الفصل التاسع عشر

جميلة تلك الأقدار حين تحكم بالعدل وتعيد كل حق لمن ظلم، ويرى المظلوم جزاء الظالم دون أن يتدخل أو يقترب، هي حكمة الله على الأرض كي يبقى الانسان نقي القلب صافية النية، وما عليه سوى المراقبة والانتظار حتى يرى من ظلمه يحاسب أمام عينيه.


في تلك الاثناء عاد رائد الى بيته كي يخبر أمه بالذي حدث معه إلا أنه كان غاضباً كثيراً.

وما إن رأت عبير ولدها في تلك الحالة حتى شهقت وكأنها ستنتزع الروح من بين أضلاع صدرها وقالت: رائد، ما الذي حصل معك يا بني؟ من فعل بك هذا؟

لم يلقي بالا لتلك الأسئلة التي انهالت بها أمه وتوجه رائد إلى الحمام يغسل آثار الدماء على وجه الملطخ، ويرمي الماء على نفسه لعله يبرد النار التي اشتعلت في باطنه تلتهم قلبه من الغيظ.

تبعته أمه وهي تحمل المنشفة على يدها وتلح عليه بسؤال عم الذي حدث معه دون أن تتوقف أبدا عن ترديد: من فعل بك هذا؟

ومع تلك الكلمات كانت تظهر صورة أمجد أمام عيني رائد مما يدفعه للجنون فصرخ في وجه أمه غاضباً: كل ما حدث بسبب خططك وأوامرك التي لا اعرف سببها ولا مقصدها ولا تجعليني أفهم اي شئ منها، دعيني وشأني.

ثم خرج من الحمام وسحب تلك المنشفة مصرفا عن عبير دون أي تبرير يريح خاطرها.


جلست بجانب أبنها دون أن تدع تلك الكلمات التي قذفها بها تأثر عليها وقالت: أعلم أنك غاضب وتريد معرفة ما جرى أعدك أن أحدثك بكل ما تريد لكن في الوقت المناسب، أما الآن حدثني بما جرى.

بعد أن استلقى رائد على تلك الكنبة رد عليها وهو يحدق بسقف الغرفة بنظرة ثابتة دون أن ترف عينه وقال: بعد أن طلبتي مني تعقب ميس وتقرب منها، ذهبت إلى باب منزلها انتظر فرصة للاقتراب منها.


وبعد فترة من زمن خرجت مع صديقتها أظن أنها روان، قررت أن اتبعهما سيراً على الأقدام بدون سيارتي كي لا يشعرن بي.

وهذا ما حدث، بعد فترة قصيرة وصلن إلى مكان لم أذهب إليه قط، وفجأة بدون سابق إنذار رأيتهن يقتربن من شاب غريب بعد أن لوح لهما.

وقفوا مع بعضهم بضع دقائق ثم انصرف روان عنهما متخذة لنفسها مكان بعيد عن ميس والشاب الغريب ذاك.

قاطعته عبير تسأله: وماذا فعلت أنت؟

أكمل ابنها قوله: حاولت ضبط نفسي كي أفهم ما الذي يجري من حولي، واكملت المراقبة من بعيد.

لم أتمكن من سماع الحديث الذي دار بينهما لكنه بدا لي أمر مهم، وطال حديثهم وشتد غيظي اكثر وأكثر إلى أن فجر حالي عندما بدأت أرى ضحكات ميس على كلامه.


قالت عبير: واقحمت نفسك بينهما؟

رد رائد عليها: وهل ترين بأنه يجب عليي أن التزم الصمت والتخفي خلف تلك الشجرة؟


واضاف رائد: بطبع تدخلت، وبدأت اصرخ عليه واشتمه أيضاً، ثم حصل عراك بيننا وسدد لي هذه الضربة التي رأيتها.

تأفف وهو يقول: لم أكن أتوقع أنه يملك هذه القوة، لا يبدو عليه البأس والبسالة التي لمستها.

في تلك اللحظة خطر لعبير سؤال راودها فقالت: وماذا فعلت ميس؟ إلى أي منكما وقفت؟

ضحك ساخراً واجاب على ما قالته : هل تظنين أنها اخذتني في الاحضان ودافعت عني وطردت ذلك الشاب؟

قالت عبير: ولما لا؟

رد عليه ابنها: لم يحصل هذا أبدا بل على العكس.

لم تفهم عبير ما كان يقصده وقالت: إذا ما الذي فعلته؟

تنهد رائد وقال: وكأنها فقدت نطقها وصمتت دون أي كلمة طوال الوقت تشاهد ما الذي يحدث بصمت مطبق دون أي ردة فعل، كان حالها عجيباً.


ثم قالت الأم: كان عليك أن لا تتدخل، وتجعل الأمر يمسي دون أن يشعر أحد هم بأنك رأيت ذلك اللقاء.


لم يعرف السبب رائد وقال لها: كل ما فكرت به حينها أن اظهر أمام ميس كالبطل الذي يحميها لكن..

ثم صمت ولم يكمل فقالت أمه: فلقنك ذلك الشاب درسا أمامها جعلها تسخر منك.

غضب من تعليق أمه على ما حدث وقال بنبرة حادة: أمي.

فقالت الأم ارتاح الآن قليلاً ودع كل ما حدث خلف ظهرك كأنه لم يكن.

ثم تركته ونصرفت في بعض الأمور التي تجهز لها تمهيداً للقادم الذي سيفاجئ الجميع.


بين الأزقة مازالت الصديقتان، تسيران دون أي كلمة في صمت طويل، إلى أن رسالة نصية قطعت ذلك الصمت ووصلت لجوال ميس، أخرجت هاتفها من الحقيبة لترى رسالة من أمجد يقول فيها:

أسف إن ازعجك ما حدث، حاولت أن لا اتدخل لكن لم استطع عندما رأيته يحاول اجبارك على المغادرة، اكرر لك اعتذاري.

لم ترد ميس على تلك الرسالة، إلا أن صديقتها سألتها: هل هذا هو؟

فسألتها ميس: من تقصدين منهما؟

روان: بطبع أمجد.

أومت ميس رأسها وقالت: نعم إنه هو، يعتذر عما حدث.

استغربت روان وقالت: لماذا يعتذر هو؟ لم يفعل شئ يوا الدفاع عن نفسك وعنه.

قالت ميس: اسأليه إن شئتي.

أضافت روان يجول أمر في خاطري لما كانت تدخله قوياً لهذا الحد؟ كاد يحطم أسنان ذلك الغبي.

حاولت ميس إخفاء ضحكتها لكنها لم تستطع فغلبتها وظهرت متربعة على وجهها وقالت: إنه يستحق ما حصل له، وحسنا ما فعله أمجد.


قالت روان: يبدو أنه شهم وصاحب خلق جيد ذلك الشاب.

قالت ميس وأنا شعرت بهذا أيضا.

أما أمجد فقد عاد إلى بيته منهكا تعبا من ليلة قضاها يترقب ويفكر ولم ينم طيلة الليل أبدا، إلا أنه قرر أن يدخل ليطمئن على والدته قبل ان يرقد ويريح نفسه قليلاً.

فتح باب الغرفة فوجدها قد وضعت رأسها ابنها في حجرها تغني له تلك الاغاني التي اعتاد سماعها في طفولته في كل مرة كان يريد النوم فيها.

تلك الأم التي افنت عمرها في سبيل تربية أطفالها بعد ما توفي والدهما في سن مبكرة، فقد اصابته صاعقة كربائية في مكان عمله، ورغم التدخلات الطبية الكبيرة إلا أنهم لم يفلحوا في إنعاشه.

وبدأت أعضاءه الداخلية تموت واحد تلو الآخر، حتى فقد حياته، ومنذ ذلك اليوم سخرت ام امجد نفسها من أجل أولادها واثارتهم على سعادتها، ورفضت جميعومن تقدم لخطبتها من أجلهم.

فهي كانت دائما ما تقول: إنهم أغلى ما أملك ولا أحد يستحق أن تتخلى عنهم من أجله.

وقف أمجد عند الباب يستند على حافته وهو يتذكر كل تلك الأيام التي عانت فيها من أجلهما، وكم يتمنى أن يستطيع رد شئ من جميلها عليه.

يراقب أمه من بعيد يسمع تلك الهمهمات التي ترددها بهدوء دون أن تشعر بوجوده، تجمعت تلك الدموع في عينيه من شدة التأثر وتسابقت على خديه دون إذن منه.

إلا أن أمه لاحظت وجوده بعدها، فأشارت له بيدها أن يقترب، فمسح عيناها وجلس بيجانبها، ثم جعلته يتكئ بجانب أخيه المستلقي بدون حركة كما كانت تفعل لهما في سابق وتمسح بكلتا يديها على رأس كل واحد منهما وتغني لهما، ما هي إلا لحظات حتى أغلق امجد عيناه معلنا بدء وقت راحته بعد كل ما حصل معه في اليومين الماضيين.

بعد مشوار طويل عادت الصديقتان كل واحدة منهما إلى بيتها، بعد أن حاولت روان إقناع ميس بأن يذهبن لحضور فيلم سينمائي لكنها لم ترغب في ذلك واكتفت بالمشي.

وقالت ميس لصديقتها: لا أرغب بفعل أي شيء اليوم يكفيني هذا، ارغب فقط بالعودة إلى سريري كي أنام قليلاً.

سألتها روان: هل تحتاجين بقائي بجانبك؟

ردت غليها ميس: شكرا لك يا روان، لا أريد أن اشغلك أكثر يكفي ماحدث معنا في هذا اليوم.

قالت روان: إذا سأعود إلى بيتي وإن احتجتي أيا شئ مني فأنا جاهزة، سأحضر فوراً.


دخلت ميس البيت بعد أن ودعت صديقتها، وكانت جدتها تتطعم القطة قرب الحوض، ودون أي سبب اقتربت منها ورمت نفسها في حضن جدتها.

لم تكن تعلم السيدة أمينة سبب هذا الحال التي فيه ميس، وهي تسألها: ما الذي حصل يا صغيرتي، هل انت بخير؟

هنا حكت ميس كل ما جرى معها لجدتها دون أن تخفي عليها شئ، وكانت الجدة تصغي لتفاصيل القصة بهتمام تراقب ما الذي تقوله ميس وماذا تخفي بين كلماتها ولا تنطق به.

ثم حاولت التخفيف عنها والتهوين عليها فقالت: لا عليك يا صغيرتي تحدث مثل هذه الأمور في أي مكان ومع أي شخص لذا لا تحزني، كوني مرتاحة ولا تجعليه يؤثر عليك.

أومت ميس رأسها وسألتها هذا يعني انك لم تغضبي مني يا جدتي؟

ابتسمت لها السيدة امينة وقالت ولما اغضب من فتاتي الجميلة؟

أنت لم تفعلي شئ سيىء إنه سوء تفاهم فقط ولا يجدر بنا الوقوف عنده كثيراً.

ثم قالت ميس لجدتها: حسناً يا جدتي، سأذهب الان لارتاح قليلاً، ارغب في النوم والبقاء وحدي قليلا.

قالت أمينة لها: لا عليك يا صغيرتي اذهبي وارتاحي أنت سأحضر طعامك المفضل هذا اليوم.


دخلت ميس غرفتها ورمت حقيبتها على سرير، ثم بدلت ملابسها وهي تفكر بما هو قادم، ثم ارتمت في سريرها تعانق وسادتها.

تنظم أفكار جديدة حتى تعيد لرائد ما فعله بها وما اقدم عليه في ذلك المستقبل وما يخطط له.


من ذاكرة ميس المستقبلية:

ذهب رائد مع ميس إلى بيت إحدى صديقاتها لزيارتها في العيد، ثم تركها لتقضي وقتاً عنها بعد ما جاءه إتصال من أجل العمل، فهو كان في ذلك الوقت سائق على تكسي أجرة.

ذهب هو لعمله وبقيت هي مع صديقتها يتبادلان أطراف الحديث.

وبعد ما يقارب الساعتين اتصل بها وقال لها: سنعود الى البيت في غضون خمس دقائق كوني مستعدة.

قالت له هي: حسنا انا بنتظارك يا رائد.

وقامت سريعاً وودعت صديقتها ووقفت معها عند الباب تنتظر وصوله، فهي تخشى من غضبه، فهو لا يقدر إن كان أحد موجود أم لا فيبدء بالصراخ والشتم دون توقف أو احترام لأي أحد موجود.

وما هي إلا بضعة لحظات حتى وصل رائد، فودعت ميس صديقتها بسلام سريع على الباب وانطلقت تجري نحوه، وكما جرت العادة فهي تجلس إلى جانبه، والقت التحية لكنه لم يرد عليها، لم تستغرب فهو دائما ما يفعل هذا.


ومضى رائد وقد وضع موسيقا صاخبة التي يحبها ولم تعد عليها ميس رغم السنوات الطويلة التي أمضتها معه لكنها لم تألف تلك الأمور.

ولكنها كانت تراه يذهب بطريق غير الذي تعرفه يصل بهما إلى المنزل، لم تنطق ولم تسأل فهي جبانة جدآ وكانت تخاف من أي أمر قد تفعله.

وفجأة وقف أمام أحد البيوت، وكان من الواضح بأن داخل ذلك البيت عرس لأحدهم، وهي تراقب بصمت دون أن تسأل.

وما حصل بعد ذلك مفاجأة فقد قال لها رائد: انزلي من هنا واصعدي في الكرسي الخلفي من السيارة.

لم تجادل أو تفعل شئ فقد ظنت بأن أحد من رفقاه أو أصدقاؤه في المكان ويريد أن يوصله بسيارة معهما.

لكن العجيب حين سأل رائد أحد المارين: هل يمكنك أن تخبر الانسة سارة بأنني قد وصلت.

وافق ذلك الشخص وقال له انتظرني قليلا سأعود.


وهنا كانت ميس تحدث نفسها: من سارة تلك؟ من تكون؟ هل يعرفها! أم أنها زبونة يريد ان يوصلها؟

لكن لماذا طلب مني الابتعاد عنه والركوب في الخلف؟

تبادرت الكثيرة من الاسئلة لرأسها، لكن دون إجابة فقررت أن تنتظر لترى من سارة تلك التي كان يقصدها زوجها رائد.

يتبع_
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي