الفصل الرابعِ سحرَ الماضي

الفصل الرابعِ: سحرَ الماضي.
-ما هذا لقدْ انتهى التسجيلُ الصوتيُ لصديقتي ؟ على وعدِ منها بتكملتهِ، أتمنى أنْ تكونيَ بخيرِ سأبعثُ لها الآنِ برسالةٍ صوتيةٍ، لعلها تسمعها في الواتسْ الخاصَ بها مغلقٌ منذُ يومينِ .

قامتْ "مليكا" بفتحِ الواتسْ الخاصَ بها، وجعلتْ تقرأُ في آخرٍ محادثةٍ بينها وبينَ "ريتالْ" صديقتها، منْ الطفولةِ التي تصغرها ب أعوامٌ قليلةٌ .

_ "ريتالْ" لقدْ انتهى التسجيلُ الصوتيُ ولمْ تكملي ما حدثَ معكَ لمْ أكنْ اعلمْ، أنكَ مررتي بتجربةٍ صعبةٍ مثلٍ التي مررتُ بها، لكنَ ما مررتُ بهِ هوَ أقلُ شأنا بكثيرٍ مما تحدثتْ عنهُ، أرجو منكَ أنْ تكمليَ وأنْ تأتيَ إلى هنا في أسرعِ وقتٍ، لا أدري ما هيَ الأمورُ المعلقةُ التي تريدينَ إنجازها .

وأنتَ الآنِ في فترةِ نقاهةٍ مما مررتُ بهِ، وقدْ تركتْ عملكَ أرجو منكَ أنْ تأتيَ إلى مصرَ مباشرةً، ولا تذهبي إلى "كهفِ هرقلْ"، أعتقدُ أنَ ذكرياتٍ كثيرةً ستؤذيكَ مرة أخرى، لا أعلمُ ما هيَ ومنْ هوَ ذلكَ الشخصِ، لكني يا حبيبتي علمتْ فيما سبقَ أنكَ كنتُ مخطوبةً لشخصٍ منْ غيرِ جنسيتنا لكنهُ عربيٌ الأصلِ،

وعلمتْ بعدها بفترةِ أنهُ توفيَ لا أعلمُ غيرُ ذلكَ أرجوكُ طمأنيني عليكَ هذا أولاً وثانيا أتمنى أنْ تكونيَ بأفضل حالِ عندما تسمعينَ هذهِ الرسالةِ، وابعثي لي بباقي ما مررتُ بهِ في رسالةٍ صوتيةٍ طويلةٍ على نفسِ الايميلْ لا تنسى يا حبيبتي .

وبعدها بعدةِ ساعاتٍ استمعتْ "ريتالْ" إلى الرسائلِ الصوتيةِ التي بعثتها "مليكا"، كانتْ تجلسُ أمامَ المحيطِ تنظرُ إلى تلكَ الحيتانِ التي تأتي في هذا الميعادِ منْ كلِ عامٍ، هيَ تنتظرُ قدومها منذُ صغرها في البدايةِ معَ والدها وبعدَ ذلكَ أصبحتْ وحيدةً، وتنظرَ إليهما بمفردها تتمنى أنْ تكونَ مثلهمْ .

-كمْ تمنيتُ أنْ أكونَ فردا منْ سربكمْ، أنْ أنزلَ إلى قاعةِ المحيطِ، ولا أريدُ الخروجُ منهُ أبدا بلْ سأجلسُ انظرْ للجميعِ منْ هنا منْ أسفلَ منْ مكاني، وبعدها سأصعدُ مباشرةَ سأصعدُ بسرعةِ كبيرةٍ مثلٍ ذلكَ الحوتِ الجميلِ أنهُ كبيرٌ لكنني أحبهمْ وأحبُ كيفَ يرتفعونَ في الفضاءِ، ويغوصونَ مرةً أخرى .

لا أعلمُ كيفَ ابتلعَ الحوتُ يونسْ، لكنْ لوْ لمْ أكنْ حوت لا أردتَ أنْ أكونَ مكانهُ، أنْ استقرَ في قرارِ حوتٍ كبيرٍ يأخذني إلى مناطقَ بعيدةٍ أنْ يرمينيَ على أيِ جزيرةٍ ليسَ بها بشرٌ، لقدْ كرهتهمْ جميعا كفرتْ بما يسمى الحبُ لوْ كانَ الحبُ رجلاً لقتلتهِ مثلما فعلتْ معَ منْ قامَ بغيرِ بغرزِ سيفهِ الدامي في قلبي .

تذكرتْ تلكَ المعلومةِ التي قالها لها والدها أنَ في هذا الميعادِ منْ كلِ عامٍ، تأتي الحيتانُ الكبيرةُ قريبا منْ الشاطئِ وتقومُ بالغوصِ حتى رمالِ ذلكَ الشاطئِ، سيتساقطُ جلدها المليءُ ببعضِ الفطرياتِ وكأنها تلقي عنها جلدها وبعدَ ذلكَ، وحكمهُ لا يعلمها غيرَ الخالقِ يأتي سببا كبيرا منْ الأسماكِ ويأكلُ ما نفضتهُ الحيتانُ عنْ جلودها .

أمسكتُ هاتفها بعدما جلستْ، وهيَ تنظرُ إلى ذلكَ المنظرِ الخلابِ، تقومَ بتسجيلِ رسالةٍ صوتيةٍ طويلةٍ أخرى، إلى صديقتها وتتذكرُ في نفسِ الوقتِ :

-تريدينَ معرفةُ حكايتي، وأنا أجلسُ هنا اصرخْ بأعلى صمتِ لديَ، في غربهِ أحاطتْ بالروحِ، أتعلمينَ كمْ هوَ صعبٌ ذلكَ الشعورِ بالفقدِ والوحدةِ القاتلةِ، لا مكانَ لي إلا بينَ أكوامَ الوجعِ وأصعبِ شيءٍ، أنَ ذلكَ السيفِ المغروسِ في صدورنا نحنُ الموتى الأحياءَ،

قتلنا الحبُ بيدي منْ أحببناهمْ، بقاءُ ذلكَ السيفِ مؤلمٍ وسحبهِ أكثرَ إيلاما، لا حياةً لنا كانَ منْ حولنا أمواتا، لا يستمعونَ إلى تلكَ الصرخاتِ التي نطلقها بصمتِ مدوي، وحتى وأنْ استفاقوا واستمعوا إلى تلكَ الصرخاتِ سيرجموننا اتهاما، كأننا لمْ نكنْ نعني لهمْ شيئا في يومِ ما، أتعلمينَ يا صديقتي، تبا لمنْ قتلونا، ولتلكَ الظروف التي ذبحونا بها .

وها أنا يرافقني الآنَ شعورَ بأنني قدْ أصبحتْ غريبةً، وأنَ الأماكنَ التي أقصدها لا تشبهني، وإنني سأظلُ لاجئةً أينما ذهبتُ، أشعرُ أنني كلما ذهبتُ أعودُ مرةٌ أخرى، وكلما عدتُ أذهبُ مجددا، كأنني أحاول أنْ أعيشَ وهما أنَ هناكَ منْ ينتظرني، فأجدني أعود مرةٌ أخرى إلى حيثُ جئتُ، إلى حيثُ لا أدري، وأعودُ حاملهُ خيبهُ فوقَ خيباتي،

وأهمسُ في نفسيٍ لا بأس، قدْ أضعتُ مساري وابحثْ عنْ ذاتيٍ . وأنادي أعلى صوتِ يا أنا هلْ تقبلينَ اعتذاري، فما زلتُ مشتتةً الأفكارِ عاجزةً عنْ التقدمِ ولا أستطيعُ التراجعُ منْ مكاني، مثقلةً أنا منْ ماضٍ لمْ أستطيعَ نسيانهُ حزينةً منْ حاضرٍ أخفقَ في احتوائيٍ، لا مكانَ لي فيما مضى، وأعتقدُ أنَ ذلكَ المقعدِ الذي أنظرُ إليهِ ليسَ في انتظاري، مشلولةً الحركةِ أخافَ منْ الاقترابِ،

جميعٌ منْ أحسنتْ الظنَ بهمْ خذلوني، فاقدةً الثقةِ لمنْ حولي أخشى أنْ أمضيَ في أمنياتي فتكون هلاكي، وبعدها أعلق بمشنقةِ الحياةِ، أنَ تحركتْ كانَ انتهائي، وإنْ بقيتْ ينفطرُ قلبي، ولا زلتْ انتظرَ كما أنا، ذلكَ القلبِ الذي لازالَ ينبضُ، يبحثَ عنْ الحياةِ، أنا تلكَ الأنثى بقلبِ طفلهِ، تعثرتْ بهِ أقداري واندسَ بكلِ تفاصيلهِ لأصبحَ أنثى الجنونِ، أصبحتْ أعزفُ على قيثارةِ الهوى، واتساقطْ شوقا،

لقدْ توغلَ داخلَ صدري مدغدغا نضجَ الأنوثةِ، تحتَ خمارِ الخجلِ، قابضا بتلابيبَ قلبيٍ حتى حملتهِ بداخلي، وقدْ خبأتهُ بينَ أضلعي، لقدْ أصبحتْ مأهولةً بهِ، عشقهُ يقطنُ قلبيٌ وأوردتي .

لفتُ نظرها جمعَ منْ طيورِ النورسِ، نظرتْ إليهِ وتذكرتْ عندما كانتْ تأتي هنا أولاً، ثمَ تذهبُ إلى والدها في عملهِ وهيَ ما زالتْ طفلةٌ صغيرةٌ،

تقومَ خالتها على إيصالها أمامَ بابِ المتحفِ وتقومُ هيَ وهيَ ما زالتْ ابنةُ العاشرةَ بالدخولِ بمفردها إلى ذلكَ المتحفِ الضخمِ تدورُ وتشاهدُ المعروضاتُ التي شاهدتها منذُ صغرها عدةَ مراتٍ، فهيَ ممتعهُ وبعدُ ذلكَ تذهبُ إلى مكتبِ والدها، الذي كانَ على مساحةِ نصفِ دورٍ بأكملهِ تقومُ بالطرقِ على البابِ،

ولا تستنىْ أنْ يؤذنَ لها بلْ تفتحُ مباشرهُ وتنظر يمينا ويسارا أينَ هوَ وبعدَ ما تجدهُ تجري ناحيتهِ، وترتمي في حضنهِ ذلكَ الحضنِ الدافئِ الذي طالما اشتاقتْ إليهِ :

-حبيبتي لماذا اتيتي في هذا الوقتِ المبكرِ ؟ كنتَ اعتقدكَ نائمةً فغادرتْ المنزلَ، وها أنا بعدُ نصفِ ساعةٍ أجدكُ أمامي ؟

-نعمْ يا أبي مازلتُ متشوقةً لمعرفةِ بقيةِ الحكايةِ، لقدْ قلتُ لي أنَ هناكَ قوةٌ خفيةٌ، أريدُ أنْ أعرفها وهلْ منْ الممكنِ أنْ امتلكها أريدُ أنْ أدمرَ أعدائي يا أبي، أريدُ أنْ أدمرَ منْ يقومونَ على إيذائي أريدُ أنْ انتهى منْ تلكَ الكوابيسِ التي تأتي إلى، وذلكَ الذي ينادي اسمي أشاهدهمْ منْ بعيدٍ، لكنهُ لا يقومُ على إيذائي بلْ يناديني فقطْ ولا أعلمُ منْ هوَ .

-حبيبتي تعاليَ اجلسي أمامي هنا، أولاً لنْ يستطيعَ أحدٌ على إيذاءكَ مرةً أخرى، وأنْ استطاعوا أوْ حاولوا أريدكُ أنْ تكونيَ قويةً أنْ تتماسكَ كلُ مشكلةٍ، ولها الحلُ المناسبُ لها حتى السحرِ فلتقاوم لتتعلمي ويجب أنْ تعلميَ جيدا أنهُ ليسَ جميعُ اللجانِ منْ الأشرارِ،

سأحكي لكَ حكايةٌ صغيرةٌ كانتْ في مدينةِ أمي هيَ ليستْ مدينةً هيَ قريةٌ صغيرةٌ، تابعةً لمحافظةٍ تدعى محافظةُ " كفرِ الشيخِ " وتلكَ المحافظةُ مقسمةً إلى كثيرٍ منْ القرى، أمي كانتْ تسكنُ قريةً منهمْ وكانتْ صغيرةً عندما حدثَ ذلكَ، تريدينَ سماعها أمْ نتحدثُ عنْ سرِ القوةِ الخفيةِ أولاً ؟

-لا يا أبي أريدُ سماعها، أريدُ كلُ شيءِ تعلمهِ عنْ جدتي أنا أحبها كثيرا .

-حسنا يا ابنتي عندما كانتْ جدتكَ صغيرةً في السنِ صغيرةً، طفلةٌ في مثلٍ سنكَ الآنَ كانتْ لها أختٌ جميلةٌ، أتعلمينَ أنها تشبهكَ لقدْ قالتْ لي أميُ ذلكَ عندما ذهبنا إليها المرةُ السابقةُ لذلكَ فهيَ تجلسكَ دائما أمامها وتقبلكَ كثيرا فأنتَ شبيههُ أختها .

-أكملَ يا أبي، أعلمَ أنني شبيههُ أختَ جدتي، لقدْ قالتْ لي ذلكَ وقدْ طلبتْ منها أنْ أشاهدها فبكتْ .

-بكتْ لأنَ اختها وكانَ اسمها "هناءْ" حكايةً غريبةً جدا معَ الجانِ، أتعلمينَ في الماضي ويمكنُ إلى الآنَ الجميعُ يخافوا في القرى، منْ جنيهٍ يطلقونَ عليها النداههْ، النداههْ بمعنى أنها تقومُ على مناداتهمْ ليلاً وتقفُ في منتصفِ النيلِ أوْ الترعِ أوْ المجرى المائيِ، الذي يتواجدُ لديهمْ فتسحرَ عيونهمْ ويحاولونَ الوصولَ إليها ويغرقونَ .

كانَ الجميعُ يخافُ منها خائفونَ أكثرَ في الليالي التي يكونُ فيها القمرُ بدر، ولا يخرجونَ منْ منازلهمْ بعد صلاةِ العشاءِ وحتى صلاةِ الفجرِ، تمَ خطبهُ "هناءْ" على قريبٍ لهمْ وكانتْ تبلغُ منْ العمرِ 17 عاما، وقالَ والدها أنهُ حينَ تتمُ 18 يقوم بتزويجها مباشرةٍ، ومنْ اليومَ الأول لخطبتها،

وكلَ عدةَ أيامٍ تقفُ شبحَ ما أمامَ منزلهمْ وتنادي " هناءْ " افتحي البابَ " هناءْ " افتحي البابَ، فتقومُ " هناءْ " بالذهابِ إلى البابِ وهنا انتبهَ إليها والدها ووالدتها وأخيها الأصغرِ سنا الذي كانَ يبلغُ وقتها 16 يقومونَ على تكتيفها .

حتى لا تخرجُ فإنَ النداءَ الخاصَ بتلكَ الجنيهِ، يؤثرها ويجعلها مسحورةً لتذهبَ وتفتحَ البابَ، ظلتْ تنادي سنةَ "هناءْ"، "هناءْ""هناءْ" تكررَ الاسمُ ولا تذهبُ لتفتحَ البابَ، لقدْ منعها أهلها حتى أنَ الجميعَ قدْ ابتدأَ أنْ يسمعَ هذا النداءِ قبلَ بلوغِ "هناءْ" الثامنةَ عشر، وهوَ الميعادُ المخصصُ لزفافها وعندما اقتربَ الوقتُ منْ ميعادِ الزفافِ بشهرٍ أوْ شهرينِ، جعلتْ تلكَ الجنيهِ تتركُ على الأبوابِ،

افتحي يا "هناءْ" وعلى تركا هائلاً لكنْ لا أحدَ يفتحُ وعندما أتمتْ "هناءْ" 18 منْ عمرها وقدْ تبقى لها أسبوعٌ على زفافها نادتْ تلكَ الجنيهِ بأعلى صوتِ لديها لقدْ انتهى الوقتُ أحببتها، وأردتُ أنْ أقومَ على إنقاذها لكنَ الوقتَ قدْ انتهى لمْ ينتبهْ أحدٌ أنَ "هناء" كانتْ تتألمُ منذُ سنةِ ابتداءِ الألمِ في شكلٍ بسيطٍ ثمَ ابتدأَ يزيدُ، ويزيدَ كانَ الجميعُ يقولونَ أنَ هذا تأثيرُ هذهِ الجنيهِ إلا أنَ المسكينةَ ماتتْ بالمرضِ الخبيثِ،

نعمْ لقدْ انتشرَ السرطانُ في جسدها في تلكَ السنةِ وكانتْ تلكَ الجنيهِ الطيبةِ، تريدَ أنْ أما على علاجها أوْ إبلاغها أنها مريضةٌ، وبعدُ ذلكَ غادرتْ الجنيهَ ولمْ تأتيَ إلا في اليومِ الذي دفنتْ فيهِ " هناءْ "، أتتْ وقامتْ بالصراخِ بأعلى صوتها كنتُ أحاولُ إنقاذها، وأنتمْ منْ قتلتوها، عرفتْ الآنِ يا ابنتي ليسَ كلُ الجنِ أشرارٌ وهناكَ فرقُ بينَ الجنِ والشيطانِ.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي