الفصل الثامن والعشرون

انتهى صمت ميس عند ما انفجرت أعماقها وبدأت تتحدث وتقول: لم يكن الأمر بمقدوري حاولت منذ البداية لكن الأمر أكبر بكثير من قدرتي وطاقتي على الصبر.

يحاول أمجد فهم شتات أفكارها وترتيب ما تقول، لكن الأمر صعب فهو لا يعرف شيء عن ماضي ميس ولا ما قد حدث معها، لكنه عزم على أن لا يقاطعها.

وأكملت ميس: كنت أعيش في كنف أبي وسط عائلة تحبني، وتهتم بي، الجميع بها يحبني، ولا يرفض لي طلب كنت مدللة لدى العائلة كلها.


أبي يعمل في بيع العقارات وشراءها، حتى اشترى بعض الأملاك من هذه التجار، غير أن الأمر كان يعود علينا بالنفع.

كنت الوحيدة والتي لا يرفض لها طلب مهما كان ولاني الفتاة الصغيرة كلامي سمع وطاعة.

أمي كانت ربة منزل عادية تحبني وتعتني بي، تحاول تعليمي بعض الأرقام والكلمات وعندما استجيب لما قالته واحفظ معها كانت تكافئني.

عائلتي تغمرني بدفء المحبة وتضمني بين كفين من الحنان والعطف.

لكن هذا الحال تبدد، لم تدوم سعادتي.

قاطعها أمجد يسألها وقال: ما الذي تغير؟ وكيف لسعادة أن تنتهي.

قالت ميس: سعادتي كانت مرتبطة بأشخاص، لذا عند غيابهم أشعر بعدم السعادة وبغيابها.

استغرب أمجد و قال: من الذي غاب عنك؟

وهنا بدأت ميس تروي له قصة رحيل والديها وقالت: في ذلك اليوم بكيت كثيراً كنت أرغب بالذهاب معهما، لكن أبي رفض طلبي بشكل قاطع، وقال لي حينها سأعود بسرعة.

لكنني لم أكن مقتنعة بهذا الكلام ولم أصدقه، وطلبت من أمي وقلت لها: أرجوك دعيني أذهب.

فطبطبت عليي أمي ببتسامتها الرقيقة التي اعتدت عليه وقالت لي: صغيرتي الحلوة والدك يقول دعينا نذهب انا ووالدك الآن وسوف أعوضك عن هذا بنزهة أجمل.

وقدمت لي وعود عن الاشياء التي ستحضرها لي، وكنت أصدقها في كانت لا تكذب حتى في تهديدها، وقالت لي: كون فتاة مطيعة حتى أعود لا تعذبي جدتك وتجعليها تتعب معك أنت مرتبة ومؤدبة كوني كما عهدتك من قبل.

عنقتني أمي وضممتها إلي بشدة وكأنني لا أريدها أن تفلت ذراعي.

ثم صمتت قليلاً فقال أمجد: وما الذي حدث بعد ذلك؟

قال ميس بنبرة يملأها اليأس والحزن، وكأن الكلمات خنقتها قالت: تركتني

ثم بدأت نوبة بكاء جديدة، استمرت لدقائق وبعد أن هدءت أكملت قائلة: تركتني، هي ووالدي وخرجوا.

بقيت طوال اليوم انتظرهما حتى يعودا، ولم يعود أحد منهما، كما جرت العادة، وعند مغيب الشمس جاء واحد من الرجال الذين يعملون لدى والدي وقال لجدتي هناك أمر مهم عليي أخبارك به.

قالت جدتي: هات ما عندك؟

قال الرجل: لا أعرف من أين أبدا الكلام لكنه خبر سيء، أرجوك تقبلي ما سألقيه على مسامعك.


شعرت جدتي بتوتر وغضبت من البرود الذي يتحدث به فقالت: هيا قل ما عندك يجب أن أعرف وأنا أقرر الهدوء او الغضب.


قال الرجل متلعثم: انا أسف يا سيدتي، لم أكن أرغب ان اجعلك تغضبين.

لكن كل ما في الأمر أن السيد مصطفى وزوجته قد تعرضوا لحادث سير، وهما في المستشفى.

تقول ميس متحدثة عن نفسها: كنت بجوار جدتي عند وصول الخبر لكنني لم أدرى ما حدث فعلاً.


وما إن سمعت كلام الرجل حتى بدأت بالبكاء وانفجرت عيناي بدموع ولم أتوقف رميت نفسي بين أحضان جدتي وهي تحاول أن تتظاهر بالقوة بجسدها الهزيل النحيل، ارتجف حتى صوتها.


وهي تحاول تهدأتي، وطلبت فوراً من الرجل أن يعد سيارة للذهاب إلى المستشفى حيث كانو يرقدون على سرير أبيض كما ينام الميت بلا حركة.

ذهبت معها وفي أروقة المستشفى الطويلة بين الغرفة الكثيرة نبحث عن غرفة العناية المركزة.

أنا اركض ممسكة بيد جدتي أدور بعيني لعلي أرى ما يدل عنهم، لكن لم أرى أحد.

حتى وصلنا إلى أمام تلك الغرفة، ذات الباب الزجاجي، ونصف جدارها زجاج، كي يتمكن الناس من رؤية من فيها.

وإذا به أبي ممدد على السرير ووضعت له خراطيم التنفس والانعاش، كانت عيناه مغمضة وفمه مفتوح.

صرخت فزعة من ذلك المنظر لقد كان مخيف بالنسبة لي ولم أكن قادرة على تحمله.

وفي الغرفة المجاورة كانت الحنونة أمي ترقد على سرير يشبه الذي في غرفة أبي، لكن جسدها غطاه الحروق وكأن جسدها قد جف من شدة النار واللهب.

أشتعل قلبي حزن لرؤيتهما، لقد كان حادث مأسوي وصعب للغاية.

فسأل أمجد بفضول وحسرة على ما عاشته: وكم استمرت المعاناة؟

قالت ميس بعد أن جففت دموعها بكم قميصها فلم تعد تملك مناديل: لم تدم طويلاً ، لربما هم قد ارتاحوا ويشعرون بالسلام والسكينة الآن لكن أنا انفطر قلبي حرقة عليهم.


قال أمجد: كم بقيتي على هذا الحال؟

قالت ميس مجيبة له: لمدة أسبوع كامل اذهب يومياً برفقة جدتي اراقبهما من خلف الزجاج وحتى كنت أنام احيانا وأنا أتأملهما على ذلك الكرسي المقابل للغرفة.

في صباح يوم الخميس عندما ذهبت لزيارتهما كما اعتدت لعلي أرى تحسن على حالهما، لم أجد أبي في مكانه، فرحت وظننت أنه تحسن وأخرجوه.

ذهبت مع جدتي نسأل عنه وما هو الذي حدث في ليلة أمس عند غيابنا.

قال لنا الطبيب بنبرة خجلة ثقيلة عليه وعلينا: لقد فعلنا ما بوسعنا لكننا فقدنا المريض في الصباح الباكر.

صرخت جدتي بأعلى صوتها: ولدي، حبيبي، إلى أين ذهبت وتركتني وحدي؟

وأنا لم أكن أفضل حالاً فقدت الوعي على الفور وسقط أرضاً، دون أن أشعر بنفسي لقد كان الأمر أقسى من أن اتحمله بسهولة.

لا أطيق ذلك اليوم ولا ذلك الشعور يؤلمني جداً، بعد أن استعدت وعي وذهبنا إلى البيت، أحضروا أبي كي نودعه ونلقي عليه النظرة الأخيرة.

كان وجهه بارد يداه رخوتان ثقيلتان خاليات من الروح والحياة لم يعد فيهما ما ينبض وبدأ وجهه يصبح شاحبا مع كل تلك البرودة، ضممته للمرة الأخيرة وهمست له بأذنه: لقد طلبت منك أن تأخذني معك ولا تتركني وحيدة، وعدتني أن تعود لكنك لم تفعل.

رغم أنك لم تكذب عليي ولا لمرة واحدة، لكن هذه المرة فعلت وتركتني ضيعفة بدونك لا أملك من القوة شيء سوى اسمك وأنني ابنتك.

قالت ميس: حدثته بما كان يجول في خاطري وما علق في قلبي، هل يا ترى كان يسمعني ؟

رد عليها أمجد: بتأكيد فقد سمعت أنا عن هذا الأمر، وقيل بأن الشخص المتوفى يسمع أحاديث أهله وعائلته ويشعر بهم حين يأتون لزيارته.


ثم صمتا قليلاً فقال أمجد: لدي ما أقوله هل تسمعين؟

أومت ميس برأسها وقالت له: هات ما عندك تحدث؟

رد عليها أمجد: لا أعلم من الذي مر بشعور أقسى أو أصعب أنا أو أنت؟

لم تفهم ما كان يقصد فسألته: ماذا تعني؟

رد عليه أمجد: أنا لم يسمحو لي بأن أودع أبي وحتى الآن أشعر بالحسرة على نفسي لأني لم أره.

ثم تابع قائلا: لكن الآن بعد حديثك هذا شعرت أنني بحال أفضل منك رغم شوقي وحبي له الذي لا ينتهي ولا يجف حتى يومي هذا.

ثم قال لها أمجد: ماذا عن والدتك يا ميس؟

قالت ميس له: وكأنها شعرت بأن زوجها قد رحل ولم تستطع أن تبقى وحيدة، ثم لحقت به بعد يومين فقط.

سألها أمجد: وهل ودعتها أيضا كما ودعتي والدك؟

قالت ميس بحسرة: ربما حسرتي على وداع أمي تشبه حسرتك على وداع والدك.

أمجد مستغرباً: لماذا يا ميس ما الذي حدث معك حينها؟

قالت ميس: لم استطع توديعها فقد كانت حروقها بايغة ولم يكن بمقدوري عناقها، ولم أدري أنها عانقتني قبل مغادرتها العناق الأخير.

انتهى الجزء الأول من قصتنا أتمنى أن تنال إعجابكم، سنكمل تتمت الأحداث في الجزء القادم.

يتبع_
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي