الفصل السادس والعشرون

لم تعد الحياة كما كانت قبل هذا اليوم، لم تعد تلك الضحكات ولا القهقهات، لقد أصبحت يتيماً يشفق عليه الناس، ويساعد من يستطيع، ومنهم من يقول أطعموه فهو لا يملك أب لقد مات والده وهو صغير.

تلك الكلمات كانت تقطع من روحي قطع صغيرة وتفتتها، وكأنني لا اسمع ولا أشعر لكنني كنت لا اجيب أحد ولا ارفض مساعدة أحد.

سألت ميس سؤال أثار فضولها: لماذا لم تكن ترفض هذه العروض إن كان الأمر يزعجك كما تقول، فأنت لست مجبراً على قبولها يمكنك أن تقول لهم لا أريد.

قال أمجد بنبرة ساخرة: ماذا عن طفل لا يملك قوت يومه؟ ولا يستطيع شراء ما يشتهي، أقسى شعور يعيشه الإنسان هو الحاجة للناس، لا ذل بعد هذا الذل ولا خيبة بعده فهو مؤلم جداً.

ما لم تعرفه ميس حينها كيف توفى والده فسألت: هل وفاته كانت نتيجة حادث سيارة؟ أو أنها وفاة عادية؟

تنهد أمجد بحسرة تنهيدة كادت تحرق صدره من ثقلها، ثم قال: إنه حادث لكن ليس بالسيارة.

لم تفهم ميس الأمر فسألت: كيف يكون هذا؟

أجابها: حادث في عمله، نتيجة تيار كهربائي أصابه، جعله يفقد حياته ويموت هو ونحن نفقد حياتنا ونبقى أحياء .

التعاسة بدأت من يومها حين بدأت أمي بعد أن انقضت عدتها تعمل ما تيسر لها في التنظيف والطبخ للناس، حاولت كثيراً أن اقنعها لعلها تسمح لي بالخروج من المدرسة لمساعدتها لكنها كانت دائما ما ترفض هذا وبشدة، بل أنها كانت تغضب أيضاً عند ما أكون مصر على الأمر.


في إحدى المرات قالت لي: هل تعلم يا أمجد، لم أعد أملك أحلام لنفسي، لكني أصنع حلمي بدك..

سألتها مستفهما أكثر: ماذا تعنين بهذا يا أمي؟

قالت حينها : حلمي الوحيد هذه الأيام أن تكون أنت وأخيك نا جحين في المستقبل، في حياتكم وأعمالكم وفي كل المجالات، دون الحاجة للعمل كما كان والدكما.

أحب أن تعيشوا حياة مستقرة فيها شيء من الراحة والهدوء، بعيداً عن المشقات والحاجة للناس .

هذه كانت أحلام أمي لم يكن لديها طمع بأي شيء سوى سعادتنا

سألت ميس وقالت بحرج: توفي والدك منذ زمن وأنتم أطفال لماذا لم تتزوج أمك مرة أخرى؟

أشاح أمجد بنظره وصمت قليلا ثم قال: أفنت نفسها من أجلنا، لم تفكر في يوم من الأيام أن تشارك حياتها مع أحد في سبيل أن نكون سعداء لا ولي أمر لنا غيرها.

ثم قالت ميس: ما الذي أوصل والدتك لحالتها المتعبة التي تحدثت عنها الآن؟

ابتسم أمجد وقال: لا يا ميس هذه قصة آخرى، أخبرك بها لاحقاً ام أنك تريدين معرفة كل شيء في ذات الوقت.

قالت ميس والبسمة تعتلي وجهها : نعم لما لا، فأنا أحب القصص والتفاصيل كثيراً وهذا أكثر ما يثير لي المتاعب .

بعد هذا الحديث الطويل، نادت روان عليهما وقالت: تعالا إلى هنا لقد أصبح الجو بارد، هيا لنجلس حول النار.


أما رائد فقد كاد يتجمد من البرد ينفث على يديه لعله يشعر ببعض الدفء وهو يراقب اهتمام أمجد بميس وهب لا ترفض ما يفعله، لكنها لم تكن تبدي سعادة مفرطة أو مبالغة بالاهتمام.

بعد أن جلسوا حول النار جلست ميس بجانب أمجد بمسافة قليلة بينهما، لكنها لم تكن لتنظر إليه ، تتفادى أن تجتمع عيناهما مع بعضها البعض.

شعرت ميس بأن اكتافها باردة على عكس وجهه، فسألها أمجد ألا زلتي تشعرين بالبرد قالت له: نعم لازلت أشعر بأن ظهري بارد ولا استطيع تحريكه .

وفجأة نزع أمجد عن نفسه تلك السترة التي وضعها على كتفيه وهم يضعها لميس كي تشعر ببعض الدفء .

وما إن رأى رائد هذا المشهد حتى جن جنونه، وكأنه بركان وانفجر وبدون سابق إنذار أمسك بعصا غليظة وجدها بجانبه ، وخرج من ذلك المكان الذي يختبىء فيه منذ ساعات ولحظة وصولهم.

خرج وهو يصرخ من بين الأشجار الضخمة الكثيفة: أنت يا هذا ستلقى حدفك اليوم ولن تراك أمك ثانية، لقد انتهيت ستذهب بلا عودة.

رفع يدها التي يحمل بها العصا وهم أن يسقطها على رأس أمجد، في تلك الأثناء مرت ذات الصورة في بال ميس من ذاكرة المستقبل حين ضربها رائد ضربة مشابهة أعادتها إلى حيث هيا الآن.

فصرخت ميس فزعة : لا لا تفعل هذا، لا تقتله لا تقترب منه.

كان صوتها مخيف يصدح في الغابة الباردة المظلمة حتى أنها جعلت رائد يقف مكانه دون حراك أو أن يخطو أي خطوة ثانية وكأنه تثبت في الأرض دون أدنى حركة.

أما أمجد حين رأى حال ميس غضب جدا لفعلة رائد فهو يخرج أمامه في كل مكان يجتمع به مع ميس بدون تبرير، لم يوفر أمجد أي وقت بل أمسك رائد من عنقه ثم طرحه على الأرض، وجلس على صدره وهو يسدد اللكمات على وجهه وكأنه كيس رملي لتدرب على الملاكمة .

حاولت الفتيات أن يبعدن أمجد عن رائد قبل أن يقتله وينهي حياته بين يديه، أما ميس دخلت في نوبة هلع وخوف ترتجف كأنها ترى وحش أمامها .

روان تشد أمجد وتقول له: أرجوك توقف عن هذا لا تفعل المزيد.

أمجد يرد غاضباً وهو مازال يسدد الضربات: سأسحق وجهك يا هذا كي لا أراه مرة أخرى في حياتي بعد الآن .

نادية من الجانب الآخر تقول له : أمجد أرجوك ستذهب للسجن بهذا العمل، لن تفلح بعدها بعمل أي شيء ، ستضيع حياتك وتدمر مستقبلك الذي تسعى من أجله.

قالت روان مضيفة: فكر بعائلتك، أمك أخواتك أصدقاءك لا تسمح للغضب أن يجعل حياتك تنطفىء وتصبح مجرم .

وهنا بهذه الكلمات بدأ أمجد يهدء قليلاً ، ثم توقف عن ضرب رائد ثم نهض من فوق صدره، وسدد له ركلة قوية على قدمه وقال أيها الوغد ،عليك اللعنة .

وابتعد قليلاً عنه وهو يراه كيف ينزف الدماء من فاه، حاولت روان ونادية مساعدته كي ينهض عن الأرض ليغسل وجهه، أما ميس فكانت جالسة مطوية على نفسها وهي تتذكر ماذا فعل معها في ايام المستقبل وكيف له أن يعيد كل ما حصل من اجل غاياته.

بعد برهة من الزمن لاحظ أمجد كيف هو حال ميس ترتجف وحدها وتحدق في الفراغ والفزع واضح على وجهه متمكن من أوصالها وكأنها غير قادرة على الحركة ولا البكاء حتى كان شعور الخوف أقوى من كل شيء.

اقترب أمجد منها بهدوء ثم وضع طرف يده على كتفها شعرت هي بالريبة وتوترت، سألها أمجد : ميس هل أنت بخير؟

نظرت إليه بقلق بالغ دون رد ثم أشاحت بنظرها عنه مرة أخرى، وكأنه لم يكن موجود من الأساس.

خاف أمجد عليه، وظن نفسه هو سبب، حاول تهدئتها ، جثى على ركبتيه أمامها وقال لها : لا أريد أن تكوني خائفة، اكره نفسي إذا كنت بهذا الحال.

كانت ميس تعانق نفسها وتشد بعضها على بعض، وكانت الفتيات قد انشغلن برائد وحالته التي وصل إليها بسبب ما تلقاه من ركل وضرب والكثير من اللكمات.

في مكان آخر كانت روز قد أعدت العدة مع بعض الشبان اللصوص الذين يعملون كقطاع طريق ويعيشون من السرقة والسطو على أموال الناس.

وبعد أن سألت اتباعها في المكان عن ذلك الشاب علمت أين هو بيته ومن يكون، فهي تعرف الكثير من الأشخاص بحكم عملها و لا يرفض أحد لها طلباً كي تقوم هي أيضاً بالمساعدة عند ما يحتاجون.

قالت روز لمتزعم تلك المجموعة: أريد منكم أن تبرحوه ضربا.

قال ذلك اللص : هل تريدين أن اقتله؟ أفعل ذلك إن أردتي.

قالت روز نافية : لا أريد هذا الآن يكفي أن تلقنوه درساً قاسيا، يجعله طريح سريره لأيام عديدة.

قال الرجل كما تأمرين يا سيدتي، وإن وجدنا معه أموال؟

قالت روز : خذها لك هي من نصيبك.

قال الرجل بمكر ونبرة خبث: فقط ما يملكه؟

قالت روز وهي تفهم ما يريد : لا تقلق لن انساك أنت والذين معك من الأجر.

سألها الرجل بفضول كم سيكون الأجر على هذا العمل؟

ردت عليه روز : سيكون مرضياً بحسب عملكم، أما الآن اذهبوا دون أن تلفوا الشبهات والانظار لك.

ثم أعطته ورق كتب عليها عنوان منزله بالتفصيل، و اكملت هيا انطلق لتفيذ المهمة دون ترك أي دليل، وفي حال تم القبض عليكم أو الإمساك بكم فأنا لا أعرفك ولم أراك في حياتي.

قال لها بعد أن وضع الورقة في جيبه: لا تقلقي يا سيدتي سيكون الأمر كما تريدين وأكثر، وفي حال تم القبض علينا سنقول أنه بداعي السرقة و الحصول على المال .

كانت عبير في بيتها تغلي كأنها قدر من الماء على النار لا تستطيع الرقود أو الهدوء أبدا، بل كان بالها مشغول جداً للخطة التي أعدتها وتنتظر نتائجها وهي تتمنى أن تكون كما خططت لها بدون حدوث مشاكل أو كوارث كما حدث من قبل.

أما الجدة أمينة فقد كانت تشعر بالضيق والخوف، وكأنها تعلم بأن أمر ما قد حدث مع حفيدتها ميس.

في الغابة وعلى سفح الجبل كان أمجد يحاول أن يعيد ميس لطبيعتها ويتحدث معها بروية، لكنها كانت لا تحرك ساكن ولم يكن هذا فحسب بل بدأت بالبكاء أيضاً بدون صوت.

تغير لون وجهها إلى الأحمر وامتلات عيناها بدموع، ونزلت مسرعة على خدها البارد .

تأثر أمجد جدآ لرؤيتها بهذه الحال وهو يشعر بالذنب لما فعله أمامها وقال لنفسه: بتأكيد هي تكرهني الآن ولا ترغب برؤيتي حتى.

قال لها أمجد: إن كنتي تريدين يمكنني أن أصالح رائد الآن واعتذر منه لأجلك، لكن أرجوك لا تبكي يا ميس.

يتبع _
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي