الخامس والعشرون

قالت روان لنادية: أن أشعر يالريبة ولست مطمئنة لشيء وأشعر بأن أمر ما قادم.

استغربت نادية من تلك الأحاسيس الغريبة واستنكرت قائلة: لا تكوني كالغراب الذي ينذر بشؤم تفائلي.

ردت عليها روان: ارجو أن أكون غراب ولا يحدث شئ من حدسي هذا.

ثم قالت لها نادية لتضيع الحديث: ما رأيك أن نأخذ الشاي فقد جهزت.

ردت عليها روان: لدي اقتراح أفضل.

سألتها نادية وما هو؟ جودي عليي بما لديك؟

قالت روان دعينا نأخذ لهم أكواب الشاي وبدون أن نجلس معهم ليكملوا حديثهم، واضح أنهم يفضفضون ما في قلوبهم من هموم.

قالت نادية: ماذا نفعل إذا ؟

أجابتها روان بحماس: نشعل النار كما ترين بدأ الظلام بالهبوط، وسيكون الجو بارد.

قالت نادية: جميل هذا سبب مقنع لن يشعروا بأنها حجة حتى نفسح لهم المجال.

ضحكت روان وقالت جيداً أنك فهمتي قصدي، لذا هيا بنا، نذهب إليهم.


حملت نادية أكواب الشاي وروان تحمل صحن الحلوى التي تحدثت عنها ميس، وقدموا لميس وأمجد ماوحضروه، ثم هموا بالانصراف فسألت ميس: إلى أين يا فتيات؟

قالت روان مبررة لها: نريد ترتيب الخيمة من أجل النوم، وهناك القيام ببعض الأمور المهم أيضا.

فقالت ميس تسأل نادية: وانت إلى أين يا نادية؟

أجابتها نادية: اريد تحضير مكان للموقد كي نجهز النار من أجل البرد والحيوان، تعرفين نحن في مكان مليئ بهم.

قالت ميس موافقة: حسناً، سأتي اساعدكن.

ردت روان رافضة لفكرتها بسرعة: لا لاعليك من هذا، نحن نعرف ما يجب علينا فعله.

ردت ميس: لا يجدر بي الجلوس وانتن تعملن وحدكن.

قالت نادية: ااوف ما هذا العمل الشاق الذي سنعمله؟

ثم قالت روان تكمل حديثها: لو احتجنا سنخبرك بهذا.

أومت ميس رأسها وهي تقول: إذا كان الامر كذلك لا بأس سأكون جاهزة، في أي وقت.

أما امجد فقد كان شارد الذهن لم يسمع أي كلام من الذي دار حوله فهو سارح في مكان بعيد في الماضي قبل سنوات عديدة عاشها من عائلته قبل أن يتغير حالهم إلى ما هم عليه الآن.


بعد ذهاب الفتيات قالت ميس لها: أيه ، أين كنا حدثني أبن وصلت بعد كل هذا الشرود.


قال أمجد: كم يرى الإنسان اشياء كثير رغم أنه يحدق في مكان صغير فارغ.

فسألت ميس ماذا رأيت الآن.

وبدأ أمجد يسرد قصته على أسماع ميس قائلا:

كنت أبلغ من العمر سنوات قليلة، لربما تسع أو عشر سنوات على الاكثر، وأخي أيهم يصغرني بسنتين.

وكنا نعيش مع أمي وأبي حياة هانئة، رغم أننا لم نكن نملك الرفاهية ولا لم يكن حالنا المادي مرتاح إلا أننا كنا سعداء.

في كل يوم خميس يأتي أبي من عمله وهو يحمل لنا بعض أنواع الفواكه رخيصة السعر، ويحاول بين المرة والاخرى أن يحضر أشياء مميزة عن باقي الأيام.

لم يكن عمل أبي ثابت، في كل فترة يغير عمله، وينتقل من شركة لأخرى أو من معمل لآخر حسب ما يستطيع، أحيانا اخرى يطرده صاحب العمل أحيانا لا يناسبه الأجر.

وفي الفترة الأخيرة كان بعمل في مطعم ينظف ويكنس الارض ويلمع الاطباق ويغسل الارض بعد أن ينتهي دوام الطباخين في المطبخ.

يتعب كثيرا من أجلنا لم يكن يخبرنا بهذا لكنني استطيع انا أرى المشقة على وجهه و الإرهاق، و في بعض المرات أسمعه يحدث امي ويشكي عن حاله و ألمه.


إلى أن أتى ذلك اليوم، ولم يعد فيه أبي الى المنزل، انتظرنا طويلاً، لكن دون جدوى، نمت أنا وأخي ونحن ننتظره أو اي شيء يدل عنه، أمي هدئتنا وقالت لنا: ربما لديه عمل أضافي.

يكمل أمجد كلامه بعد تنهيدة طويلة: نمت تلك الليلة وأنا لا أعلم بأنني سأستيقظ على كابوس يغير مجرى حياتي.

سألته ميس: ما الذي حصل يا أمجد؟

رد عليها بنبرة حزن قاسية: في صباح اليوم التالي اشتيقظت على صوت صراخ أمي تندب وتصرخ و هي مفجوعة.

لم تفهم ميس قصده فسألت: بماذا فجعت أمك؟ ماذت كانت تقول؟

أمجد: تصرخ بأعلى صوتها حسن زوجي لا تتركني ارجوك، انا لا اقوى على حياتي بدونك.

نهضت من فراشي خائف هلع، من هول صراخها ونحيبها، لم أعرف ما الذي يجري لم افهم الأمر ،لقد تجمع الجيران في بيتنا، يحاولون تهدئة أمي وتخفيف عنها ومواساتها.

ثم اقترب أحد جيران وسحبني من يدي انا واخي أيهم وهو يقول لنا: لا تخاف يا عمو، كل شي بخير.

بعد أن رأى صدمتنا والدهشة التي تعتلي وجوهنا.

يكمل أمجد حديثه عن ذلك اليوم قائلا: كنت أعلم بأن مصيبة ما قد حدثت لكنني لم اكن أعرف ما هي، وعيناي تبحث عن أبي اين هو؟ يجب أن يكون موجود في هذا التجمع لا يجدر به أن يغيب عن هذا الأمر.

كنت أعلم بأن ابي هو الشخص الوحيد القادر على جعل أمي تكون أكثر هدوء وعقلانية، لكن للأسف لم أكن اراه، وسألت ذلك الجار وقلت : يا عم أين ابي؟ اتصل به كي يأتي.


قال لي الجار حينها: هيا تعالا معي أنت واخيك وأنا ارى والدك واخبره.


كان أخي أيهم في حالة هستيرية من البكاء لقد كان خائف لا يدري ماذا يجري يضرخ ويبكي بشدة، أخدنا الرجل إلى بيته، حيث كانت زوجته و أولاده.

سمعت الجار يقول لزوجته: اذهب إلى والدتهم حالته يرثى لها، ودعيهم عند الأولاد هنا، كي لا يشاهدون ما يجري هناك.

طلبت من جارنا العودة لارى أمي، رفض طلبي وقال : حدثني والدك عنك كثيراً واخبرني أنك مطيع تسمع الكلمة، لذا كون كما قال عنك، ابقى هنا لتعتني باخيك فهو يبكي، ولا يليق بك أن تترك في هذه الحالة.

ثم قال كلمة ما زال صداها عالق في ذهني حتى هذا اليوم قال: أنت سند عائلتك الآن وانت رجل هذا البيت عليك أن لا تتخلى عنهم وأن تكون بجانيهم لتدعمهم في كل أمر يتوجب عليك أن تكون موجود به .


لم ينقطع صوت صراخ أمي عن مسمعي حتى وانا في بيت جيراننا، ولم يخبرني أحد ما حدث، حاول الأولاد ان يلعبو معي لكنني لم استطع ورفضت الامر وكنت حزينا.

بينما أخي أيهم سرعان ما توقف عن البكاء واندمج مع الأطفال وبدأ يلهو ويضحك معهم، وأنا افكر واحاول تخمين ما حدث.

ثم التفت أمجد ونظر إلى ميس محدثاً بها وقال: مر ذلك اليوم ثقيلاً، وكأنه عام كامل لم ينقضي بسهولة بل حرقت أعصابي به وانتهت به طفولتي أيضاً.

قاطعته ميس تقول: ثم ماذا حدث بعد كل هذه الأشياء التي قلتها؟

اكمل أمجد كلامه قائلاً: اخيرا حل المساء وجاء جارنا و أخبرني أن امي تنتظرنا.

فرحت جدآ، امسكت يد أخي وقلت له : هيا لنعود إلى بيتنا.

خرجنا وكان الجار يتبعنا بهدوء، كان بيتنا مفتوحة فيه جميع الأبواب وكان هناك عدد من النسوة عند أمي، وما إن رأتنا أمي حتى انهارت بالبكاء مجدداً، رغم أنه من الوضح كم بكت وكم ذرفت من الدموع وكأن عيناها لم تجف، ووجنتيها احترقت من ملوحة تلك الدموع.

لم يتمالك أمجد نفسه وهو يروي هذا الموقف المؤلم بالنسبة له، وفاضت عيناه دمع حينها.

حاول تجفيفها بيدها فأعطته ميس منديل من حقيبة اليد الخاصة بها. .

وبدا عليها التأثر واضحاً في مرت بموقف مشابه لما عاشه ولربما هذا ما جعلها تتأثر أكثر قد مرت بما يتحدث عنه وعاشت تلك اللحظات المريرة .

ثم أكمل أمجد كلامه بدون أن تطلب ميس منه ذلك فهو كان يرغب بالحديث وشعر بأنها تصغي له من اعماق قلبها وقال:

احتضنتنا امي وهي تبكي، وتقول كلمات ثقيلة على فهمي: لم يبقى لي أحد غيركما، كيف سأقوى على حياة تخلو من أبيك يا أمجد، كان ينتظر أن يستلم راتبه الشهر القادم كي يحضر لك تلك الدراجة التي أعجبتك.

أيهم بيده الصغيرة يحاول مسح تلك القطرات المتسارعة من عيني أمي و يسألها: هل أنا من جعلك تبكين؟ هل أنت غاضبة مني يا أمي؟

ردت عليه أمي تقول: إنه والدك من أحرق قلبي واحزنني.

قلت أنا اسألها : أبي لم يحزنك قط، لماذا فعل هذا الآن؟ أين هو أريد أن أعرف لماذا تركك حزينة.

تنهد أمجد وقال: هنا بدأت أمي تحاول جلعني أفهم ما الذي جرى وما ذا حدث، مستخدمة مفردات بسيطة أفهم معناها وبذات الوقت لا تخدش فيه تفكيري.


لكنها كانت بحالة أصعب بكثير أن تتحدث من دون بكاء ومن دون ألم حتى أنها كانت تتألم حقا من شدة البكاء كنت أشعر بها.

لم اكن أملك شئ أقدمه لكنني أحتضنتها وضممتها بكل قوتي في تلك الاثناء وسعيت لكي تشعر بأنها ليست وحيدة بل أنا هنا مو جود معها ولن أتركها مهما حدث أو كان السبب.

فسأل أيهم أخي وقال: هذا يعني أن أبي تركنا للأبد بدون عودة؟

قالت له امي: نعم يا أيهم لقد رحل والدك.

بكى أيهم وبدا حزيناً وقال: ماذا لو اشتقت له أنا كيف لي أن أراه، هو يعلم كم أحبه لماذا تركني وحيداً؟

من سيشتري لي دراجة ودفاتر من اجل ذهابي المدرسة والكتب، ثم ماذا عن ملابس العيد؟ هذا يعني أن أبي لا يحبني لذلك تركني وحدي ورحل.

وأضاف ايهم بحرقة وألم الفقد يحرق قلبه: لو كان أبي يحبني لما تركني وحدي، من يحب لا يترك محبوبه.

ثم انصرف أيهم مبتعد عن أمي حزين وغاضب في آن واحد، هذا تصرف طبيعي لطفل قد تعلق بوالده فهو قدوته ومثله الأعلى وبدون سابق إنذار يفقده ولا يجد تبرير يقتنع من خلاله بسبب ذلك الرحيل المفاجىء له.

يتبع _
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي