الفصل الثاني

بين ماض لا يعود وحاضر يصعب التعايش معه تقضي ميس أيامها، تفني سعادتها بحثا عن رضا من يدعى زوجها، لا سبب لهذا سوى أنها كانت تقنع نفسها بأنها تحبه ويجب أن تستمر معه طيلة حياتها.




في اليوم التالي عاد رائد يذكر ميس بضرورة الذهاب من أجل مساعدة ابن جارهم في دراسته.
ردت ميس بقولها: حسنا كما تريد، سأذهب عندما انتهي من بعض الاعمال الضرورية.

الح رائد بقوله: اذهبي بعد خروجي من البيت فورا لا داعي للتأخير.

لم يرق إلحاح رائد لزوجته، لكنها لم يخطر في بالها سبب مقنع لهذا، حدثت نفسها بأن الامر كله متعلق بالمال لا أكثر.


وصلت ميس إلى باب بيتهم بعد أن طرقت الباب خرجت جارتها ماريا مرحبة بها: أهلا بك يا ميس، تفضلي.

ردت ميس التحية ودخلت إلى البيت، بعد أن جلست وهي تتأمل بيت ماريا كان جميل وكل شيئ في مكانه، فيه من الورود أنواع مختلفة، ثم لفت ميس ذلك الأساس الراقي، بلونين الأبيض والذهبي، كان يبعث على الراحة والهدوء.

وأجمل ما وضع في البيت تلك الصورة لماريا مع زوجها، وهي تضع يدها على كتفيه وهو ينظر لها بحب، تنهدت ميس حسرة على حالها، السعادة الغامرة التي تبدو على ماريا تمنتها ميس لنفسها أيضا.

هزت ميس رأسها تنفض عنها ذاك الشرود، ثم حدثت جارتها و سالتها عن حالها قائلة: كيف حالك يا ماريا منذ زمن لم أراك.
ضحكت ماريا من كلامها قائلة: وكأنك تأتين إلى بيتي كل يوم لكنك لا تجدين أحدا يفتح لك الباب، لا ادري ماذا يشغلك عنا؟

ميس: ااه، كلامك صحيح لكن الوقت يمضي كالسراب، لا أشعر فيه وكأن اليوم أصبح لا يكفي إلا لإعداد الطعام والشراب.

قاطع حديثهم دخول ابن ماريا، أنه حذيفة يحمل بين يديه عدد من الكتب والدفاتر متعددة الألوان والسعادة بادية على محياه فرحا بما لديه.

جلس الصغير بجوار أمه فسألته ميس تتودد إليه: كيف حالك يا حذيفة؟
لم يتكلم ذاك الصغير وأخفى وجهه خلف أمه، ضحكت ميس وجارتها، ثم استأذنت ماريا لتعد القهوة من أجل ميس.

بينما بدأت ميس بالحديث مع الصغير حول دراسته وعن أحلامه عندما يكبر، وعن أكثر المواد الدراسية التي يتقنها.

بعد أن انهت ميس درسها من حذيفة، جلست مع ماريا تخبرها عن مستوى ابنها الدراسي فقالت: طفلك يجيد الحساب بطريقة رائعة وبدأ أيضا يتعلم الحروف.

سُرت ماريا بما سمعت عن ابنها وقالت: أشكرك من كل قلبي يا ميس، والأن أخبريني عن المبلغ الذي تريدنه مقابل الاستمرار في تعليم حذيفة.

تلعثمت ميس من سؤال ماريا فهي لا ترغب بأن تتقاضى نقود، إلا أن رائد لن يتردد في محاسبتها فقالت ميس لها: اعطني ما تستطيعين دفعه، لن يكون بيننا شرط محدد، فليكن الأمر على قدر استطاعتك، أنا أحب حذيفة ولا مانع لدي أن اقوم بتعليمه لو كان بدون أي مقابل.

ارتاحت ماريا من كلام ميس وردت: أشكرك على جميل تقديرك، أنت أنسانة رائعة تستحقين من السعادة الكثير، ارجو من الله أن يرزقك طفلاً تؤنس به حياتك.

لم تتكلم ميس أبدا، فهذا الأمر حساس بالنسبة لها وخاص جدا، لا تود مشاركته مع أحد.



بعد كل ذاك الوقت غادرت ميس بيت جارتها ومازال بالها عالق في تلك الجملة التي سمعتها، وهي تحدثت نفسها قائلة: لم لا يصبح لدي أطفال إلا الان؟ مر على زواجي ما يقارب الخمس سنوات!

ضحكت مستهزءة بما قالت: أخشى على قطة تقطن بجوار عديم الرحمة، كيف له بأن يكون عنده أطفال، يحتاج من يربيه مرة أخرى.

فتحت باب بيتها الحديد بلونها الأسود، وكأنها تدخل إلى زنزانتها من بعد استراحة لتنفس الهواء، تجولت ميس في بيتها، تتأمل جدرانه الباردة، لاحياة فيه منفية عنه السعادة، قالت لنفسها: أي حياة تعيشين؟ حتى أن الهواء بين هذه الجدران قليل، لا يشبه بيت ماريا في شيء.

أسدلت الشمس ستائرها معلنا انتهاء ذلك اليوم، ومع حلول المساء عاد رائد إلى البيت كالعادة، ميس مثل غيرها من الفتيات تحب الشوكولاتة ودائما ما تتمنى أن يدخل زوجه وهو يحمل معه قطعة لها، رغم معرفته بالأمر إلا أنه لا يلقي بالا.



أغلق عينيه، تنهدت ميس مرتاحة بأنه نسي الأمر، لم تمر إلا بعض ثوان حتى فتح عيناه ونهض من فراشه يسألها: ها؟ لم تخبريني عما حدث معك اليوم في بيت جارنا؟

تلعثمت ميس وقصت عليه بعض ماحدث متجنبة الحديث عن المال، قاطعها قائلا: لا يهمني من كلامك هذا شيء، كم أعطتك زوجته؟
لم تنطق بل ذهبت إلى حيث وضعت حقيبتها، واخرجت تلك الأوراق النقدية، ثم عادت تمدها إلى رائد، بعد أن عدها سألها مجددا: هل هذا كل شيء؟

أومت برأسها موافقة، ثم اعاد رائد النقود إليها وقال: ضعيها في محفظتي.




لم تستطع ميس سجن دموعها أكثر، حتى هطلت من عيناها ماء كالديمة( ذاك المطر الهادئ بدون رعد ولا صوت)، بدون صوت ولا حتى نفس، خشية أن يسمع صوتها رائد ويستيقظ، بينما هي تكتم صوتها ضحكت مستهزءة من نفسها وقالت: عندما يكون مستيقظ لا يشعر بي، كيف له أن يسمعني الآن؟



في صباح اليوم التالي ذهبت إلى بيت ماريا، كما اتفقت معها من أجل حذيفة، وعند ما وصلت بيتها وطرقت الباب، فتح له ابنها الصغير قائلة: تفضلي أمي تنتظرك في الدخل.

استغربت ميس من الأمر إلى أنها دخلت لترى ما الأمر، وما أن وصلت إلى غرفة المعيشة حتى رأت ماريا طريحة الفراش مستلقية، أسرعت نحوها تسألها عن حالها: ما حالك هذه يا ماريا؟

بصوت يكاد يسمع قال ماريا: لا تشغلي بالك يا ميس، كنت أقف على كرسي من أجل تنظيف النافذة، إلا أن الأمر لم ينتهي إلا بسقوطي على الارض، ولا اشعر بقدمي.

بدا الحزن واضحا على ميس وقالت لها: دعيني أرى ما الذي حدث لك.
وما أن رفعت ميس الغطاء عن قدم ماريا حتى رأتها قد تخضب لونها، وتضاعف حجمها، أيقنت ميس في داخلها بأن أمر ما قد اصاب ماريا.

قالت ميس: يجب أن تذهبي إلى المستشفى حالا، قبل أن يتفاقم الوضع أكثر وتزداد الأمور سوء.

تنهدت ماريا وقالت: لقد سافر زوجي خارج المدينة منذ أمس، ولن يعود قبل يومين.
قاطع كلامها صراخ ناتج عن شدة الألم ولم تستطتع أن تكمل ما أردت قوله.

حاولت ميس تهدئة ماريا وتفكر في حل من أجل مساعدتها، خطر في بالها الاتصال على زوجها رائد، فهو لديه سيارة أجرة.

اتصلت ميس عدة مرات لكن دون جدوى، لم يكن يجيب على تلك الاتصالات، كتبت له رسالة تخبره فيها بما حدث، لم تلقى نتيجة أيضا.
.

صعدت المرأتين وماريا تكتم وجعها بقدر ما تستطيع، إلا أن بعض اهات الألم تخرج منها، وطلبت ميس من السائق أن يأخذهم لأقرب مستشفى.

بعد ما يقارب النصف ساعة خرج الطبيب بنتائج، سألته ميس: أخبرني حضرة الطبيب ما حالها؟
بعد أن ازال النظارات عن عينه رد عليها قائلا: لقد وجدنا كسر في عظم الساق ولهذا نحتاج لتركيب جبيرة لها.
عادت تسأله ميس مرة أخرى: هل ستفعلون هذا الان؟
أجاب الطبيب بالموافقة وضرورة الأمر.
بعد هذا خطر على بال ميس سؤال وقالت: كم يستغرق الأمر حضرة الطبيب؟
أجابها الطبيب قائلا: لربما ساعة او أكثر قليلا.

شكرت ميس الطبيب وهمت بالخروج، لكنها سألته قبل أن تخرج: هل يمكنني الدخول معها وأنتم تضعون الجبيرة؟

هز الطبيب رأسه بالنفي ثم أعتذر من ميس بعدم السماح لها، وقال لها: يمكنك أن تجلس في المكان المخصص للانتظار، أو في مكان شرب الشاي.

كانت ميس تمشي في أروقة المستشفى تحدث نفسها: لم أكن اتخيل في صباح هذا اليوم بأنني سأتي إلى المستشفى، تحدث كثيرا من الامور بدون السيطرة عليها، أو التمكن من رد وقوعها، مهما كان الانسان حريصا.

وهنا قررت ميس أن تتصل برائد مرة أخرى، لكن من دون جدوى، لم يجيبها أيضا، بدأت ميس تسأل نفسها عن سبب تجاهل رائد اتصالاتها الكثيرة، ألا يخشى ان يكون قد وقع سوء؟ أو أنني بحاجة لمساعدة؟

تنهدت بحرقة وحسرة على حالها مع هذا الكائن، ومضت تسير نحو النافذة تحدق نحو المارة، تبتسم حين ما يمر من أمامها شاب وفتاة تمسك يده وتشد عليها، وكأنها متكئة على سند لا يميل أبدا.

تحزن حينما ترى عجوز هرمة تقطع الشارع وحدها وقد حنى ظهرها، وفي زحمة الأمور هذه انتبهت على أمر مريب، حدقت جيداً، حتى أنها افلتت يداها بعد أن كانت ضمت بهما نفسها، ووقفت على أطراف أصابعها، لترى بوضوح أكثر.

وهي تتمتم بصوت منخفض قائلة: هل هذه سيارته؟ لربما اتى إلى هنا ليراني بعد أن قرأ رسالتي.

مرت بعض الثواني وإذا به رائد يترجل من سيارته، ضاحكا ولا سبب واضح لهذا، وفي تلك اللحظة أيضا من الجهة الأخرى نزلت فتاة من سيارة رائد وهي ضاحكة.


وكانت وجهتهم نحو ذلك المطعم الفاخر المقابل للمستشفى، قطعا الطريق سويا ودخلا، ميس تراقب كل تفاصيل حتى غابا عن عيناها.

بعد ما تأكدت من صحة رؤيتها، جلست على كرسي كان بجانبها محاولة استعاب ماحدث، كانت تشعر نفسها وكأنها ريشة ضعيفة تطير من كل نسمة، لم تعد تطير إنما سقطت أرضا هذه المرة.

تسأل نفسها ميس: ما الذي فعلته له حتى يرده له بهذه الطريقة؟ لم يكتفي بكل سوء أفعاله؟ هل استحق كل هذا؟ اعطيته كل ما لدي من حب ومشاعر، إلا أنه داسها أرضا، لكن ليس بعد الآن.

نهضت ميس من مكانها غاضبة، وقد قررت أن تقف في وجهه متحدية قذارة فعله، لأنها تدرك تماما لو أن الأمر كان عكسيا لكانت الآن في عداد الموتى.



بعد أن وصلت إلى الشارع قطعته بدون النظر حولها، لم يكن لشئ أن يوقفها أبدا، تخبطت مشاعرها بين الغضب والحزن، (من هذه الفتاة التي اقتربت من زوجي؟ سأفعل ما بوسعي لأبعادها)

وصلت إلى ذاك المطعم تبحث بعينيها عنهما، إنها لا ترى أحد سوى المحاسب وشخص أخر يعد الطعام، التوتر واضح جدا عليها، محاولة التماسك اقتربت من المحاسب وسألته: عفوا، أين يمكن لي الجلوس لتناول وجبة؟

رد عليها المحاسب قائلا: أهلا وسهلا بك، تفضلي من هنا المكان المخصص لتناول الطعام.
وأشار بيديه إلى درج لم تره ميس من فيض غضبها، وقالت له ميس: شكرا لك.
ثم همت بالصعود عاد ليسألها المحاسب: هل أنت بحاجة مساعدة؟
نفت ميس ذلك بهز رأسها يمنى ويسرى، وتابعت سيرها بخطوات غير متوازنة نحو الأعلى، حيث تعتقد أن رائد وتلك الفتاة يجلسان.

في أخر الدرج كانت صالة كبيرة، فيها الكثير من الناس، مليئة بالطاولات، وقفت ميس تبحث بعينيها عنهما وقبل أن ترى شيئا قاطعها النادل قائلا: تفضلي سيدتي هناك طاولة فارغة، يمكنك الجلوس عليها.

ردت ميس: شكرا لك، لكنني جئت لمقابلة أحدهم، إنه هنا.

النادل: حسنا، كما تريدين وأنا جاهز للخدمة في أي وقت.

عزمت ميس على السير في القاعة الكبيرة، لأنه هناك زوايا لا تستطيع رؤيتها، وهي متأكدة من وجوده في المكان.

بينما هي تجول بين الطاولات لمحته أخيرا، إنه رائد برفقة تلك الفتاة، وكأن روحها انتزعت منها في تلك المرة.

اقتربت منه بكامل هدوئها، رغم ضجيج عقلها والخراب الهائل الذي حل بقلبها، وكأنها أصبحت مشردة لا تجد من يؤوي هذا القلب البائس، لكنها لم تأبه لحالتها، كل ما كان همها في تلك اللحظة أن تنظر في عينيه وهو يخونها.

لم يلحظ رائد وجود أحدا يقترب منه، كان مشغولاً جدا بتلك الجالسة أمامه، ممسكا بأطراف أصابعها، يهمس لها بشئ لم تستطع ميس سماعه، إلا أنها أصبحت بمحاذاته تماما.

ابتسمت ابتسامة صفراء لا حياة فيها ولا فرح وقالت له: يا لها من مصادفة رائعة، كيف حالك يا_ يا رائد؟

انتفض رائد مذعورا لم يدري ما يقول أو ما يفعل، صدم جدا من رؤية زوجته ميس بجانبه في تلك اللحظة، كور يده مشكل قبضة يود أن يصفعها بها، أمسكت به في الجرم المشهود، وفي مكان عام يجب عليه أن يبرر إذا ما يفعله لها.


القلق والخوف تمكن من أوصال رائد، فهو يخشى أن تنفجر ميس في وجهه كالبركان تقذف حمم غيرتها وخذلانها هنا وهناك، لم تكن تلك المسكينة المهزومة أولوياته حينها، بل كان يخشى على نفسه من الفضيحة.

توسعت عينا رائد، وتغير لون وجهه بدا شاحبا مصفر، قال لها: أهذه أنت؟ ماذا تفعلين هنا؟

أما ميس فكانت تحدق بتلك الفتاة تبحث عن شيء مميز فيها، عن جمالا قد لا يكون عندها إلا أنها لم ترى ما بحثت عنه، ثم ردت على رائد بقولها: صدفة رائعة أن أجتمع بك هنا.

تدخلت تلك الفتاة تسأل رائد مستنكرة أسلوب ميس: من تكون هذه؟

هم رائد لإجابتها إلا أن ميس سبقته بقولها: يوجد بيننا علاقة لربما تكون سطحية إلا أنها تسمى زواج.

صدمت الفتاة القابعة مقابل رائد ولم تقل شيئا، واكملت ميس بقولها: هذا يعني أنك تجلسين مع زوجي الآن.

حاول رائد السيطرة على الأمر وتبرير موقفه السخيف في تلك اللحظة وقال: ليست الأمور كما تبدو لك.

ربتت ميس على كتف زوجها وقالت له ببرود: إنها واضحة ولا حاجة لشرح اي شئ منها، كأنها بدر في ليلة مظلمة.

أضافت قائلة بنبرة مستهزئة في حناياها كثير من الحزن والاسف على موقف مهين وجدت به زوجها وقالت لهما: ألن تدعوني للجلوس معكما؟ أم أن الأمر خاص ولا يمكن استضافة أحد؟ وأن كنت أنا؟

يتبع_
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي