الفصل الخامس

الأمور تغيرت لم تعد كما كانت بالأمس، مع بداية كل يوم تتغير الحكاية، هذا ما حدث مع ميس إنها شخص أخر، لكنها بذات الملامح البريئة الهادئة.

تبحث ميس في ذاكرتها الفارغة عن حديث روان وما تعنيه، حتى سرحت في خيالها لمكان بعيد لكن دون أن تصل إلى شيء، في أثناء الشتات الفكري الذي يحدث داخل رأسها، سألتها روان وفي نفسها خوف من حال صديقتها: ميس هل أنت بخير؟

عدلت جلستها وقالت لصديقتها: نعم، وهل يبدو عليي غير هذا! أم أنك تريدين إيهامي.

أشاحت روان نظرها وكأنها تحدث نفسها ثم قالت لها: نعم؛ تبدين مريبة للغاية، وكأن أمر جلل قد حدث لك في غضون الساعات السابقة.

ساد الصمت والسكون لبرهة ثم أضافت روان قولها: ماذا حدث مع رائد؟ هل كل شئ على ما يرام؟!
لم يرق كلام روان لصديقتها ميس وبدا الأمر واضحاً عليها: أي موضوع قد يجمعنا للحديث به؟ لا أرغب حتى في ذكر إسمه، شخص معتوه.

صفقت روان بيديها وكأنها تنفض عنهما غباراً ثم توجهت تسألها بنبرة حادة وفيها يأس من فهم ما يدور برأسي ميس: ألم تكوني أنت من تحدث معي بشأن رائد في الأمس؟

بدت علامة الاستفهام واضحة على وجه ميس لكنها لن تستطيع أخبار روان بما حدث وأنها تعلم حقيقة رائد وماذا يريد منها فقالت لها: لا يوجد شيء ثابت في الحياة حتى أن هذه الأرض التي نجلس عليها تدور وتتغير، وشمس تغيب ويحل الليل لا يوجد قانون ثابت.

نهضت روان لتقف مقابل ميس وسألتها: عن أي تغيير تتحدثين ما تقولينه انقلاب بحد ذاته، لا أظن أنك ذات الشخص الذي كنت معه في الأمس وكأنك واحدة أخرى، أن كنتي مريضة أفضل أن تعودي إلى البيت كي تستريحي.

ضحكت ميس بخبث ومكر وهي تقول: نعم لم أعد أنا، صديقتك باتت شخصاً لن يعرفه أحد، حتى أنت يا عزيزتي.

ثم أضافت في نفسها:" ليتني أستطيع أخبارك يا روان بما يجري معي لعلك تساعديني في ايجاد حل لمثل هذا الأمر، لن تصدقي ولربما ترين بأني قد جننت، لكن سأخبرك بكل شيء في الوقت المناسب"

قررت ميس إنهاء ذلك الحوار الذي لا جدوى منه واقترحت على روان الإنطلاق في نزهة كي يقضين وقتاً ممتعاً بدل الذهاب إلى مكتب الجامعة وقبل أن ينشغلن في تحضير مشروع التخرج الخاص بكل واحدة منهما.

بعيدا عن ذلك المكان، وفي بيت الجدة أمينة كانت قد حلت لديها ضيفة، لم تكن ضيفة عادية، بل حضرت لأمر مهم تسعى له؛ كي تتم الأمور على أكمل وجه وبأقرب فرصة، إنها السيدة عبير والدة رائد.

تعمدت الحضور في وقت غياب ميس عن البيت، كي تستطيع الحديث مع الجدة كما يحلو لها فهي تعلم بأن الجدة همها الوحيد هو حفيدتها، رحبت أمينة بضيفتها وجلستا لتبادل أطراف الحديث.

كانت عبير تسعى للوصول إلى أمر ما وتحوم حوله، فسألتها: إلى متى ستبقين حفيدتك دون خطبة أو زواج؟ ألا يتقدم لخطبتها أحد؟!

تنهدت أمينة وهي تفكر بحال ميس ثم قالت لها: أخشى على حفيدتي كثيراً، أرغب بأن تتزوج من شاب جيد قبل أن أموت.

عبير: ميس فتاة جميلة ألا يتقدم لها أحد بقصد الزواج؟ لا يعقل هذا هل فقد الشباب عيونهم؟

هزت رأسها الجدة أمينة ثم قالت: أجل تقدم لها الكثير من الشبان ومنهم ذوي أماكن اجتماعية مرموقة وبوظائف جيدة وعوائل معروفة في البلدة، لكنها لم تقبل بأحد منهم ولا أستطيع إجبارها على أمر كهذا.

ثم أضافت على كلامها بعد أن شردت في أفكارها وهمومها: لدي كثير من الأموال وبعض الأسهم في شركة لتصدير منتجات غذائية خارج البلاد، وهذه الأمور المالية بحاجة إلى من يتابعها، ولا أخفي عنك خوفي على ميس بأن تكون وحيدة في إدارة مثل هذا، فهي طيبة القلب وأخشى عليها من كيد الطامعين.

فكرت عبير ملياً في الأمر ثم قالت مقترحة على الجدة أمينة بقولها: قبل أن أحدثك بما لدي أود أن تعرفي جداً أن الأمر بالنسبة لي مهم جداً ولو لم يكن كذلك لما تحدثت ابدا.

سألتها أمينة مستغربة بعد أن عقدت حاجبيها: ماذا تقصدين؟
ردت عبير وأخبرتها بما لديها: ولدي رائد تعرفينه، قد رأى حفيدتك ميس أكثر من مرة وأثارت إعجابه وحدثني بالأمر وهو يرغب بالتقدم لها، يود الزواج منها أن كنتي تقبلين بهذا ولا مانع لديك؟

لم تتوقع الجدة أمينة مثل هذا الطلب وتلعثمت كلماتها لم يكن لديها ما تقوله إلا أنها فكرت قليلاً ثم قالت: لقد فاجأتني بهذا لم يخطر لي إطلاقاً أن يكون رائد وميس معاً كعائلة.

بنبرة مسكية متوددة قالت لها عبير: حديثك الآن عن خشيتك وخوفك الكبير على ميس أعطاني حافزاً كي أتحدث، أنت تعلمين بأن ولدي رائد قد درس في قسم المحاسبة المالية وإدارة الأعمال لذا ستكون أموال ميس بأيدي أمينة، أرى أنه أفضل من البقاء تحت تصرف المحامي أو أي شخصا أخر.

طلبت الجدة أمينة فرصة للتفكير بالأمر قبل الحديث مع ميس به، ومن بعده يتم الاتفاق أو الرفض على عرض عبير وولدها.

أكدت عبير بأن هذا حق ميس في القبول أو الرفض وأنها في شوق كبير لمعرفة رأيها في هذا، وأن رائد أيضا لا يقوى الانتظار ليسمع الإجابة التي يتمناها.

أمضت ميس وروان اليوم كاملاً خارج البيت يتمشين بين المحال التجارية، يلتقطن بعض الصور للذكرى، كانت ميس كطفلة صغيرة إحمرت وجنتاها من السعادة، ثم تعبت لكثرة اللعب والتنزه، وفي نهاية المطاف قررنا الذهاب إلى إحدى المطاعم وتجربة أنواع جديدة من المأكولات، رغم إنها تحب الطعام التقليدي بعيد عن التجارب.

بتلك الأشياء البسيطة كانت ميس ترى نفسها قد عادت للحياة التي افتقدها، فرصة جديدة لكي تغيير ما لا يستحق أن يوجد أو أن يقترب منها حتى، اقتلعت الرحمة والمغفرة من قلبها بل سيكون الأمر جنونياً للغاية، حتى أنها ستكون على مستوى عال من المتعة، وللانتقام مكان كبير الآن ممن يستحق فقط.


قبل أن تغرق الشمس بين الغيوم وتعلن الغياب لهذا اليوم، عادت ميس إلى البيت، أمسكت قبضة الباب ثم همت بالدخول، تبادر لها بأن تتأكد أنها عادت إلى بيت جدتها وليس بيت رائد.

بعد أن دخلت بدأت تبحث عن جدتها لتطمئن عليها، لاحظت وجدو حذاء لرجل ما في البيت، من يكون ياترى!

قرعت باب الغرفة الخاصة بجدتها وإذا به المحامي الموكل بجميع أموال العائلة أنه الأستاذ حمزة.

ألقت ميس التحية عليهما، كانت تود الدخول لمعرفة ما يحدث لكن للجدة رأي أخر فقالت لها: هل يمكنك أعداد فنجانين من القهوة يا ميس؟

استغربت من طلب جدتها لأنها رأت الفناجين أمامهم على الطاولة، وأدركت على الفور بأن هناك أمر خاص يدور بين الجدة والمحامي، لم تلقي للأمر بالاً وذهبت تفعل ما طلبته منها جدتها، في المطبخ وجدت أيضاً فناجين قهوة فقالت محدثة نفسها: يبدو أن ضيوف جدتي لهذا اليوم كثر، من يكون قد زارها يا ترى!

بعد أن انتهت من تحضير القهوة وقبل أن تدخل إلى الغرفة سمعت طلب غريب لجدتها من المحامي فقالت له: ما حدث الأن سيبقى بيننا ولن تعلم به ميس حتى الوقت المتفق عليه، كن حريصاً على هذا، ولو ألحت ميس بسؤال غير مصرح لك بالإجابة.

قال لها الأستاذ حمزة مطمئناً: لا عليك سيدتي، الأمور سوف تسير بالطريقة التي طلبتها، وكما جرت العادة.

طلبت الجدة طلبا أخر من المحامي وقالت: اود الحصول على نسخة من هذه الأوراق، ودعى عندك الأوراق الاصلية.

وافق المحامي على طلبها وقال لها: حسناً، سأفعل ما طلبتي سوف أعود غداً وأحضرها معي، هل تريدين شيئاً أخر؟

أمينة: لا، هذا يكفي لليوم، أن طرأ جديد في الأمر أخبرك على الفور.

.نهض الأستاذ حمزة خارجاً من البيت أدركت ميس هذا وهمت لدخول في نفس اللحظة، ثم قالت له: إلى أين لا يمكن أن تذهب قبل أن تشرب القهوة!

ابتسم ابتسامة لطيفة وقال لها: في المرة القادمة يا ابنتي، لدي عمل مستعجل، عن إذنك.

بعد أن انصرف المحامي، بقي الكلام الذي سمعته ميس عالقاً في ذهنها عن سبب تلك السرية حول الموضوع، وعدم رغبة جدتها أن تعرف ما يجري أو ما تخفيه في الوقت الراهن.

عادت إلى جدتها تجلس معها لعلها تتحدث بشيء يوضح ضبابية الأمور وأن تخبرها بما يجب عليها معرفته كي تستطيع فهم وإدراك ما يدور حولها.

لم يحدث ما أرادته ميس والتزمت جدتها الصمت حول الأمر الذي تحدثت به مع المحامي واكتفت بسؤالها: كيف كان يومك يا ميس؟

أخبرتها كيف قضت الوقت بصحبة روان وعن الاماكن التي زارتها، ثم أضافت أيضا: لدينا بحث غدا حول تأثير الصحافة على الرأي العام للناس، يجب علينا أن نقوم بإستطلاع رأي وعلى موجبه نقوم بوضع نتائج.

نامت الجدة وهي تستمع إلى حديث ميس ضحكت عندما رأتها قد غطت في نومها العميق، قامت ثم وضعت لها غطاء وانصرفت إلى غرفتها، تبحث عن أشياء قد تزيد من معرفتها بما يجري في هذا الوقت، وجدت دفتر مذكرات خاص بها كانت تكتب عليه ما يخطر لها ولا تستطيع الحديث به لأحدهم.

قلبت الصفحات تبتسم تارة، ثم تقلب شفتاها حزناً تارة أخرى، كان ما تقرأه يجعلها ملمة بما حدث في تلك الفترة، قاطع تركيزها المنصب في تلك المدونة رنين هاتفها، لم يكن رنين اتصال أو مكالمة بل كانت رسالة نصية.

لم يكن هناك اسم مسجل بل كان من الواضح أنه رقم غريب لم تكن تعرفه، كتب لها في رسالته: لم يكن من السهل الحصول على رقمك بذلت الكثير في سبيل هذا، لكنك تستحقين كل ما لدي كي أقترب منك أكثر، فأن خسارتك لا تعوض بثمن.

بدت الصدمة على ملامح ميس من يكون "هذا! وكيف وصل إلي! ماذا يريد مني!" أسئلة كثيرة تسارعت في رأس ميس لم تلقى لها إجابة فظنت أنه لربما أحد ما قد أخطأ في الرقم ليس إلا.

ألقت هاتفها جانباً دون أن ترد، ثم عادت لتبحث عن رواية تقرأها كما كانت تحب أن تفعل أمسكت إحدى الروايات وبدأت تقرأ منها

" ‏‎لا أحد يتخلى عن الأشياء التي يحبها إلّا بعد أنْ تحترق يده من الحفاظ عليها، كان من المفترض ألا احبك، لأني كنت أعلم ان الجسر اليك مقطوع، ومجرد التفكير فيك ممنوع ، والظروف كلها ضدي وضدك .

رغم كل ذلك احببتك، ليس لأني أريد ذلك، بل لأن الله قذف شعورا في قلبي تجاهك قذفاً، شعور كالتيار الجارف، لا قوة تصمد ضده، و هكذا انجرفت، و ابتلتني الأقدار بحب لا كلمة لي ولا قرار أمامه"

ثم أغلقت الرواية بضحكة مستهزئة وهي تحدث نفسها: هل بقي من الحب شيئاً في وقتنا هذا! تراهات العشاق التي لا تنتهي، لا يمكن أن يحب أحد شخصاً غير نفسه.
رغم اليقين بقرار نفسها أن الحب أجمل شعور قد تحصل عليه في هذه الحياة، ورغم خاجتنا إليه كطبيعة بشرية خلقنا الله عليها.

قاطع أفكارها صوت هاتفها بعد أن عاد للرنين مرة أخرى، شعرت بتذمر وتأففت منه إنها رسالة نصية جديدة ضحكت وقالت: هل عاد الهائم المجهول لمراسلتي؟

كان كما توقعت إنه هو يقول هذه المرة: أعلم جيداً أنه من الصعب اقناعك بي لكني أسعى للحصول على فرصة واحدة حتى يثبت حبي لك، أود ان أخبرك أيضا اليوم كان مميزا بالنسبة لي بعد ما التقينا في حديقة الجامعة.

تأكدت حينها ميس بأنه أحد يعرفها وليست مجرد مصادفة أو أنه أحد قد أخطأ بالرقم، بل هي المعنية بكل كلمة يقولها فضولها دفعها للرد على رسائله بكلمة واحدة: مَن؟

جلست تنتظر عدة دقائق كي يأتي رد على سؤالها، لكن الهاتف رن هذه المرة فأجابت بسرعة ولهفة: ألو؟

ردت عليها روان بسخرية: هل كنت تجلسين على زر الهاتف يا عزيزتي؟ أما أنك تنتظرين سماع صوت أحدهم؟

تنهدت ميس ثم قالت لها: هل هذه أنت! نعم لقد كنت أحمله في يدي أقلب بين صفحات.

سألتها روان مستنكرة: من تنتظرين في مثل هذا الوقت، هيا أخبرين يا فتاة ولا تخفي عني شيء.

نفت ميس ما قالته صديقتها: ومن يسأل عني حتى انتظره مثلا؟ طبعا لا لكنني استغربت من اتصالك في هذا الوقت، دعك من هذا الكلام وأخبريني ماذا هناك ما سبب اتصالك الآن؟

إجابتها روان: كدت انسى الأمر الذي كنت أنوي الحديث به معك، لقد تمت دعوتي لحضور مؤتمر حوار صحفي مع كبير المسؤولين في الحكومة، يرغب بمنح فرصة للطلاب الجدد وسمح لي بدعوة شخص أخر، هل تودين الذهاب معي؟

سُرت ميس بدعوة صديقتها وأخبرتها بأنها موافقة فوراً للذهاب معها لمثل هذه المناسبة المهمة سألتها: متى يكون الموعد وأين بالتحديد؟

قالت لها روان: غدا صباحاً أتي إليك ونتحدث في الأمر كي نجهز بعض الأسئلة من أجل اللقاء.

انتهت المكالمة بينهما على هذا الاتفاق، بعد أن أغلقت ميس الهاتف لاحظت وصول رسالة جديدة لها فتحتها وصدمت من ذلك الرد: مازلت أحفظ رائحة عطرك التي كانت على عنقك، كنت قريباً جدا منك وأعدك أني لن ابتعد عنك، لي قلب يقوى على حبك، لكن فراقك لست اقواه.

ثم أنهى رسالته بكتابة إسمه: رائد.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي