الفصل الثامن

البدء من جديد أمر في غاية الصعوبة، بعد أن تدرك حقيقة الأشياء، والمشكلة يكون هذا الإدراك بعد وقت طويل، لربما كان ضروري كي نفهم أنفسنا و ما نحن بحاجة له.

كم هو جميل ادعاء الغباء في وقت أنك تفهم كل شيء، وحين يظنون أنهم كسبوا جولة ضدك كي تخضع وتطعن في سكين اليأس والألم، لكن المفاجآت قادمة، لتغير ماضيك ومستقبلك.


عادت ميس إلى صديقتها، دون أن تقول شئ لها، لكن كلام ذلك الشاب لم يغيب عن تفكيرها، بل كانت تشعر بأن أمراً ما سيحدث، وكان شعوراً سئ قد تمكن من قلبها.

انتهى عمل الصديقتين في ذلك المكان، ثم انصرفتا عائدتين إلى المنزل، كل منهما شاردة الذهن في الأمور المريبة التي حدثت معهما في هذا اليوم ، المليىء بالغرابة والدهشة.

في بيت ميس كان الجدة بنتظار حفيدتها، وما أن سمعت صوت صرير الباب حتى نادتها: هل عدت يا بنتي؟

دخلت ميس من فورها تضع الأوراق والكاميرا على الكاولة وهي تلقي التحية على جدتها: مساء الخير، كيف حالك يا جدتي؟

وجلست بقرب جدتها تسألها عن حالها، ردت الجدة: لقد افتقدت غبت عني طوال اليوم، كيف كان عملك؟

تنهدت ميس بتعب وأرخت جسدها على تلك الكنب وقالت: لقد كان شاق اليوم، تنقلنا بين الكثير من الأماكن، لكن أنجزنا كثير من الأشياء المترتبة علينا.

سكتت الجدة ولم تقل لها شيئا اكتفت بالسمع لما تحدثها به، فقد اعتادت ميس عند عودتها في كل يوم تجلس بالقرب من جدتها، وتحدثها عن كل الأشياء التي حدثت معها في يومها مهما كانت بسيطة وصغيرة، وميس في طبيعتها تحب التفاصيل، ولا تهمل أي منها.

انهت ميس كل ما أردت أخبار جدتها به، لكنها لم تحدثها عن ذلك الشاب، وكتم السر لنفسها، لا تدري لما فعلت هذا، ثم نهضت وهي تمسك وجنتي جدتها وتقول: أحب هذه الخدود الطرية التي تشبه المارشميلو.

وهمت بالذهاب لغرفتها، لكن صوت جدتها قاطع طريقها حين قالت لها: أسرعي في تبديل ملابسك، ثم عودي إلي لدي ما أحدثك به.

ظنت ميس بأن الأمر يتعلق بموضوع الشركات والملكيات، فأومت رأسها ومضت إلى غرفتها.

أما روان في بيتها تحاول الوصول إلى رقم تلك الفتاة التي حدثتها صباحاً في الجامعة، وتبحث عن صديق مشترك بينهما، لعلها تفهم شئ، لأنها كادت تصاب بالجنون، من شدة التفكير وتقليب القصص برأسها، دون جدوى أو الوصل لأي أمر يذكر.


عادت ميس لجوار جدتها، بعد أن أعدت لنفسها فنجان من الشاي الاخضر، وجلست بجوارها تسألها: أنا جاهزة لاسمع كل ما لديك يا جدتي، انتهيت من جميع الأمورفي غرفتي والمطبخ.

عدلت الجدة جلستها وأمسكت يد حفيدتها وقالت لها: طفلتي الجميلة، الدنيا هذه لا تدوم لأحد، وجميعنا راحلون من هنا..

قاطعتها ميس تسألها: وما ضرورة هذا الحديث الآن يا جدتي؟ لا تجعليني أخاف عليك؟

مسحت أمينة على شعر حفيدتها برفق كي تبعث في نفسها الطمأنينة وقالت: انت الشئ الوحيد الذي أخسى عليه من بعد رحيل، وأشعر بأن وجودي في هذه الدنيا ليس بطويل، لذا لدي ما أطلبه منك واتمنى أن توافقي.

قالت لها ميس: أفعل كل ما تريدينه دون تردد أو تفكير.

ابسمت الجدة ابتسامة رقيقة وقالت لها: أريد أن تتزوجي كي أطمئن عليك قبل موتي.

تأففت ميس من ذلك الطلب وقالت: سأفعل هذا عندما يأتي الشخص المناسب.

توسعت ابتسامة الجدة وكأنها وجدت الحل لطلبها وهي متأكدة مما سوف تقوله: يوجد شخص تقدم لخطبتك اليوم، فيه جميع الصفات التي أتمناه لك مع زوجك المستقبلي.

عقدت ميس حاجبيها وهي تخشى أن يكون ما تعرفه صحيح وأن يحدث ذلك الأمر مجددا، ثم سألت جدتها: ومن يكون هذا الفارس يا جدتي؟

بكل ثقة قالت الجدة لها: إنه رائد ابن السيدة عبير صاحبة محل الاقمشة في السوق.

نفضت ميس يدها من يد جدتها برعب عند ما سمعت ذلك الإسم فهي تعرف من هو وماذا يريد، دهشت الجدة من ردة فعل حفيدتها وسألتها: ما الذي أصابك يا ابنتي؟ هل أنت بخير؟ أم حدث أمر ما؟

حاولت ميس لملمت نفسها وهي ترى خوف جدتها ورسمت على شفتيها ابتسامة صفراء جافة واجابتها: لا ياجدتي الأمر ليس كذلك، لكنني شعرت ببعض الألم في بطني، لربما أكثر من تناول المثلجات اليوم، اسمحي لي سأذهب لنوم الآن، نكمل حديثنا غدا.

وأسرعت ميس بالعودة لغرفتها، وهي تعد العدة كي تحمي نفسها من ذلك المجرم البغيض.

ألقت نفسها على سريرها، تحاول النوم بعد ذلك اليوم المرهق.


كان ذلك الشاب يركض في غابة مليئة بالاشجار اليابسة، يحمل فأس كبيرة غطى وجهه بكيس أسود بالكاد ظهرت عيناه من خلاله، انفاسه سريعة متقطعة يلهث بعد ما جرى خلف ذلك الرجل المجهول، الذي كان يرتدي سترة جلدية سوداء متعثر الخطى بين الحجارة، إلا أن أرداه في الأرض.

رفع فأسه إلى الأعلى وهم بتسديده نحو رأس الرجل المسكين الذي يحرك قدميه كسمكة تم أخراجها من الماء وانهمرت توسلاته كي لا يفعلها ويتركه حي ويقول: أرجوك لا تقتلني أنا لم أفعل شيئاً ولا أدري من أنت، دعني وشأني أطفالي بنتظاري.

رد عليه القاتل الشاب: وأنا لا أعلم لماذا أقتلك لكني عبد مأمور، وأحوال إنقاذ عائلتي.

ثم أنزل فأسه الثقيل في رأس ذلك الرجل ونثر دماؤه في كل مكان، انتفضت ميس من نومها مذعورة وكأن ثعبان التف حول عنقها.

أمسكت بكأس الماء القريب من سريرها وارتشفته بسرعة، وهي تلقط نفسها المتقطع، والذعر تمكن من أوصالها تسأل نفسها من هذا الشخص؟ ماذا يريد؟ لا أعرف من يكون.

مرت بضع دقائق حتى استجمعت قوتها، ثم هدءت نفسها قليلاً من الرعب الذي رأته، وعادت لتتمدد على سريرها وهي تفكر.

ولم يعد بمقدورها النوم من شدة القلق والتفكير، حتى انفلق الصباح وهي ما زالت تفكر، ولم يخطر ببالها سوى ذلك الشاب الذي صادفته في البلدية.

وفي العودة لما حدث بالمستقبل، تذكرت ميس عند سمعها بتلك القصة وحديث الصحافة عنها، عندما قتل رجل في الغابة المجاورة للبلدة.

ولم تعثر الشرطة على أدلة كافية للوصول للفاعل، سوى بعض علب التنظيف الحارقة والمشوهة للجلد، ولم تكن ذو نفع في تلك الاثناء وسجلت تلك القضية ضد مجهول، دون معرفة الفاعل.


كانت ميس قد حسمت أمرها،حين عرفت ما يجري، وفهمت تلك الجريمة ومن هو الفاعل، وقررت أن تنقذ الشاب من ارتكابها بعد عودتها من المستقبل، فهي تشعر الآن بمسؤولية وعبء الموت يثقل كاهلها، فهي قادرة على فعل هذا الأمر وإنقاذ شخصين وليس واحد فقط.


اتصلت فجراً بصديقتها روان التي كانت مازال مستيقظة ولم ترى نوم في تلك الليلة أيضاً، رن الهاتف مما بث الرعب في قلب روان واستغربت عن سبب اتصال صديقتها في هذا الوقت وقالت لنفسها: هل حدث مكروه لميس حتى تتصل في مثل هذه الساعة؟ أرجو ان لا تكون قد حدثت مصيبة ما.

بصوت هامس خشية سماع أحد ما قالت ميس: روان، اعلم ان الوقت باكر جداً لكن هناك أمر ما أريد مساعدتك به.

تسلل الخوف لقلب روان وسألتها: ما الذي حدث يا ميس، لم يستيقظ الديك بعد.

عضت ميس على اسنانها بقوة وقالت لها: كفي عن هذه الترهات الآن، ركزي معي قليلاً، علينا الذهاب إلى مبنى البلدية اليوم لأمر ضروري.

تثائبت روان وقالت وهي تضع يدها على فمها: حسناً دعيني أنام لخمس دقائق ثم أعاود الاتصال بك.

غضبت ميس من برود روان وأجابتها: إن كان الأمر كذلك سأذهب وحدي ولا أريد منك أن تأتي معي، عودي إلى أحلامك السعيدة.

ثم أغلقت الهاتف في وجهها دون ان تفسح لها مجال للرد، وهمت بسرعة ترتدي ملابسها للخروج.

في هذا الوقت كانت جدتها تنتظرها، كي تعيد فتح موضوع الزواج من رائد معها، إلا أن ميس كانت على عجلة من أمرها ولم تعطي فرصة لجدتها كي توقفها وتحدثها في الأمر.

فهمت الجدة حينها بأنها تحتاح لمساعدة كي تقنع ميس بما تريد، فقررت الاتصال بسيدة عبير لكي تتفق معها على طريقة ما تقربان بها الشابان من بعضهما البعض.

وهذا ما حدث فعلاً و قامت الجدة بالاتصال بعبير وقالت لها: ارجو منك الحضور إلى بيتي فأنا لا استطيع الخروج كما تعلمين.

سألتها عبير وهي ترجو سماع ما تريد: ما الأمر يا سيدة أمينة؟ هل كل شيء على ما يرام؟

ردت أمينة على سؤالها بالقول: عندما تصلي إلى هنا سوف تعلمين كل ما قد حدث، انتظرك.

ثم اتفقت السيدتان على موعد للقاء و انتهى الحديث بهذا.

وما إن اغلق عبير سماعة الهاتف مع أمينة، حتى اتصلت بابنها لتزف له خبر اللقاء وقالت: لدي ما يسر قلبك وخاطرك يا ولدي.

تحمس جدآ رائد لما سمعه من أمه وقال لها يسألها: أمي الحبيبة دائما ما تزف لي البشائر، ماذا لديك اليوم؟

قهقهت بمكر ثم قالت: صيدنا الثمين وقع في الحفرة، واقترب وقت أكله، كن مستعداً أريد مسؤول في كل تصرفاتك حركاتك وسكناتك لا تتصرف بطيش الشباب، كون عاقل كما أعرفك، أفعالك في هذه الآونة ستحدد مستقبلنا، لذا كن حذراً في كل شيء.

أكد رائد لوالدتها بأنه أهل لهذا وقال: أعدك بأنك ستحصلين على كل ما تريدنه يا أمي، وستكون ثروة ميس بين يديك، ولن أتراجع قبل تحقيق هذا الحلم لك.

ردت عبير: هذا ولدي الذي أعرفه، هيا عود إلى عملك، وسأخبرك بباقي التفاصيل.

عندما يضع الإنسان الانتقام بين عينيه يفقد بصيرته، وتذهب معه أخلاقه وكثيراً من القيم السامية، وقد يدفع أحدهم ثمن شيء لم يفعله هو، بل انتقام من أحد أخر دون أن يدري، ويخدع بالامور الظاهرة فقط.

لم تكن ميس هدف عبير لشخصها بل كان لها أطماع أخرى وأسباب خفية خلف هذه النية، ولهذا أختارتها دون عن جميع الفتيات زوجة لابنها، رغم كرهها وحقدها الشديدين لها ولعائلتها، لكن السر يكمن في الماضي، وهذا ما علينا معرفته واكتشاف أسبابه.

هل ستقع ميس مرة أخرى فريسة بين فكي عبير وابنها؟

أم أن الفرصة التي منحها إيها القدر ستكون ورقة الفوز بين يديها، كي تكفي نفسها وعائلتها تلك الشرور المحدقة بهم.

حانت ساعة الصفر وجاء وقت الموعد المتفق عليه، بين السيدتان للقاء وكل منهما يرغب في تحقيق مكاسبه من الآخر دون أن يحسب لما هو آت، وما قد يخبئه القدر في الأيام القليلة القادمة.

يتبع_
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي