الفصل 13 رجولة

حيرة وتيه تملكا من "تميم"، ألهذا كانت تتهيئ في خياله؟!
ألكونهما تقابلا من قبل ترسخت صورتها بالذاكرة؟!
والأهم هو قولها أنها أعطته من عمرها؟!

أتعني بهذا أنها شبح تلك الفتاة التي أنقذها من الموت؟!
                   Flash Back
منذ أكثر من خمسة عشر عامًا وقد كان والد "تميم" لازال في مقتبل حياته العملية إذ انفصل عن العمل كتابعٍ لإحدى الشركات الهندسية التي تعمل في مجال المعمار، وبدأ في تأسيس كيانٍ مستقل.

وذلك عندما جمع ما ادخره من مال طوال فترة عمله لدى الغير، فقد كان حلمه هو مكتب هندسي صغير بإحدى المناطق الراقية بالعاصمة القاهرة، وقد كان ما أراد.
وهذا بمساعدة رفيقة دربه "عفاف" التي كانت له دوماً ونعمة الزوجة والأخت والصديقة.

وفي يوم من الأيام ذهب "تميم" إلى مكتب أبيه كعادته، وعندما سأل "تميم" سكرتير المكتب عنه، أخبره أنه خرج في جولة عمل ميدانية لأول موقع استلمه مكتبهم، لذا قرر "تميم" أن يلحق بوالده إلى هناك؛ إذ كان متشوقاً لمتابعة سير العمل بالموقع.

وكذلك كي يطلب منه المبلغ الذي يلزمه لشراء ملابس جديدة سيحتاجها للمرحلة المقبل عليها، فها قد أنهى دراسته بالمرحلة الثانوية وشارفت إجازة نهاية العام على الإنتهاء.

وقد اتفق "تميم" مع بعض الرفقة على الذهاب لشراء ثيابٍ وأدواتٍ ستلزمهم للمبيت بسكن الطلبة المخصص لهم بهذه الكلية التي اختارها رغم رفض والدته لذلك ولكنه وجد الدعم والتأييد من أبيه.

وعندما وصل "تميم" إلى وجهته المنشودة وتجول داخل الموقع، وهو في دهشةٍ وتعجبٍ من خلو المكان من العمال، ولا يوجد سوى المعدات الثقيلة التي يستخدموها في الإنشاء، حتى حارس الموقع لم يكن بمكان حراسته على البوابة أثناء ولوجه من مدخل السياج المحاوط لمربع العمل.

وعندما تملك منه القلق لهذا الخواء الذي حل بموقعٍ كان بالأمس يعم بالضجة والصخب.

فها هنا عمال تصيح ومشرفين تصدر أوامر بصوتٍ جهوري؛ حتى يصل الأمر الصادر لمتلقيه كون أصوات محركات تلك المعدات تدوي بجلبة تطغى على أصوات المحاوطين.

لذا قرر "تميم" أن يعاود أدراجه من حيث أتى، وسينتظر والده بالمكتب إذ من المستحيل أن يكون هنا، في حين قد ترك العمال الموقع الذي يتحدث والده دوماً في أحاديث السمر أنه يحتاج إلى مزيداً من العمالة؛ ليكثف ورديات العمل حتى يتمكن من تسليم الموقع كاملاً في الموعد المحدد لذلك.

تأفف "تميم" بضجرٍ؛ إذ توغلت خطواته دون أن يشعر إلى نهاية الموقع، وقد خيم الظلام على المكان إلا من عمود الإنارة العمومي الذي يُخَدِّم على المنطقة خارج السور المعدني، فالساعة الآن قد تجاوزت الثامنة بعد آذن المغرب.

ووسط العتمة وفي ظل هذا الضوء الخافت وأثناء متابعة وقع خطواته على الأرض المليء بالعثرات والحفر، وجد شيء ما أرضاً لامعٌ ذو بريقٍ معدني.

فانحنى بجذعه يلتقط ما وقع عليه بصره يتفحص إياه، وعندما تبين ماهية ما وجد، قرر الاحتفاظ به فيبدو أن هذا الخاتم يعود لأحدٍ من العمال أو المشرفين.

دسه "تميم" بأصبعه وعاود السير إلى حيث البوابة، فاستمع إلى أصوات استغاثة غير مفسرة، وتتعالى تلك الصيحات وتتداخل وكأن فيما بين المتنازعين نبرة أنثوية، وقدميه تقودانه إلى حيث مصدر الصوت الآتي من جهة مبنى ما تحت الإنشاء.

هرول "تميم" تجاه التجمع، فهناك ثلاثة رجال غريبي الهيئة، يلتفون حول فتاةٍ مذعورة لم يتمكن من التمعن بملامحها جيداً؛ بسبب خفوت الضوء حينها، ولكن ما التقطه يوحي بإبداع وعظمة مَن خلق ومَن صور.

لذا أول ما طرأ بعقله أن هذه الذئاب البشرية تحاول الفتك بهذا الغزال الشارد، ولم يخطر بباله حينها أنهم من الممكن أن يكونوا ذئاب من نوعٍ آخر.

إنهم من أتباع الملعون "دهمان" الذي يلجأ لكل حيلة وبكل خسة، حتى يسطُ هو والغيلان والمردة خاصته على مملكة من ممالك الجن المسالم ممَن حباهم الله قلباً نور، وليس قلوب مدنسة وعقول خبيثة كالتي هيئة لشيطانهم الأعظم أبليس أن يخالف أمر من أوامر المولى عز وجل؛ لينبذ من رحمة الله ويغدو طريد الجنة هو ومن شتوا معه عن الصواب من نسله وأتباعه فتشتتوا في الأرض، يلعنهم الإنس والجن والملائكة في الليل والنهار.

قبض "تميم" بنخوة رجلٍ شرقي على معصم القابض على رسغ الفتاة، يقول بحدة ورجولة تفوق سنوات عمره السابعة عشر:

-هااااي!! أنت!! ماذا تفعل؟! دعها وشأنها.

ما إن لمست يد "تميم" جسد المعتدي؛ حتى رفع هذا البغيض يده عن الفتاة وهو يتراجع خطوتين إلى الخلف، بالطبع ليس استجابة لأمر الإنسي "تميم" ولكن ما ردعه هو ومن معه ذلك الخاتم العائد إلى الأميرة المطاردة والذي يتقلده "تميم" الآن.

وعندما رأى "تميم" ردة فعلهم تلك، ازداد ثقةً بحاله، فوقف أمامها يواريها خلفه كالسد المنيع يحُول دون أن تطالها أيديهم.

ومن ثَمَّ التفت إليها برأسه يقول بطمئنة:

-اهدئي ولا تخافي، لن أتركك.

رفعت يديها تتشبث بقميصه من الخلف، تقول بصوتٍ عذب:

-ابتعد أنت، لن تقدر عليهم.

"تميم" بثقةٍ مكتسبة من تقهقرهم المتخاذل:

-الله معنا.

أعجبت "يامور" حينها برجولته وبسالته، وكذلك وسامته بملامحه الشرقية وقوة عضلاته، فهو منذ بلوغه السادسة عشر من عمره أي فيما يقارب عام أو أكثر وهو يداوم على ممارسة ألعاب القوى ويتردد بانتظام على الأندية الرياضية، قطعاً لم يكن بالقوة الجسدية التي عليها الآن، ولكن وقتها مقارنة بسنه كان فارع الطول عريض المنكبين.

وعندما رأى هذا الوغد ومن معه استماتة "تميم" في حمايتها، كما أن اقترابهم منه أمر غير مضمون العاقبة، فحتى وإن حاولوا لن يتمكنوا من إيذائه، فخاتم تحصين الأميرة "يامور" الذي بسقوطه من يدها جعلها صيدة سهلة لهم بحوذته الآن.

فلم يجد قائد هؤلاء الأوغاد سوى أنه أشهر سلاحاً تشكل بقبضته في طرفة عين مصوباً إياه باتجاه "تميم" في غفلة منه ومنها، فجسد هذا العتي حجب عن الأميرة الرؤية؛ لتخرج من فوهة هذا السلاح طلقة غدر استقرت بصدر "تميم" جهة اليسار.

صدرت عن "تميم" على إثرها آهة ألمٍ شق صداها عنان السماء، لتخر بعدها قواه.

فاحتضنته "يامور" إليها من الخلف، وهي تشهق بفزعٍ عليه، واضعةً راحة يدها موضع الجرح تضغط عليه بقوة تمنع طاقة النزيف التي ينبثق منها الدماء بغزارة، ومع كل ضغطة مطولة على جرحه النازف عداد المنح يعطيه من عمرها عام.

وعندما وجد هؤلاء المعتدين استماتتها في إنقاذه وتشبثها به، والتحصين يحُول دون مساسهما، فالتصاقها به جعل جسديهما محصنين ولا مجال للعداء هنا، فقوى تحصين خدام الخاتم من الجن القمري تفوق قوى هؤلاء الشياطين أضعافاً مضاعفة، فتبخر ثلاثتهم في التو واللحظة.

استدعت الأميرة أحد تابعيها بتواصل روحاني عن طريق لمسها للخاتم الذي لاحظت وجوده أو لنقل استشعرت قواه بيد "تميم" الذي شارف على النفوق، فأتاها التابع في هيئة سائق يقود سيارة أجرة.

إذ أن علم الطب والتداوي الروحاني الذي يجيده فئة من عشيرتها، لم تعر له "يامور" اهتماماً ولم يستهوها في السابق.
وإن استدعت واحداً من هؤلاء المحيطين بهذا العلم ستفتضح فعلتها بمخالفتها لأوامر أبيها الملك "طلخان" وتسللها إلى خارج حدود المملكة دون إذن، وليس لديها حجة مقنعة لتبرير ما فعلت لذا لجئت لاستدعاء هذا الخادم.

قامت "يامور" برفع جسد "تميم" عن الأرض مستخدمة قواها؛ وهي تحتضن إياه كما هي من الخلف ويدها لم تُرفع عن موضع الجرح، تستقل السيارة التي ما إن استقر جسديهما بداخلها حتى اختفت من المكان.

لتظهر بعدها السيارة في ثوانٍ على بُعد خطوات قليلة بأول منعطف لأقرب أكبر مشفى خاصة، وساعد على عدم ملاحظة تواجد السيارة الفجائي العتمة التي حلت بهذا الشارع لحظة ظهورها، وبالطبع هذه الجنية المسئولة عن فعل ذلك.

توقفت السيارة أمام بوابة المشفى، وهي تقول بتعجلٍ لخادمها المخلص:

-ترجل "هامان" واستدعِ أحد من قسم الطوارئ سريعاً، فلا يمكنني حمله إلى الداخل؛ لا إلا يشك أحدٌ في أمرنا.
-وانتبه أنت أيضاً وتصرف وكأنك واحد من أبناء هذا الجنس ولا تلفت الانتباه إليك.

"هامان" بامتثال:

-نافذ أمركِ مولاتي الأميرة "يامور".

"يامور" بحنق:

-قلت اسرع، لا مجال للتملق الآن، الصبي على مشارف الموت.

ترجل "هامان" سريعاً من السيارة، يهرول بإتجاه البوابة الرئيسية للمشفى إلى الداخل، طالباً الدعم.

بينما من أراحت جسده تسند رأسه إلى فخذيها، ويسراها لم تبرح موضع خافقه، ويمينها تملس على خصلات شعره بحنو وللآن منحته عشرة أعوام من سنوات عمرها القادم، ولو استدعى الأمر ستوهبه ما تبقى من عمرها بأكمله.
أخذت تنظر بتمعن إلى ملامح وجهه وكأنها تطبعها بذاكرتها، فتنبهت مع ضغطتها الثانية عشر عندما أفرج بتثاقل عن أهدابه، وأنين مكتوم صدر عنه وهو يزم شفاهه بوهن، وكلمات خافتة متباطئة غير مترابطة ومستفسرة أيضاً تنبثت بها شفاهه:

-مَن أنتِ؟! وأين نحن؟!

آهة أخرى، تلاها بسؤالٍ:

-هل أنتِ بخير؟!

"يامور" بقلقٍ حقيقي:

-لا تجهد حالك بالحديث "تميم".

"تميم" بامتعاض وأنين مُوجع؛ عندما ضغطت مرةً أخرى على الجرح:

-آاااه، يدكِ تؤلمني.

"يامور":

-لا تخف، أنا أُوقف النزيف "تميم".

"تميم" وقد بدأت غيمة اللاوعي تجذبه إلى دوامتها وكذلك أجفانه بدأت بالتثاقل يقول بتعلثم كالسكرى:

-كي... كيف عرفتِ اسمي؟!

مالت إليه تهمس إلى جانب مسامعه قبل أن يغشى عليه، وقد تجاهلت عمداً سؤاله الأخير قائلةً:

-سأضع الخاتم الذي بيدك في السلسال المطوق لعنقك، واحرص على عدم خلعه حتى أثناء استحمامك.

-مهما حدث لا تخلعها عنك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي