الفصل العشرون

أقسى أنواع الخذلان تلك التي تأتي من أشخاص كنا نراهم بقعة ضوء في حياتنا، ومن يكونوا السند الذي نلجئ إليه في تلك الشدة، لكن المؤسف حقاً هو أن نجعل لأنفسنا أسرار لا نخبر بها من هم بمكان مهم في حياتنا، وأن نخشى على أنفسنا من أناس نحبهم إنه الخذلان ذاته.

تراقب ميس بهدوء ما يجري أمامها وكأنه مسرحية لا شأن لها بتفاصيلها، تقترب تلك الفتاة ذو القامة طويلة نحيفة الخصر ترتدية بدلة رسمية أنيقة بلون أبيض وبعض الخطوط البنية.

وتقول لرائد: أسفة أن جعلتك تنتظر كثيراً.

رد عليها والابتسامة تملى محياه: انتظرك بقدر ما تشائين حتى تنتهي.

ضحكت هي وقالت: أخشى أن تمل من انتظاري.

فقال لها رائد: انتظارك سعادتي.

لم تكن ميس تصدق ما تسمعه هل هذا يجري أمامها بين زوجها وتلك الفتاة التي لا تعرف اسمها ولم تراها في حياتها، في تلك اللخظة انتبهت الفتاة لوجود ميس في المقعد الخلفي، فنظرت إليها نظرة دونية دون أن تلقي السلام أو التحية عليها، ظن منها بأنها زبونة مع رائد ولم يخيل لها بأن تكون زوجته.

ثم قال رائد مكمل حديثه مع تلك الجميلة: هيا ألن تصعدي؟

فقالت له تلك: لا مازال لدي بعض العمل هنا، يجب أن اكون هنا بجانب العروس حتى تنتهي حفلة الزفاف.

لم يعجب رائد ذلك الاعتذار فكان يأمل أن يقضي معها بعض الوقت.
ثم قالت له: يجب ان اعود إلى عملي الآن، اتصل بك إن احتجت شئ.

أومى رائد رأسه وانصرفت تلك الفتاة، وميس في حال من الدهشة دون التدخل فهي في الحقيقة لا تجرأ على القيام بأي أمر قد يغضب ذلك المجنون.

انطلق رائد بعد أن ودعته دون أن يلتفت لتلك المرمية خلفه غير أبه بها أو مهتم لحالها أيان كان.

وهي صامتة طوال الطريق لا تجيد الكلام ولا فعل أي شئ سوا البكاء، كانت منكسرة القلب والخاطر، ولا حول لها ولا قوة، ضعيفة في قبضة خفاش ظالم، لا أحد يرى صورته الحقيقة هذه سوى ميس المسكينة.

بعد وصولهم إلى البيت ذهبت ميس إلى زاوية وجلست دون أن تحدثه أو تسأله فالأمر واضح حتى الاغبياء لا يحتاج شرح أو تفسير حتى.

وهو حاول زيادة الاضطراب في قلبها وزيادة الضغط عليها كي يتشعر بنقصها أمام الأخريات من الفتيات.

لم يدعها تداوي نفسها حتى بل كان يزيد الطعن في جرحها كي يتشفى بها وبما تشعر به وكي يراها تتألم اكثر فهذا أكثر ما قد يمنحه السعادة.



وهي وحدها تقاوم جبروت ذلك الطاغية، نعم هي تراه طاعية عليها فهو من يفعل كل الافاعيل السيئة بها.

وبعد عدة أيام ذهبت إلى بيت والده، لقد كان مازال على قيد الحياة في ذلك الوقت قبل الحادث بعدة أشهر.

حدثت أمها بما حصلت وانهمرت بالبكاء وقد بدت الحسرة عليها، لم يكن بوسع الأم فعل أيا شئ لبنتها فقالت لها: أعلم أنك تتالمين وأنه رجل خائن بعينك.

قالت ميس: هذا صحيح يا امي فأنا أحبه كيف يستطيع فعل بي ما قد فعل؟

قالت امها: اسمعيني يا صغيرتي أغلب الرجال يفعلون مثل هذا الأمر، وهذا لا يعني أنه صحيح ومن الطبيعي عمله، لكن عليك أن تكون حكيمة نفسك، ويكون لديك ثقة بأنك انت زوجته وهم فقط نزوات وسيمضين بلا شك.

قالت ميس وهي تبكي: لكن تصرفاته تلك تجعلني اكرهه، وأشعر بالنفور نحوه، وأنا لا أرغب ان اخسر مشاعري اتجاهه.

قالت الأم: كل هذا سيمر وسيعود إلى صوابه لكن عليك أن تصبري قليلا وانا الى جانبك لا تقلقي.

خففت الأم عن ابنتها عبء ذلك الشعور بكلمات ودعوات جميلة تحب ميس أن تسمعها.


ترقرقت عينا ميس بدموع بعد ما عادت من تلك الذاكرة، وقالت لنفسها: لن اسمح لهذا بأن يحدث هذا لي، لن يصل ذلك لمكان يخوله بفعل ما قد يفعله أو يخطط له، سانتقم منه حتى على أفكاره.


بعد أن نام أمجد لعدة ساعات متواصلة في حجر أمه، رن الهاتف وهو بجيب بنطاله، فشعر به مما جعله يستيقظ، فرأى أمه مازالت جالسة كما كانت عند ما نام منذ ساعات.

اخرج هاتفه من جيبه وإذا به ذلك الرقم المشؤوم صاحب العصابة يتصل كما توقع المحقق بدأ يحصل.

غادر الغرفة سريعاً واغلق الباب على أمه وأخيه طريح الفراش، ورد عليه بصوت مرتجف ثقيل من طول النوم وقال: الو.

ضحك الرجل على الهاتف وقال: يبدو أن الرجل اتعبك حتى رحل،تستحق قسط من الراحة انت أيضا.

بثت تلك الكلمات الملغومة الكثير من الرعب في قلب أمجد ولكنه لم يفهمها، إلا أنه حاول تشتيت الموضوع فقال: لقد فعلت ما طلب مني، و الآن جاء دورك، عليك أن تبتعد عني وعن عائلتي.

قال الرجل ساخرا: كيف أترك أوفى رجالي؟

استنكر أمجد ما وصف به وقال: لست من رجالك، أبحث عن أحد غيري، كان اتفاق وانتهى، هذا مفهوم؟

قهقه الرجل وقال: منذ متى وأنت تقول مثل هذا؟ انت الأن واحد من رجال مجموعتي.

غضب امجد من تلك الجملة التي سمعها وقال: لست من رجال أحد، دعني وشأني.

قال الرجل: أنت منذ ليلة أمس قد انضممت إلى جماعتي، لن تستطيع العيش بهدوء بعد أن تلطخت يديك بدماء، ستكمل في الطريق الذي بدأته.

ثم صمت لبرهة وأكمل قائلا هذا جزاء ما فعله أخيك، أم أنك تريد أن تجلس بجانبه طريح الفراش بدون حركة.

لم يقل أمجد شئ إلا أنه اشتعل غضبا، إلا أنه عاد لصوابه متماسكاً نفسه بعد أن ترددت كلمات المحقق في ذاكرته ( إنها خدعة وسيقعون بالفخ، وأنت من الأفراد المهمين في هذه القضية لا تقلق سينتهي كل شئ ونحن مسؤولين عن حمايتك).


ثم ابتسم وهو يكلم ذلك الرجل وقال له: لربما كان كلامك صحيح، حياتي لم تعد ملكي وحدي فأنا مرهون للكثير من الناس، وانا رهن اشارتك لكن دعى عائلتي بعيدة عن كل ما يجري بيننا.

فقال الرجل موافق: لك ذلك لن يقترب أحد من امك الجميلة، كن مستعداً للمهمة التالية بعد أن تهدء تحريات المباحث والشرطة في هذه القضية.


كاد ينفجر أمجد لكن لا حول له ولا قوة للإجابة وقرر أن يحفظ له ما قاله حتى يحاسبه عليه في اليوم الذي تقبض علبه الشرطة كي يقي الناس من شره هو وعصابته.

ثم قاطع الرجل أفكار أمجد وقال بصوت ثخين: هيا اذهب واكمل نومك فهناك عمل كثير ينتظرك.


ثم أغلق الهاتف دون أن يسمع رد أمجد، أو حتى بدون أن تسمح له الفرصة بذلك.

ما إن اغلق الهاتف حتى ضرب أمجد تلك الطاولة التي أمامه وقلبها رأس على عقب.

وما إن سمعت امه ذلك الصوت حتى بدأت بصراخ هستيري دون أن تتوقف عن النحيب، ركض إليها وهو يتأسف ويشتم نفسه على الفعل الذي قام به لتو، دون ان ان يفكر بأمه وهو يعلم وضعها الصحي والنفسي السيئ.

ضم أمه الى صدره وهو يبكي حالها ويعتذر لها، وكأنها طفلته المريضة التي يخشى عليها ويرعاها.

بعد مضي بعض الوقت نامت أمه في حجره كما كان هو قبل قليل، ثم سحب نفسه من جانبها فهو لا يستطيع المكوث طويلا لديه عمل مهم، ينقذ به أمه واخاه ونفسه.

ثم خرج إلى تلك الشرفة التي تعرف كل أسراره، واتصل بالمحقق وقال له: حدث أمر مهم يجب أن اخبرك به.

فطلب منه المحقق ان يحضر فوراً الى القسم، فنطلق على عجلة من أمره، يرتب ما حدث وما قد يحدث في المستقبل فهو يضع حياة عائلته على المحك في هذه الخطوة التي اتخذها لنفسه.

كانت ميس قد جلست تعيد قرأت تلك الرسالة التي أرسلها لها أمجد كي يعتذر منها، ولم ترد عليه بشئ لكنهت كانت تكرر قرأتها دون سبب لربما أنها لم تعد على كلمات الاعتذار تلك.

وفي ذات اللحظة وصلتها رسالة أخرى من أمجد يقولفيها: اخشى ان تكوني حزينة بسببي، ولكن هناك مزيد من الامور تحدث، أن كان يهمك الامر او ترغبين في معرفته هل يمكنني الانصال؟

فكرت ميس قليلا تبحث عن اي رد مناسب إلا أنها وجدته يتصل قبل ان توافق، فقالت له : الو، ماذا هناك؟

رد عليها أمجد بنبرة هادئة: هل ما زلتي مستاءة من الامر الذي حدث؟

قالت بنبرة جافة مليئة بالغرور: قل ما لديك لا أملك الكثير من الوقت.

فقال لها أمجد : اتصل بي الرجل ذاته، وحدث ما توقعه المحقق، وأنا الآن في طريقي الى الشرطة.

قالت له بذات النبرة اللا مبالية: وماذا افعل الآن؟

تلعثم أمجد وشعر بالخجل والاحراج منها ولم يكن يدري ما يقول لها فأجاب: ظننت أن الأمر يهمك لذا قررت اخبارك فانت من طلبي مني أن اضعك في صورة كل ما يحدث.


قالت له ميس بنبرة مستهزءة: حسناً، هذا جيد يعجبني أنك تسمع الكلام وتنفذ ما اقول لك حرفياً.

وكأنها تنتقم من أمجد عن كل ما حدث معها، لكنها تعلم أنه ليس السبب، لكن اعتقادها بأن الرجال جميعهم نسخة واحدة متشابهة بطباع والأفكار لا يختلفون سوى بالوجوه.

لكن أمجد لم يكن يفهم ما يجري داخل ميس وما الذي حدث معها، ولما هي تتعامل معه بهذا الاسلوب وبذات الطريقة فهو لم يكن مسيى لأحد من قبل.

ورغم كل هذا كان بارد الاعصاب معها ويتحمل كل ما تقوله وكل الكلام القاسي الذي ترميه، دون أن تفكر به وبما قد يشعر، فهي لا يعنيها كيف ينظر إليها ولا تهتم لرأيه، إنه وسيلة فقط لتحقيق غايتها.

ثم قال لها أمجد: كما تشأئين يا ميس سأخبرك بما تريدين، مع السلامة.

واغلق الهاتف، بينما كانت هي في صدمة من هدوء والرقي الذي تراه في تعامله معها رغم كل محاولتها كي تستفزه وتجعله يغضب لكن دون جدوى.

ثم قالت لنفسها: جميعهم جيدون في البداية لكن النهايات السعيدة غير موجودة إلا في القصص والحكايات، لن يخدعني هذا الوجه الجميل ولا تلك الكلمات المرتبة، فأنا اعلم أنه يفعل هذا فقط في سبيل أن يتخلص من التهم التي تلاحقه ، ولا يفعل هذا من أجلي.

إنهما اشخاص انانيون لا يحبون سوى انفسهم وغاياتهم، ولا يقومون بفعل ما هون جيد لاحد دون ثمن، دائما ما تدفع المرأة ثمن كل مل يقدمه لها الرجل اضعاف، ورغم هذا يبقى الرجل متعالي عليه وكأنه قد ملك حياتها رهن إشارته.

شعرت ميس بالغضب من تلك الافكار..

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي