الفصل 25 من القاتل

تراشقت قطرات المياه على وجهه، والمصدر كفيّ يده، والماء المتساقط عن وجهه اختلط بحمرة دمائه الذي يُقَطِّره جرح باطن يمينه التي ضربت المرآة العلوية لحوض الاغتسال الخاص بمرحاض شقته التي يقطنها الآن.

ما به ليس خدر، ما به موتٌ بطيء، جريح ولا سبيل لشفاء جرحه إلا بفناء السبب.

للتو لا يعرف ماهية من سلبه الحياة.
جال وصال ولا معلوماتٌ تُذكر.

استفاق من شروده بها عند خاطرة احتفالهما معاً عقب عقد قرانهما، وانفرادهما على اليخت المهدى إليها.

انْتُزِع من أحلام يقظته بها، عندما لم يتوقف هاتفه عن الرنين.

خرج من المرحاض يستند بكلا راحتيه على الجدران حتى وصل بعد معاناة ومشقة إلى تخته، يلقي بحاله عليه، يجلس بإهمالٍ ولم يُكبد حاله عناء تجفيف جسده ولا تغيير سرواله القصير المبلل كلياً بالماء.

تناول الهاتف المُسند إلى جواره على السرير منذ أمس قبل أن يغفُ وهو يقلب في صورهما معاً.

ولكل صورة له معها حدثٌ وذكرى لا تُمحى.

وجد أن رقم المتصل غير مسجل لديه، فألقاه مرةً أخرى بإهمالٍ، وهو يفتح درج الخزانة الصغيرة المجاورة للتخت يلتقط من بين محتوياته شريط أقراص مسكنة يدس إحداها بفمه يبتلعه دون سائل فلا صبر لديه كي يذهب لإحضار ماءٍ، فألم رأسه الحاد جراء إفراطه في الشرب بعد توقف لعام ونصف جعله موشكاً على ضرب رأسه بالحائط، عذابٍ بالمشروب وكذلك بدونه، ولكن ماذا بيده ليفعله؟!

مخطئ وخائن لعهده معها ومن قبلها مع الله.
ولكن ما من أقراص منومة تفيد، ولا إجهاده لحاله وجسده في العمل وفي غيره يُجدي نفعاً حتى صار يصل ليله بنهاره.

راوده شيطانه أن يعاود معاقرة الخمر لليلة أو ليلتين حتى يتمكن عقله من فصل قابسه ويأخذ هدنة، فقط قسطٌ من النوم، ولن يُدْخِل قطرةً منه إلى جوفه مرةً أخرى.
ولكن ما قادته إليه هواجسه عبث.

أول جرعة له كانت مثمرة، فنام وهو يخشى أن يفق ككل غفوة له على هذا الكابوس المزعج بل المميت وهي بين أحضانه صبيحة عرسهما، غارقة بدمائها.

ولكن لَغَطَ الشيطان بعقله، فصورها له في أحلامه حيةً تُرزق وذلك بعد جرعته الأولى فقط.

أقنع حاله بأنه لن يفعلها مرةً أخرى مستغفراً الله، ولكنه ضعف وصار كلما هفت روحه إليها يشرب كأس فالثالث فالعاشر.

حتى وهو على كفره لم يثمل يوماً إلى هذا الحد، فعمله كزعيم مافيا كان يحتم عليه أن يبقَ بوعيه طوال الوقت، أو لنقُل في هذه الفترة من حياته لم يكن محط أنظار شياطين الجن، هم لا يقترنون بالعاصي يكفيه كفره، أما الآن فالاختبار صعب.

لا شيء لديه ذا قيمة حتى الشركة الخاصة بالهندسة المعمارية والمقاولات التي اشتراها من والد صديقه "تميم" الذي تعرف عليه في سفرة منذ عام أي قبل حادث اغتيالها مجرد وسيلة إلهاء يضيع بها بعضاً من وقته الرتيب الذي لا يمر.

معرفته ب"تميم" بدأت وهو لازال هناك بإحدى الولايات الأمريكية، وعمله الجديد بمجال الهندسة كما اشترطت عليه ملكة جمال زعيمها، تطلب سفره إلى ولاية أخرى ليتعاقد مع إحدى المصانع الخاصة بإنتاج مواد البناء والتعمير.

حين ذاك أعلنت الصحف ووسائل الإعلام نبأ إسلام أخطر زعماء المافيا بالعالم "ريكا بان" وتوقفه عن نشاطاته المشبوهة.

وبحكم عمل "تميم" كطيار وكونه يجوب العالم من مشرقه إلى مغربه يعلم مَن هو "الداهية" وكيف كان، وعلام أصبح.

وعندما اجتمعا على نفس الرحلة التي كان "تميم" ربانها، و"ريكا" أو "عبد الله" أحد مستقلي الطائرة التي بدت الحشود تهم لتلحق بها.

بادر "تميم" بالحديث معه عندما لمحه بفناء المطار، قائلاً:

-أحب أن أهنئك سيد "عبد الله"، وأتمنى من الله أن يدم عليك نعمة الإسلام.

أجابه "عبد الله ببشاشةٍ:

-الحمد لله، أشكرك سيد........

مد "تميم" يده إليه بالمصافحة، وهو يُعَرِّف عن نفسه مردفاً:

-"تميم أكرم" كابتن طيار مصري كما ترى.

قالها "تميم" بدعابة وهو يشير إلى الزي الرسمي الخاص به بفخرٍ، ومن ثم استكمل يُمزحه:

-وللأسف أنا من سيقود بكم، وأتمنى من الله أن أتمكن من أن أوصلكم وإياي بسلام.

رفع "عبد الله" حاجبه بدهشة واستمتاع، فعلى ما يبدو أن المصريين جميعهم يتمتعون بخفة الظل والسلاسة والروح المرحة، فجَرَاه لاوياً ثغره يهز رأسه بتهكمٍ مصطنع:

-أشك في ذلك.

أطرق "تميم" رأسه بخيبةٍ أجاد استحضارها:

-لا يا صاح، آخر شخصٍ كنت أتوقع أن يشكك في قدرتي هو أنت.

انسجم "عبد الله" مع شخصية "تميم" المرحة، معقباً:

-الصداقة قائمة على الصدق.

نظر إليه "تميم" بزاوية عينه، يعض باطن فمه من الداخل، وكأنهما صديقين منذ زمن، وأحدهما وهو "تميم" ناقماً من ردود رفيقه، يقول بعتابٍ:

-وهل يرضيك أن نكونا صديقين وليس معي رقم هاتفك حتى الآن؟!

ربت "عبد الله" على كتفه مقهقهاً وهو يقول:

-معك حق في هذا، سجل لديك 0053....

حك "تميم" جبينه بسبابته في تفكير بعد أن حفظ الرقم على هاتفه، يسأله:

-قل لي "عبد الله"، واسمح لي مناداتك دون ألقاب فلا تملق بين الأصدقاء.

"عبد الله" برحابة، وهو يرفع يمينه يحط به على كتف الآخر محاوطاً إياه بودٍ، يقوده باتجاه سلم الطائرة.
بالطبع لن يبيتا بباحة المطار، حتى ولو كان هناك متسع من الوقت قبل الإقلاع، فالجلوس بالداخل أفضل من الصقيع الذي هما به الآن في الخارج:

-ما الذي تريد معرفته "تميم"؟!

ابتسم "تميم" وهو يساير خطاه، مستكملاً:

-هل رقم هاتفك هذا مربوط بحساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي؟!

"عبد الله":

-بالطبع.

"تميم":

-هل لديك حساب "face book"؟!

"عبد الله":

-نعم، يا صاح.

"تميم":

-ماذا إذا أرسلت لك طلب صداقة؟! هل ستتركني على لائحة الطلبات المعلقة؟!

عقب "عبد الله" بمشاكسة، وهو يهز رأسه بيأس من رفيقه الجديد والغريب كلياً:

-صِدقاً، أفكر بالأمر.

وعندما رأى "عبد الله" تغير معالم وجه الآخر، استكمل يطيب خاطره فلم يخطر بباله أن "تميم" سيأخذ تعقيبه هذا على محمل الجد:

-ما بك يا صاح؟! كنت أمزح، سأقبله بالطبع.

"تميم" ولا زال على حاله:

-أعلم.

قطب "عبد الله" جبينه، متسائلاً:

-وطالما تعلم، لِم تغضن وجهك هكذا؟!

زفر "تميم" مجيباً:

-أنا مَن يفكر بالتراجع، فمن المؤكد أنه لديك لائحة من الصديقات، بها ما لذ وطاب.

-وبالحقيقة أنا مرتبط، ولا أريدها أن تغضب مني عندما ترسل لي إحداهن طلب صداقة.

"عبد الله" بابتسامة تهكمٍ:

-مَن تظن حالك لتتهافت الفتيات في إرسال طلبات صداقة إليك؟! "الداهية"!!

قلب "تميم" عينيه بمللٍ مصطنع، وهو يجيبه مردفاً بثقة:

-وما أدراك أنت بما يتهافت عليه الفتيات؟!
-ألا ترى كم أنا وسيم؟! وكذلك جسدي الرياضي وعضلاتي المفتولتين و....

قاطعه "عبد الله" ساخراً، ولكنه لا ينكر وسامة و جاذبية الآخر ومَن أدرى من الداهية بما يعجب النساء؟! :

-لا تقلق يا "ميل چيبسون" الشرق، لا صديقات على حسابي الحالي، فحبيبتي شرقية وتغار.

-حقاً!! من أي بلد هي؟!

"عبد الله" بهيامٍ، وهو يعض على شفته السفلى بوقاحة:

-شرقية مصرية مثلك، ويبدو أنا مصر بلد الحِسان.

جحظت عينا "تميم" عندما استدرك ما يرمي إليه "عبد الله"، نافضاً ذراع الآخر عن كتفه باشمئزازٍ مصطنع، فهو يعلم ما أشيع عنه سابقاً.

"ريكا" زير نساءٍ، ولو كانت له ميول أخرى لعَلِم الجميع بها، ففي بلد كهذا ليس عيباً وكذلك لا تُجَرِّم حكومتها مَن له علاقات من هذا النوع، بالرغم من تحريمها بجميع الأديان والكتب السماوية.

"تميم" باستياءٍ مصطنع:

-ارفع يدك عني أيها المنحط، أنا لست من هذا النوع.

"عبد الله" مقهقهاً، وهو يرى "تميم" يبتعد عدة خطوات حتى صار على أولى درجات سلم الطائرة، فأردف بتساؤل:

-إذاً أنت من أي نوع؟

"تميم" بأنفٍ شامخ:

-لعِلْمُك، أنا رجل جداً.

"عبد الله":

-وأنا أيضاً، لِم الهلع إذاً؟! وهل إذا كانت لي ميول أخرى الآن أو من قبل كنت لأُخْفِها؟!

-أنا لم أكن أخشى أحداً في السابق لأتوارَ، فما بالك الأن وأنا أخاف الله؟!

منذ ذلك الحين نشأت بين "عبد الله" و"تميم" علاقة صداقة قوية، وأصبحا يتواصلان عبر مواقع التواصل على فترات متقاربة.

وعندما حدث ما حدث ل"غادة"، سافر "تميم"  إلى صديقه فور علمه بالخبر؛ ليسانده في محنته، حتى لو لم تسنح ظروف عمل "تميم" بحضور عرس رفيقه الذي لم يهنئ بعروسه، ولكن تطوع الظروف لأجل حَدثٍ جللٍ كهذا.

وباليوم التالي كان "تميم" بمطار مصر بعد رحلة كان فيها ربان الطائرة القادمة من فرنسا.

فاستقل أول طائرة إلى أمريكا وظل إلى جوار رفيقه يواسيه بعد الكارثة التي حطت على رأسه، وعاد معه إلى مصر ليقُم بدفن جثمان زوجته المغدورة ببلدها كما كانت تتمنى.

وكان معهما "سام" الذي بدى عليه الحزن الشديد كما لاحت بمقلتيه نظرات عداء مشوبة بالذنب وكأنه يلوم "عبد الله" على ما حدث لأخته، وكذلك يحمل نفسه الوزر كونه قبل بتلك الزيجة. فشخص كالداهية سيظل ماضيه يطارده ما حيا.

وعندما عاصر "تميم" حالة الانهيار التي كان ولا زال عليها "عبد الله" أقنعه بنقل عمله إلى مصر كي يكن إلى جوارها، فزيارة قبرها ربما تثلج ألم الفراق.

تأفف "عبد الله" من سماجة المتصل إذ عاود ذات الرقم الرنين للمرة التي لا يعلم عددها، ويبدو أن هذا الشخص لا يَمل، أو ربما هناك شيء مهم، أياً كان السبب فقد بات الداهية صلداً لا يشغل بالاً إذا ما أحترقت الأرض بما عليها متمنياً أن يطله نارها، فلا فارق لديه.

فكر في أن يُقِف تشغيل الهاتف فما به من ألم رأسه يكفيه، ولكنه يريد مهاتفة "تميم" ليتقابلا، فهو على عِلم بأنه في مصر، ولكنه حين اتصل على رقمه بالأمس لم يُجِب.

زفر بحنقٍ فلا سبيل لإجراء اتصال سوى بإجابة هذا اللحوح، ضغط "عبد الله" زر الرد، وهو يقول بنزقٍ:

-ماذا هناك؟! ألا تعلم شيء عن احترام رغبات الآخرين؟!
-ثم أنني لم أجب بالمرة الأولى فعاودت الاتصال، وكذلك لم أشغل بالاً لك، فمن دواعي الأدب ألا تتصل الثالثة ولكنك ما شاء الله لم تيأس!!
-كما أن رقمك غير.............

بتر مَن على الطرف الآخر حديثه الذي ألقاه دفعة واحدة ولم يعطِ للمتصل فرصةً للرد.

المتصل بمهادنة:

-هاااي، على رسلك يا رجل ، أنت مَن يحتاجني، فلدي معلومات عن قاتل زوجتك.

تُرى من المتصل وما مصلحته في ذلك؟!

كل هذا سنعرفه بالجزء الثاني من "معقل الجن"، انتظرونا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي