الفصل السادس

قرأت ميس تلك الرسالة تملكها الغضب ولربما بعض من الاشمئزاز فهي تعرف جيداً زيف تلك الكلمات، رمت هاتفها على سرير متجهة نحو مرآتها تنظر إلى نفسها، لا يخطر في بالها شيء سوى الانتقام.

توسعت حدقات عينها وهي تتأمل ملامحها البريئة كيف انقلب حالها إلى كثير من الغضب، ثم خفت وتيرة تلك المشاعر.

رُسم على وجهها تلك الإبتسامة الخبيثة المليئة بالمكر ثم قالت لنفسها التي تراها أمامها:رأيتُ جميع الوجوه على حقيقتها وعلمتُ بكل الأمور التي ظنّ أنه نجح في إخفائها، لكني مازالت أتغاضى وأدعي الجهل في أمور كثيرة، لكنني سوف أجعله يدفع ثمن ما ينوي فعله، قبل القيام به حتى.

عزمت على أن ترد الرسالة العاشق الذي ينتظر منها ما يشبع رغباته في خداعها، رد متوقع مليئ بالحب وفيض المشاعر، فكتبت له ما لم يكن في حسبانه ولا ضمن أي توقعاته.

في رسالة نصية أيضاً: سوف أمنحك فرصة أخرى أن تبتعد عن طريقي، لا تدعني أراك كي لا تكون بحاجة أحد يشفق على حالك من بعدها.

ثم أضافت هي أسمها كي يتأكد بأنها من كتب له ما قرأ، ثم أرسلتها وهي تشعر بأن كل ما يجري سيكون من أجل انتقامها الذي لن تتراجع عنه مهما حدث.


لم يكن هناك ما يخفى على ميس فهي تعلم جيداً ما يدور حولها، بعد الفرصة الجديدة التي منحها إياها القدر،ثم قررت أن تخلد لنوم لديه في صباح الكثير من الأعمال لإنجازها، لا يوجد وقت كي تضيعه على نفسها.

في بيت رائد كان الأمر مختلفاً، عند ما وصلت الرسالة التي كتبتها ميس له استنكر الأمر جداً عقد حاجبيه يسأل نفسه: هل يا ترى أن تكون هذه الفتاة قد جُنت!

حاول الإتصال بها لكن هاتفها كان مغلقاً، تأكد رائد حينها بأن ما حصل كان برغبة ميس، لكن كيف حصل هذا، إنها تحبه وهو يعلم بأن لا وجود لشخص آخر في حياتها.

تأفف رائد ولم يكن قادر على فهم ما يحدث، خرج يقف على شرفة منزله، إلا أن أمه قد لاحظت حاله المتقلب لم تستطع تركه على تلك الحالة، فقررت أن تتحدث مع رائد لتفهم ما يحدث، و أيضاً كي يعلم ما هو الجديد.

ذهبت عبير إلى المطبخ وأحضرت معها كوب من العصير، ثم اتجهت نحو أبنها القلق وضعت يدها على كتفه ثم سألتها: ما هذه الحالة التي أنت فيها يا رائد؟

كان رائد يتأمل الفضاء أمامه ولم يكن منتبه حين وصلت أمه، عندما شعر بوجودها التفت إليها وأجابها: لا أدري يا أمي ما الذي يحدث.
استغربت عبير شتات حال ابنها، قالت له: أخبرني لعل بإمكاني مساعدتك.

تنهد رائد تنهيدة طويلة يريح بها أنفاسه ثم قال: أنت تعلمين بالحديث الذي دار بيني وبين ميس.

أومأت له برأسها ثم أكمل رائد كلامه: أشعر وكأن شيء ما قد تغير، لم تعد الأمور تجري كما كنت أخطط لها.

سألته عبير: كيف حدث هذا يا بني؟

أجاب رائد وفيه شيء من عدم الفهم: كانت ميس شعلة من الحب حينما تراني، أشعر بهذا كل مرة كانت تلتقي أعيننا، وكنت أقترب من تحقيق هدفي إلا أن_

تذمرت عبير من تلك الطريقة التي يتكلم بها رائد وسألته: اختصر وأخبرني هل فعلت ميس شيء يثير الريبة؟

هز رائد رأسه ببطء وقال: في المرة الأخيرة التي صادفتها فيها، هُلعت عند ما رأتني، وسرعان ما ابتعدت عن المكان.

صمت لبرهة من الوقت ثم أكمل، منذ قليل كنت أحدثها وأحاول إعادة الأمور إلى سابق عهدها لكنني قوبلت بصد بذات الطريقة، أشعر بأن شيء ما قد قلب حالها.

ضحكت عبير مستهزئة وهي تطمئن ابنها بالقول: ميس فتاة غبية يجري خلف مشاعرها، لا يمكن أن ترفضك بعد ذلك الحب، ولن أسمح بهذا أنا أيضاً مهما كلفني الأمر.

لم يفهم رائد ما تقصده والدته فسألها: ماذا تعنين بكلامك يا أمي؟

جلست عبير على ذلك الكرسي القريب منها بنبرة يملئها الخبث قالت: سوف تتزوج منها بأسرع وقت ممكن، ميس صيد ثمين لن نسمح بأن تنزلق من بين يدك وتذهب لأحد أخر ينال منها ما نرجوه، هل فهمت ما أقول.

بدا المكر على وجه رائد وهو يسمع ما قالته أمه، ثم قال سعيداً: نعم سأتزوج تلك الحمقاء حتى أصل إلى غايتي، سوف أتحمل تلك الأحاديث الساذجة والمشاعر التافهة في سبيل ما أرنو إليه.

إلا أن ميس في عالم أخر وهي تستعد من أجل الخروج إلى الجامعة، بعد أن انهت واجباتها كي تترك جدتها وهي مرتاحة البال، همت بجمع أغراضها التي تحتاجه في سبيل ذلك.

كان عليها أن تعود إلى الجامعة لتكمل ما كان قد فاتها، يجب أن تقدم أوراق التسجيل قبل انتهاء الوقت المحدد وتنضم إلى الفصل مع الطلاب.

ارتدت ميس في ذلك اليوم تنورة طويلة بلون وردي فاتح وقميصاً أبيض ولم تنسى أن تزين عنقها بسلسال رقيق كتب عليه اسمها كما تحب هي، وبعد كل تلك التحضيرات، ودعت جدتها وانطلقت خارجة من منزلها كأنها فراشة الربيع.

في الجامعة كانت روان تنتظر صديقتها، في المكان المعتاد التقت الصديقتان، رحبت روان بها قائلة:
"ما هذه الحلة الجديدة التي تبدو عليك يا ميس"
سرت ميس بأن ما تشعر به من سعادة قد بدا عليها فسألتها:
"هل هذا غريب عني، أم أنني كنت لا أبدو جميلة"
بنبرة مليئة بالاعجاب قالت روان لها:
"الأمر ليس كذلك يا صديقتي، لكنك تبدين أكثر أشراقاً وكأنك جوهرة متلألئة"

ظهر على وجه ميس بعض الخجل من الاطراء الذي سمعته، ثم قالت لها:
"دعك من ذلك الآن، لدينا كثير من الأعمال للقيام بها، ما رأيك أن نبدأ بها؟"

أومت روان رأسها موافقة، وسألت: من أين ترغبين في البدء؟

وضعت ميس أصبع يدها على راسها وهي تفكر ملياً، وبعد برهة من زمان قالت لها:
"في البداية سأنطلق إلى الإدارة كي انتهي من أمور التسجيل، ثم أرى ما يجب أن أفعله بعدها"

ثم تجيبها روان بالقول:
"إنها فكرة صائبة، اذهبي أنت ريثما أنا أطلب فنجانين من القهوة، انتظرك في المقهى"

وعلى هذا الاتفاق تفرقت كل من ميس وروان للقاء مرة أخرى في مقهى الجامعة، والسعادة تغمر قلب ميس في كل خطواتها، وكأنها التحقت بالمدرسة لتو وما زالت طفلة صغيرة، سعيدة بتلك الأشياء التي تملكها.

في مكان أخر عند الجدة أمينة، كانت تدور أمور أخرى لم تعلم عنها ميس بعد، فقد وصلت عبير إلى بيت ميس، رحبت بها الجدة أمينة وسألتها عن حالها: أهلا بك يا أم رائد، كيف حالك؟

ردت عليها عبير بتململ: أنا بخير.

ثم صمتت، شعرت أمينة بأن هناك أمر ما خلف ذلك الصمت فسألتها: هل حدث شيء ما؟
ردت عليها عبير نافية تلك الملاحظة وقالت: لا لم يحدث شيء كل الأمور على ما يرام.

فقالت لها أمينة: إذا دعيني أحضر لك فنجان القهوة.

ثم همت أمينة للنهوض إلا أن عبير أمسكت يدها واجلستها مرة ثانية وهي تقول: لا داعي لشرب شيء الآن، لدي ما أقوله لك.

استغربت أمينة لم تخطر في بالها أي شيء فسألتها مستغربة: ماذا لديك؟

رسمت عبير على وجهها ابتسامة عريضة تخفي فيها مكرها وقالت للجدة أمينة بتودد: لا أدري من أين أبدا حديثي، لكن لدي ما أطلبه منك.

قالت الجدة أمينة: تفضلي أن كان بمقدوري مساعدتك لن اوفر في ذلك سبيلاً.

قالت لها عبير: أنت تعلمين بأن رائد ولدي أصبح شاب ناضجاً، وأنا أريد أن أجد له عروس تليق به، وبعد أن سألته أخبرني بأنه قد رأى ميس عدة مرات في الشارع ويريد أن يتقدم لخطبتها.

استغربت أمينة من هذا الطلب ولم تعلم هل يمكن أن يتم أمر مثل هذا أم لا فقالت لها: هل يعلم ولدك مسؤولية الزواج وان يكون له عائلة يسأل عنها؟

أومت عبير رأسها بحماس وقالت: بتأكيد، أنه شاب مسؤول وغيور أيضاً يخش على من يكون بقربه كأنه أحدى عيناه.

أشحت أمينة بنظرها بعيداً عن عبير وهي تفكر بالموضوع، ثم قالت: إنها حفيدتي، وهي الوحيدة المتبقية لي من عائلتها، لا أستطيع التفريط بها.

أظهرت عبير بعض الامتعاض على وجهها من ذلك الكلام وقالت لها: أن ميس ستكون أمانة في عنق ولدي، هو يعلم بأن لا يوجد أحد يحميها، سيكون معها يساعدها ويقف معها في كل ما تحتاج.

قاطعتها أمينة قائلة: ستكون ميس أيضاً الوريث الاول للعائلة، وتحتاج من يقف بجانبها يعلم جيداً أين تذهب أموالها، وكيف يديرها.

قالت عبير بثقة: عندما يكون رائد بجانب حفيدتك لا تقلقي كل الامور ستكون كما لو أنك رسمتها بيدك، أما الاهم الآن بالنسبة لي هو موافقة ميس على الزواج من ولدي رائد.

قالت أمينة لها: دعيني أسأل ميس اليوم عن رأيها بهذا الأمر، ثم أخبرك في ذلك لاحقاً.

بنبرة مليئة بالتمني وكأنها تنتظر الحلم قالت عبير: حسناً، سأكون في انتظار أن أسمع ما يسر قلبي ويهدأ قلب ولدي رائد.

ثم قالت في نفسها بكل مكر وخداع: "انتظري حتى تصبح حفيدتك زوجة لولدي ثم سأجعلك تبحثين عن قوت يومك ولا تجدينه، هذا وعد مني أيتها العجوز الشمطاء"

كانت روان قد جلست تنتظر صديقتها وهي تقلب في هاتفها وتقوم بتحميل بعض البرامج والتطبيقات الحديثة التي ذاع صيتها في الآونة الأخيرة، إلى أن شعرت بأن أحد ما قد لمس كتفها، واقترب منها.

نظرت روان حولها واذا به رائد، عدلت جلستها وهي تسأل وكأنها رأت أمامها عفريت من الجن وقالت: رائد! ماذا تريد؟

أدرك رائد بأنه قد صدم الفتاة بطريقته الغليظة تلك لذا حاول تدارك الموقف وقال: اعتذر إن كنت قد قاطعتك عن أمر مهم.

أجابته روان: لا بأس تفضل بماذا يمكن لي أن أساعدك؟

كان رائد يلتفت حوله وكأنه يبحث عن شخص آخر يتحدث بنيابة عنه، إلى أن استجمع نفسه وقال: أريد منك مساعدة صغيرة، لم أجد أحد غيرك لمثل هذا، أرجوك أن توافقي.

كان كلامه مبهم بالنسبة لروان وأرادت توضيحاً أكثر لتفهم ما يعينه فقالت: بماذا يمكنني مساعدتك؟

أمسك رائد الكرسي وازاحه عن الطاولة ثم جلس دون أن تقول له روان ذلك مما سبب لها إحراجا لها لكنها تابعت تصرفه بعينيها فقط، ثم بدأت تسمع ما يريد حين قال: أود أن أكون قريباً من ميس.

قطع عليه الحديث قبل أن يبدأ وقالت له روان: وما شأني أنا! يمكنك أن تحدثها في ذلك، ستأتي إلى هنا بعض قليل.

قال رائد: أرجوك لا أريد لها أن تعرف بأن حديث مثل هذا دار بيننا، كل ما أريده منك بأنه عند ما تتحدث ميس عني حاولي إقناعها أن تمنحني فرصة.

لم تفهم روان السبب ولا ماذا يريد من هذا، إلا أنها بعد إلحاحه عليها قالت له: سأفعل إن استطعت.

ثم استأذن رائد وغادر مسرعاً قبل أن تصل ميس وتراه جالس مع صديقتها، بعد أن انصرف كان سعيداً لأنه يرى نفسه يحقق خطوة إضافية للاقتراب من ميس وأن خطته على وشك أن تتم كما يخطط لها.

في تلك الأثناء كانت إحدى الفتيات كانت قد رأت رائد عند ما جلس مع روان وتحدثا، وبعد أن انصرف جاءت تحدث روان وقالت لها: هل يمكنني أن اجلس معك؟

كانت روان تعرف الفتاة بأنها زميلتهم في الجامعة دون علاقة صداقة تجمعهما فقالت لها: بالطبع تفضلي.

جلست تلك الفتاة وهي تحدق نحو رائد وكيف يمشي وتراقب تمتماته من بعيد ورغم نظراتها البعيدة قالت لروان: إحذري منه، ستكون هناك رياح عاتية قادم من باب هذا الشاب.

عقدت روان حاجبيها ثم سألتها: ماذا تقصدين؟ كيف عرفتي هذا؟

لفت الفتاة نفسها بذراعيها ثم أجابتها: لا داعي لهذه الاسئلة الكثيرة، إن هذا الشاب الذي غادر الآن يخفي في رأسه مصائب كثير ستغرق عائلة كاملة.

بث كلام تلك الفتاة الرعب في قلب روان، ولم تكن تعلم السبب فقالت لها: كيف يمكن لنا أن نتخلص من تلك المصائب التي تتحدثي عنها؟

تنهدت الفتاة وقالت: الأيام القادمة يجب أن تسير كما مقدر لها، لا تحاولي العبث في تغير ما يجري، ولا تكون سبباً في ذلك كي لا يطولك ما كنت تخشينه.

ثم همت الفتاة بالنهوض سألتها روان: إلى أين؟ لم انتهت من الأسئلة بعد.

لم تلق الفتاة لها بالا بل قالت لها: لا تحاولي معرفة كل شيء فهناك بعض الأمور التي يجب أن تبقى رهينة الطي والكتمان، وأن القدر سوف يكشف ما يجب فقط عليك أن تنتظري.

ثم انصرفت الفتاة عن روان، تركتها شاحبة اللون من تلك الكلمات التي سمعتها لم تكن لتعرف سببها ومن أين أتت، ثم حاولت روان التخفيف عن نفسها فقالت: لا تدعي لبعض الترهات أن تتملك عقلك، لربما تلك الفتاة كانت مشعوذة أو دجالة.

في بيت الجدة أمينة كان المحامي قد وصل وأحضر بحوزته بعض الملفات والأوراق التي طلبتها منه أمينة في الأمس.

قال المحامي حمزة لها: تفضلي هذه هي الاوراق التي طلبت مني أن أحضرها.

مد يده يعطيها للجدة أمينة، وهي ترتجف من شدة المرض والارهاق ثم قالت له: هل كتبت فيها ما قلته لك في الأمس؟

أومأ المحامي لها برأسه وقال: نعم كما طلبت مني، ولم يعد ينقصها سوى أن تقومي أنت بالتوقيع عليها.

تناولت أمينة نظارتها الموجودة على طاولة، وبدأت تقلب بين تلك الاوراق، تقف عند بعض الأمور التي تتأكد منها بشكل كامل، لأن هذه الأوراق تملك ضمان لحياة ميس وضمان للممتلكات التي تركت لها.

انهت ميس كل ما يجب أن تفعله في الإدارة ثم ذهبت تبحث عن صديقتها في المقهى حيث تم الاتفاق لتلاقي بينهما، كانت ميس سعيدة بما أنجزت هذا اليوم، وكانت تفكر أيضاً بأن تكافئ نفسها بتلك الأمور التي تحبها.

تبحث بتلك العينين الواسعتان عن روان، إلى أن رأتها قابعة على أحدى الطاولات وهي شاردة الذهن، عيناها تنظر إلى فراغ، استغربت ميس حال صديقتها وهمت نحوها لترى ماذا حدث في غيابها.

يتبع.d
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي