الفصل 14 استدعاء

لا زلنا في السيارة أمام المشفى ومصير "تميم"هذا الصبي آن ذاك على المحك.

لم تتم "يامور" جملتها، وها قد حضر "هامان" وبصحبته اثنين من أفراد الأمن الخاص بالمشفى يحملان سريراً نقالاً.

فبادرت تفتح لهما باب السيارة المجاور لهما من الداخل، تعاونهما برفعه، جاعلة الحمل الأكبر لجسده عليها دون أن يلحظا، فمهما ثقل وزنه فهو بالنسبة إليها كخف الريشة في الهواء، حريصة كل الحرص ألا تزح يدها عن موضعها.

وما إن وصل العاملان يحملان السرير إلى غرفة الطوارئ بالمشفى ضغطت على جرحه ثلاث ضغطات مطولة ليصبح مجموع ما وهبته خمسة عشر ضغطة وذلك حتى يصمد لحين البدء في الجراحة.

وعند استحضار "يامور" لحقيبة مال أودعتها بخزينة الاستقبال لتف بكل التكلفة اللازمة لإجراء جراحة خطرة كهذه وعلى وجه السرعة، بدأ القائمون على العمل بالمشفى الخاص هذا من أطباء وممرضين ببذل كل جهد لديهم حتى أصبح قسم الطوارئ يعم بالنشاط كخلية نحل.

لم يسألوا عن السبب، ولم يطلبوا بيانات، فقد ألهتهم "يامور" بزكيبة الدولارات التي ألقتها إليهم، تُمَني صاحب المشفى بالمزيد إذا تم إنقاذه.

وبعد خمس ساعات قضتها "يامور" في قلقٍ وتوتر، خرج الجراج بتهدل من غرفة العمليات إثر المجهود الشاق الذي بُذِل، يجفف عرق جبينه نازعاً عنه القناع الطبي.

  هرولت إليه تلك الحورية التي ما إن رآها حتى زال عنه كل تعبٍ، يمطرها بنظرات إعجابٍ، حاله كحال كل ذكرٍ وقع عليها بصره بداية من صاحب المشفى حتى أصغر عامل هناك، وكانت تكُفهم عنها بقوتها حتى يتمكنوا من التركيز على عملهم.

أما الآن فتريد الاطمئنان عليه، لذا سألت الطبيب باستفسار:

-كيف حاله الآن؟!

الطبيب بهيام:

-جميل، بل رائع!!

"يامور" بحدة لاستدراكها ما يرمي إليه:

-ماذا؟!

الطبيب بارتباك:

-أقصد أني.. أنه... أن الجراحة تمت بنجاح برغم غرابة ما كان، فطلقة كهذه وفي موضعها هذا كفيلة لإنهاء حياته وعلى الفور.

"يامور" زاجرة إياه:

-اللعنة!! ماذا تقول أنت؟! حفظه الله من كل سوء.
-لا أعلم كيف لك أن تكون طبيباً بفالك الشؤم هذا؟!

تحمحم الطبيب يجلي صوته، قائلاً بحرج:

-أعتذر آنستي، لا تقلقي لقد زال الخطر الأكبر، وسيبقى تحت الملاحظة لحين الاستفاقة ومتابعة المؤشرات الحيوية لجسده.

-ولكن يرجى استكمال البيانات الخاصة بالمريض بمكتب الاستعلامات.

في هذه الأثناء اقترب "هامان" يوجه حديثه إلى "يامور"، قاطعاً كل سبيل على الطبيب حتى يكف عن ثرثرته، فقد لاحظ "هامان" ضجر مولاته، وعلم أن كيل صبرها امتلأ وفاض، وللأسف لم تستطع تفريغ شحنة غضبها حتى لا تثير الريبة، وعلى أية حال لابد وأن يرحلوا الآن.

"هامان":

-آنسة "يامور" لحظة من فضلك.

الطبيب بابتسامة سمجة:

-"يامور"!! اسم رائع ومميز كصاحبته.

تجاهلت "يامور" تعقيب الطبيب، وابتعدت هي و"هامان" تتأفف بضجرٍ، ليبادرها "هامان" قائلاً:

-مولاتي الأميرة، لابد وأن نرحل الآن؛ لا إلا يلحظ أحدٌ غيابنا، ويعلم جلالة الملك بالأمر، وحينها ستكون نهايتي وستعلقين مع جلالته بمأزقٍ كبير.

أومأت "يامور" لخادمها المخلص تؤكد ما قال:

-معك حق "هامان"، انتظر لحظة كي أبلغهم في الاستعلامات برقم ذويه ليتواصلوا معهم.

ولِمَ لا؟!
فرقم الهاتف لن يستعصى على أميرة الجن القمري، فعلتها وبعدها غادرته بلا عودة، ولكنها لم تهجره، بل ظلت تراقبه وتحاوطه بحماية من بعيد، تاركةً معه خاتمها بمثابة تعويذة الحظ والسلامة بالنسبة إليه.

ولكن ما لم يكن بحسبان "يامور" أن عرفانها بجميله سيتحول إلى إعجاب فبدأت تظهر له بالمنام، وانقلب الإعجاب إلى تعلق فبدأت تحدثه ويحدثه، وغدى تعلقها به إلى حب وعشق فزادت من دلالها عليه.

وعندما اقتربت نهاية ما وهبته من عمر ظهرت له لتمنحه أكسير الحياة الذي جعلت أحد علماء عشيرتها يعمل على تحضيره كي يُخَلَّد معها فيعيشا سوياً أو يكون الموت مصيراً محتوماً لكليهما، فإن قَبِل كان بها وإن أبى ستقتله وتزهق روحها.

فقد اتخذت "يامور" قرارها وحسم الأمر، إما أن تهبه روحها وجسدها فيصيرا زوجين أو لن يمس غيرها.

فطوال الخمس سنوات التي أحست بشرارة عشقه تنمو بداخلها يوماً بعد يوم، وهي تُبعِد عنه كل مَن حاولت التودد إليه، وذلك بإلهائها عنه بغيره، أو بأن تُحَوِّله بنظرها إلى شخصٍ متعجرفٍ ومغرور، زارعةً المقت له في قلب وعقل مَن تتجاوز الحدود.
                     Back
"تميم" بشحوبٍ:

-"يامور" أنا لا أفهم شيئاً!!

-هل أنتِ هذه الفتاة التي ظل أبي يبحث عنها؛ ليشكرها على صنيعها.

-فحتى لو كنت قد ساعدتكِ، فكان من الممكن أن تتركيني وترحلي.

-وكيف تقولين إنك أعطيتني من عمركِ لأحيا؟!

-هل معنى هذا أنني أخاطب شبحاً؟!

-هل يوجد شيء كهذا من الأساس؟!

-لا "يامور" أذكر جيداً أنني تحدثت إليكِ وأنا بين الحياة والموت وكنتِ بخير.

-لا تقوليها "يامور" لا تقولي أنكِ مجرد شبحٍ.

-لا تقولي أن حتى ولو كنتِ كذلك، أن ما أعتقدته أنا حباً، لم يكن بالنسبة إليك سوى عرفان بالجميل.

العديد من التساؤلات دارت بذهنه قذف القليل منها بوجهها دفعةً واحدة، وما ظنت أنه يسيرٌ وأنها ستستطيع إقناعه بماهيتها وسيتقبلها، بل وستجعله يترك عالمه لينتقل معاها إلى عالمها أصبح أمراً مشكوكاً في تحقيقه بالوقت الراهن ولابد من الحيطة والحذر.

فبالأخير هو إنسي وعقله لن يستوعب فكرة وجود عوالم أخرى وأجناس ومخلوقات غير بني البشر، وحتى وإن كان يعلم، وحتى وإن سمع، فحتماً مَن يسمع ليس كمَن يرى!!

ابتعد "تميم" يلقي بحاله على أقرب مقعدٍ، يميل بجسده إلى الأمام يستند بمرفقيه إلى فخذيه، مطرقاً رأسه يهزه برفض وعدم استيعاب.

فقد كان بالبداية يهيم بصورتها في أحلامه، ولقاءاتهما عن بعد كانت وإن لم تكن مرضية ولكنه كان مكتفٍ، وها ظهرت تُمنِيه بأكثر من صورة، بأبعد من لقاءٍ، بأوقع من الخيال، لتُهدم فجأة كل أملاً له بها.

فإذا كان بُعدها لثلاثة ليالٍ جعله يچن.
فما باله إذا كان بعد التقارب فراق؟!

لتوه تقبل أنها جنيته العاشقة ما دامت ستبقى معه وله.

والآن تقول إنها تلك الفتاة التي أنقذها.

هل تمكنوا منها بعد أن أصابوه، ونقلته هي إلى المشفى؟!

هل بقائها معه؛ لتسعفه كان سبباً في موتها لذا تقول أنها أعطته من عمرها؟!

جلست على المقعد المجاور له وقد آلمها رفضه لها ولا تعلم ما بداخله من صراع.

ربتت على كتفه، فانتقض ليس رفضاً ولكنها احتسبته كذلك، وما انتفاضته سوى لكونه قد شرد بالماضي وعقله يحلل ما دار يوم وقوع الحادث، فقالت بغضبٍ:

-ما بك "تميم"؟! ألهذا الحد بت تبغضني؟!

اعتدل بجلسته، يناظرها بتيه ولم يصله مقصدها، فعقله بوادٍ، وما تقوله بالضفة الأخرى لسفح جبل واديه، أي بغضٍ تقصد؟!
ما به إلا خوف، خوف من أن يُحرم من نعيمه!!

همَّ يجيبها، ولكن ظهر من اللاشيء فتاة تبدو في تقديره بعمر الخامسة أو السادسة عشر تقترب منهما، وبالطبع لن يستوعب عقله مهما قال  أحد أن من قدر عمرها على هذا النحو تبلغ من العمر ألف وخمسمائة عام إن لم يكن أكثر.

الفتاة موجهةً حديثها إلى "يامور"، قائلة:

-سيدتي، مولاي يطلب حضورك في التو واللحظة.

جحظت عينا "تميم" مما يرى، وتملكته الغيرة مما سمع بشأن مولاها الذي يطلب حبيبته في الحضور، ولوغاريتمات تدور بعقله، وأحجيات وألغاز تحيرت لها مراكز الإدراك والاستيعاب لديه.

رفع سبابته، يتسائل بفاهٍ مُفغر، وهو يشير بإتجاه تلك الفتاة:

-مَن هذه؟! ومن ذاك الذي يطلب حضورك؟!

أشارت "يامور" إلى الفتاة، فاختفت في لمح البصر:

-"تميم" لا وقت لديَّ الآن للشرح والإجابة عن كل تساؤلاتك.

ومن ثم أشَّرت برأسها تجاه "همس" المتصنمة كالآخرين، قائلةً بغيرة وهي ترمقها بنظراتٍ متفحصة من شعر رأسها إلى أغمص قدميها:

-ابقَ بعيداً عنها، وتصرف مع أمك حتى لا أؤذها.

صدمة!! وذهول!! وهو يردد ببلاهة:

-أمك!!

قالتها وهي تطرقع بأناملها لتفك الأصنام ثباتها، تزامناً مع اختفائها اللحظي.

ترى ماذا سيحدث عندما تَمْثُل "يامور" بين يدي أبيها الملك "طلخان"، ومعه مَن ينتظرها وستكن أفكارها مكشوفةً بالنسبة إليه؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي