.

عاد مرة أخرى إلى الخزانة يعبث بمحتوياتها؛ ليجلب ثياباٌ داخلية؛ كي يرتديها بعد الاستحمام، فكفاه ثلاثة أيام راحة من العمل أو لنقِل عذاباً ببعدها، ومن ثَمَّ خلع عنه هذا التيشيرت القطني يلقيه أرضاً بإهمال متغاضياً عن كل محاولات "عفاف" باللين والشدة؛ لتثنهِ عن تلك العادة السيئة، وإقناعه أن هناك اختراع ما يدعى المشجب تُعَلَّق عليه الملابس، ومن ثَمَّ أدار مقبض باب الحمام؛ ليعاود غلقه سريعاً بتفاجئ.

إذ رأى امرأة تجلس على حافة المغطس تواليه ظهرها حاصرةً ثوبها إلى منتصف فخذيها الناصعي البياض، وقد امتلأ المغطس بالماء، وهي تدلي ساقيها داخله تهزهما باستمتاع.

وهناك شبورة من بخار الماء المتكاثف تنبعث من حوض الاستحمام تعيق مجال الرؤية إلا من تلك الجالسة براحة واسترخاء وكأنه منزل أبيها.

وأثناء شروده بماهية تلك المرأة التي تجلس بداخل حمامه المتواجد في غرفة نومه، فلا أحدٍ يعيش بالمنزل سوى هو وأبيه ووالدته، حتى لا وجود لخادمة مقيمة، فوالدته توكل مهام التنظيف إلى سيدة بعمر الخمسين تدعى "ماجدة"، وتأتي لتباشر عملها كل جمعة بالأسبوع.

وحتى لو كان اليوم هو الجمعة فتلك الفالكة لا يمكن أن تكون "دادة ماجدة".

شهق بتفاجئ عندما أحس بيدٍ رطبة تربت على كتفه من الخلف، فسقطت الثياب من يديه يستدير بوجل، فتنتفض هي الأخرى بارتياع، تتراجع خطوتين إلى الخلف؛ دهشةً لردة فعله المبالغ بها من وجهة نظرها، وكأنه هو مَن اقتحم غرفتها وظهر لها بغتة وليس العكس!!

تحول فزعه إلى غبطة وانبلجت أساريره، وهو يقترب منها بتمهل، مجبراً إياها على التقهقر.

قطبت جبينها قائلة بحاجب مرفوع:

-ماذا؟!

مال رأسه إلى جانب واحد وهو يضيق عينيه ينظر إليها بهزئ، قائلاً:

-ماذا تلك!! لي أنا؟!

أومأت برأسها في إيجابٍ ولم ترد، وعينيها تتجول باستكشاف على وجهه وعضلات ذراعيه وأكتافه وصدره وبروز سداسية البطن، ولم تنتبه إلا وهي محاصرة بينه وبين الباب.

رفع يده اليمنى يستند براحتها إلى الحائط المجاور للباب بجانب وجهها، ويده الأخرى ارتفعت تعبث بخصلة من خصلات شعرها الذي تغير لونه في كل مرة، ويبدو أنها تنفق أموالاً طائلة لدى صالونات التجميل.

نهر حاله وهو يقول:

-كيف لطيف تراه في المنام أن تذهب صاحبته إلى تلك الصالونات "تميم"؟!
فحتماً هو لازال غافياً حتى الآن.

نائمٌ!! مستيقظٌ!! فارق الحياة!! كل هذه الاحتمالات واردة، ولكنها الآن لا تهم، كل ما يهمه الآن أنها معه.

عيناه مرتكزة على ما تعبث به يده، أما عيونها الساحرة مثبتة على معالم وجهه تناظره بولهٍ، وعندما التقط هيام نظراتها، همس لها قائلاً:

-"يامور"!! هل أنا أحلم الآن؟!

هزت"يامور" رأسها بنفي، ليستكمل همسه:

-حبيبي، أ ما تقولينه حقيقة؟!
-أنتِ معي هنا وأنا أراكِ وألمسكِ بالفعل؟!

قالها وقد حرر خصلة شعرها بلونه الذهبي لهذه المرة، وهو يمرر أنامله على وجنتها، فأسبلت أهدابها تستمتع بلمسة يده على وجهها، وهي تهمهم:

-أمممممممم.

تلمس ذقنها المزدان بطابع الحسن، ومن ثم رفع رأسها إليه، قائلاً بحالمية وصوتٍ متحشرجٍ:

-"يامور"، أشعر بكِ، لا يمكن أن يكون إحساسي بكِ مجرد وهم وخيال كما قال لي "عبد الله".

-أنا لا أتوهم "يامور"؟! اجيبي؟!

نظراتهما المتشابكة، ولمعت عيناه بالحب، وأفكاره المخترقة من قِبَلِها، وكذلك نبرة الرجاء في صوته؛ نسجت حولهما هالة من الرومانسية خاصةً عندما مال رأسه إليها يتنفس أنفاسها ونظراته حائرة ما بين عينيها بخضارهما اللامع ببريق العشق، وشفاهها الكرزية اللامعة، وسؤال ملح يريد معرفة إجابة له:

-أي يمكن أن تكون حمرة شفتيها البراقة تلك ربانية؟! وإن لم تكن، فبأي نكهة سيكون طلاء الشفاه خاصتها؟!

"يامور" وقد سحرتها جاذبيته، هامسة وشفاههما قريبة حد اللعنة:

-"تيمو".

"تميم" بهمس:

-هائم بكِ، يا أجمل من رأت عينا "تميم".

قالها وهو يدنو إليها، وراحته لازلت مستندة إلى الحائط، والأخرى تتلمس بشرة ذراعها المخملية الناعمة، هابطةً إلى راحة يدها تحتضن كفها الرقيق، يشبك أناملها بخاصته، وعلت وتيرة تنفسهما، وقلبه يهدر داخله بعنف، فتلك أول مرةً يقترب بها من فتاةٍ إلى هذا الحد.

أما عن عقله فبات بتشوشٍ تام، وكل ما تلتقطه إشارات المخ وتسعى مراكز الإدراك لديه إلى ترسيخه بالذاكرة هي تلك اللحظة وما بعدها، وليذهب كل تاريخه دون هذه اللحظة إلى أعماق النسيان.

آهة صدرت عنه، لم تكن نشوةً أو استمتاع بل آهة ألم، إذا فُتِح الباب فجأة ليصدم بوجهه وأنفه وصوت "عفاف" يصدح بالخارج:

-هيا "تميم" الفطور على المائدة.

زفر "تميم" أنفاسه بغضب، وهو يكور قبضة يده يضرب الجدار بحنق وخيبة؛ فقد تبخرت مشاكسته قبل أن يتذوق طعم الطلاء أعني شهد شفتيها، أو يسألها مَن هي أو متى ستزوره.

"تميم" قائلاً بسخط وهو يزم شفاهه بغيظ:

-ألا يستطيع المرء أن يأخذ راحته ببيته، سأقتلكِ "عفاف"؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي