الفصل الرابع والعشرون

وصلوا أخيراً إلى المكان المنشود، كل منهم وضع أمتعته على الأرض، ثم بدأو بنصب الخيام للمبيت، و رائد خلفهم، يندب حظه وهو يحترق غضباً مما يرى.

في غضون وقت قصير انتهوا من تر تيب كل شيء كما يجب، وهنا جلسوا جميعاً فقد اقتربت الشمس من مغيبها.

على ذاك السفح الجبلي، أمام غابة خضراء كثيفة على تلك الصخرة الضخمة جلس الأصدقاء الأربعة مع بعضهم البعض، يراقبون ذلك المنظر الساحر الذي يخطف الألباب.

كل منهم يتحدث عن وصف ذلك المنظر وجماله، إلا أمجد كان صامتاً لا ينطق بكلمة، شارد الذهن وكأنه مغيب العقل تماما.

ميس لاحظت الأمر لكنها تظاهرت بأنها لم تنتبه على هذا تركته سارح في خيالاته.

وما هي إلا بضع دقائق حتى تلألأت الدموع في عينه، حاول مسحها قبل أن يراه أحد، لكن ميس كانت قد شاهدتها مستغربة لم تكن تعلم ما يجري.

فسألت نفسها: أي سر يخف هذا الشاب؟ لما كل هذا التأثر؟ هل هي حبيبته؟ تركته؟ أم خانته؟

لا تدري لما دارت كل هذه الاسئلة في رأسها، لكنه فضول قوي داخلها، لم تستطيع إخفاء حزنها عليه وقالت له متوددة بعد أن رأت حالته تلك: ماذا عنك يا أمجد حدثنا عن رأيك بجمال شمس المغيب، أم أنك لست من هواة هذه الأمور.

تلعثم أمجد من هدوء ميس وطريقتها المنمقة، فقد اعتاد على جفاف حديثها وكلامها وأسلوبها المتعالي عليه.

لم تسمح روان له بالجواب فقالت له قل لنا بيت شعر تحفظه يا أمجد.

قال أمجد: أحب هذه الأمور كثيرا الشعر، والغروب و الأناشيد الهادئة، وقراءة الكتب، وكتابة بعض الخواطر أيضا.

قالت نادية: جميلة جداً هذه الهوايات، وأنا أحب ركوب الخيل.

قالت روان: هيا قل لنا بيتاً شعريا تحفظه.

فكر أمجد قليلاً يستحضر ذاكرته الضعيفة فهو أسوء ما فيه ذاكرته المهترءة، ثم لمع ذلك البيت في رأسه وقال: داري وإن جارت علي عزيزة وأهلي لو ضنوا علي كرام.

ثم قال لهم متحدياً أريد بيت شعر يبدأ بالحرف الذي انتهى به البيت الذي قلته.

حاولن الفتيات أن يتداركن الموقف، فقالت ميس بعد ما خطر ذلك البيت على بالها: مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل.

فقالت له بذات النبرة المتحدية: هات بيت يا أستاذ أمجد ينتهي بالياء.

أجابها وهو يحدق بعينها دون أن يرمش حتى وقال: يخط الشوق شخصك في ضميري على بعد التزاور خط زوري فلا تبعد فأنك نور عيني.

صمت الجميع دون أن ينطق أحد بعدها، وهو لا زال ينظر لها بذات الطريقة دون أن يكسر نظره عنها، مما تسبب بالإحراج لها أمام صديقاتها.

أشاحت ميس ناظريها عنه، تحاول تشتيته وقالت لنفسها: ما كل هذا التوتر الذي أصابني، وكأنه تمكن من أوصالي كلها بتلك النظرة، لم أعد استطيع الكلام حتى.

فقررت روان التدخل وحل ذلك الموقف فقالت: غرقت الشمس في أحضان الغيوم أصبح الجو ملائم لكوب من الشاي ما رأيكم؟

قالت نادية بنبرة متحمسة: نعم أحب الشاي كثيرا في هذه الأجواء اللطيفة.

روان: إذا هيا لنعد الشاي أنا وأنت.

ثم نهضت الفتاتان معا وهن يتحدثن بسعادة، وما إن ابتعدن قليلاً، تذكرت ميس شيئا فقالت لهن: روان لقد أحضرت بعض أقراص البسكوت أعدتها جدتي، ضعي منها بجانب الشاي.

ردت عليها روان: حسناً يا ميس سأفعل.

بينما بقيت هي وأمجد جالسين على تلك الصخرة، وعاد هو لشروده غير أبه بها وكأنها ليست معه حتى، أثار الامر غضبها، فقالت: كيف له أن يهملني؟ ما الذي يدور داخل تلك البطيخة الموجودة بين كتفيه، يبدو أنه شخص مجنون، كل لحظة يتغير سلك ما في رأسه.

وفجأة رأته يغطي وجهه بكلتا يديه، يكابر على ما يدور في نفسه، أدركت حينها ميس بأنه يتألم ويحاول أن يحفظ لنفسه هذا الألم دون أن يزعج أحد حتى لو بالحديث أو الكلام.

فقررت حينها أن تسأله هي: هل أنت بخير يا أمجد؟

قال لها: لا تهتمي، أنا بخير دائما رغم كل شيء.

شعرت ببعض من تأنيب الضمير، فقالت له: يمكنني سماعك إن أردت.

قال لها أمجد: الذي بيننا صفقة فقط ليس أكثر، فلا داعي لهذا التعاطف.

قالت ميس: لا مشكلة أن كانت هناك أحاديث جانبية عن الصفقة المتفق عليها بيننا.

رد عليها أمجد: هي شؤون خاصة بي لا تقلقي .

هنا قررت ميس استخدام حيلها كأنثى، وقالت: يبدو أن حبيبة القلب قد خانتك، وجرحت قلبك المثقل بحبها.

قال ساخراً: ومن هي التي تحب شخصاً مثلي؟

ردت عليه بذات السخرية: بتأكيد يوجد بلهاء تقبل بك، وأمك تقول لك كلمة الأمهات الشهيرة ألف فتاة تتمنى الوصول لك كي تكون زوجتك.

صمت أمجد دون أن يرد، ثم بدأ يردد: أمي، أمي.

لم تفهم ميس ردت فعله الغريبة تلك، وفجأة تذكرت ذلك الصوت الذي سمعته عند ما كانت في بيته أول مرة، فقالت له: هل تسكن في البيت بمفردك؟

هنا شعر أمجد بثقل حقا وقال: لا أدري أن كنت وحدي أم يوجد معي أحد.

لم تفهم ميس قصده، فقالت مستفهمة منه أكثر: ماذا يعني؟ ألا تعلم إن كان يوجد أحد معك في المنزل أم لا؟

ركز أمجد نظره بتلك السماء التي بدأت تتوشح برداء الليل الأسود وقال لها: أنا أعيش مع أمي وأخي أيضاً.

فسألت ميس: لماذا لم أرى أمك في ذلك اليوم؟

قال أمجد دون أن يزحزح نظره: لأنها لا ترى أحد.

قالت ميس مستغربة: هذا يعني أنه كان صوتها الذي سمعته عند ما نادت من داخل تلك الغرفة.

أومى أمجد رأسه بأن ما قالته صحيح، تابعت ميس سؤالها: لماذا لم تخرج لرؤيتي؟

قال أمجد: أمي تعيش حالة خاصة، صحتها متعبة نفسياً وجسدياً.

قالت ميس: لو أنني علمت كنت دخلت لها أنا والقيت السلام عليها.

وهنا تذكرت بأنه قال عن وجود أخ أيضاً عنده فسألت ميس: ماذا عن اخيك يا أمجد؟

قال أمجد: إنه مع أمي بجانبها لا يفارقها.

استغربت ميس و سألت مستنكرة: ألا يغادر المنزل؟ ابدأ؟

قال لها أمجد: أخبرتك أنها شوؤني فلا أريد أن ازعاجك بها.

قالت ميس: ألا تعتقد بأنه لدي الكثير من الأمور التي تتعبني وتثقل قلبي؟

رد عليها أمجد: أنا اسمعك متى تشائين، إن أردتي ذلك طبعا.

فقالت له ميس: سأفعل ذلك طبعا، لكن الآن أخبرني بما لديك.

ثم اكملت تحاول طمئنته : كن على يقيين بأن كل ما يدور بيينا يبقى هنا فقط، وكأنك تحدث نفسك، وأنا لا أخبر به أحد.

قال أمجد هل تظنين الأمر بهذه السهولة؟

قالت له ميس: كف عن تعقيد الأمور يا أمجد، لربما نجد حلاً لهذا الأمر وقد يكون قريباً منك لا كنك لا تراه لأنك متعب ومشوش بهذه القصة.

قد ينفعك حديثك معي، على أقل تقدير تخف أثقال قلبك، لكن إن كنت لا تثق بي فهذا أمر آخر لا يمكنني أجبارك على شيء كهذا.

في تلك الأثناء حين يدور الحديث بينهما كانت عيون كثيرة تراقبهم وترصد كل حركاتهم وسكناتهم.

في بداية كان رائد قد غرق بين الذباب خلف تلك الشجرة، لكنه لم يكن يدري بأنه يقف قريباً من حاوية قمامة رميت هناك دون ان يراها بسبب الظلام الذي توشح المكان.

ثم تذكر بأنه لم يكلم والدته فهي بتأكيد ستكون قلقة، بعد أن خرج من الظهر ولم يعد حتى الآن.

فقرر كتابة رسالة لها ليخبرها بأنه يبات في الغابةيراقب ميس وذاك الشاب الذي لا يدري من أين خرج في طريقه.

ثم بدل رأيه وحذف تلك الرسالة، فهي لن تسمح له بالمجازفة في نفسه من اجل ميس وصديقها.

فقال لها برسالته: أمي أنا في بيت صديقي ثائر سأنام عنده هذه الليلة اعتني بنفسك أراك غدا، كوني بخير.

ومن زاوية آخرى كانت روان ونادية تتابعان ما يجري بفضول كبير، ويتربصن بكل ما يفعلونه ميس وأمجد.

فقالت نادية: يبدو أن الحديث مهم، وكأنه سر خطير.

نفت روان ذلك وقالت: بتأكيد أنهم يتعرفون على بعضهم أكثر.

قالت نادية : أكثر ما أعجبني كان ذلك الشعر الذي قالع أمجد، والأجمل كانت نظراته لميس إنه لطيف جداً.

ضحكت روان وقالت: من هو اللطيف؟ يبدو أن شاب بعيد عن حركات الشبان الخرقاء.

فقالت نادية: حتى وأن كان كذلك فلا يتجرأ ألم تري كيف تتكلم ميس معه؟ لما تحدثه بهذه الطريقة؟

قالت روان: لربما تعتقد بأنه يحاول العبث معها، أو أنه من الشبان الذين لا يحبون الفتاة التي تلتفت من كلمة كالقمة السائغة.

لم يعجب نادية ذلك التشبيه فقالت: نحن أرقى وأجمل من هذا الوصف يا بنتي، كوني واثقة من نفسك أكثر.

فقالت له روان وهي تضع الشاي في الابريق: كفي عن الثرثرة الآن ودعينا نرى ما الذي يحدث في القادم.

قالت نادية: الأيام القادمة أكثر إثارة وحماس أنا متأكدة من هذا.

تنهدت روان: لست متشوقة لهذا الحماس بلا أن أخشى من القادم، أتمنى ان يكون خيراً للجميع.

يتبع_
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي