الفصل الرابع

كغير عادته كان يجلس وحيدا، يتأمل مدينته من شرفته، ويعزي نفسه بالنظر إلى أهل مملكته الذين أحبوه. أحاطت به الذكريات، وتساقطت فوق رأسه كقطع من الجليد، مما زاد من ارتعاش جسده عندما رآها تتجسد أمام عينيه بقسوة. لقد كان دائمًا يتمنى أن يعيش حياة عادية بسيطة، ولم يكن يسعى وراء العرش، بل كان هو من سعى إليه.

بالنسبة له، أصبح هذا العرش بمثابة لعنة التصقت به طوال حياته بسببه لم يعد يميز علاقاته  بمن حوله أصبح حب من يتقربون منه تملق وهو يحمل بداخله حبا خالصا للجميع  .

اقترب منه خادمه وهو يحمل مشروبه المفضل، لقد حان الوقت ليقضي وقتًا ممتعًا ويستمتع بجلسات الموسيقى والرقص التي أدمنها، وهي الطريقة الوحيدة التي اعتاد عليها لنسيان اكتئابه طوال السنوات الماضية.
تلك اللحظات التي قضاها بين أحضان وصيفاته كانت لحظات هروب من كل ما يربطه بالسلطة والحكم.

مد الخادم يديه بالشراب نحوه. نظر للحظة إلى ذلك الكأس، متذكراً حديثه معها، فتغيرت ملامحه ثم أدار يده في غيظ وألقى ما كان يحمله ذلك العبد المسكين على الأرض.

رأته على تلك الحالة وتفاجأت. لم يسبق له أن بدا عابسًا من قبل، ولم تفارق الابتسامة وجهه أبدًا.
ماذا حدث له؟ خطت خطواتها نحو الخادم وسألته بعناية
_ماذا حدث لسيدك؟
أجابها وهو يخفض رأسه
_لا أعلم يا سيدتي.

هزت رأسها ثم لوحت بيدها وطلبت منه المغادرة.
تحدثت خادمتها بصوت منخفض
_سيدتي، القائد نيسوس في انتظارك.
_ اوه صحيح لقد نسيته تماما . سأذهب وأرى ما لديه.

نظرت إلى خادمتها وهي تعقد حاجبيها بتعجب. كانت قد رأته للتو عابسًا، يرمي شرابه من الغضب، ويغادر جلساته التي لا يمكن أن يفوتها أبدًا، لتسمع أصوات ضحكاته العالية التي هزت المكان.

حركت الخادمة كتفيها في حيرة أيضا لم تكن تملك إجابة عما يدور في ذهن سيدتها، دخلت القاعة مسرعة لتجده جالساً مع قائد الجيوش نيسوس.

ظلت صامتة تنظر إليهما، على أمل أن تجد تفسيرا لهذا اللقاء غير المتوقع. كان يكره دائمًا الجلوس مع القادة أو التحدث إليهم.

لماذا يستمتع اليوم بالحديث وإطلاق العنان لضحكاته مع القائد الذي لا يطيقه أبدًا ويتجنب اللقاء به دائما
-أهناك أمرا مهما تتحدثان عنه.
سألتهما باستغراب، فأجابها القائد بمرح
_كنا ننتظرك فانغمسنا في قصص وذكريات من الماضي الجميل أليس كذلك أيها الملك؟
أجاب الملك إيغيوس بابتسامة
- إنه على حق، كنا ننتظرك حتى نبدأ الحديث في الأمور المهمة
_ وهل ستكون معنا ايها الملك.
_ ومارايك انت؟, ألست الملك ويجب أن أكون حاضرا من أجل مملكتي وشعبي.
رد القائد نيسوس بجدية
_ نعم الملك عليه أن يكون حاضرا من أجل الشعب، لذا لنبدء الاجتماع.

جلست وهي تجز على أسنانها بغيظ تسال نفسها هل كان اعلان صريح لسحب كل صلاحياتها وعودته للحكم الذي لم يتولاه منذ لحظة تتويجه أم أن الأمر ليس سوى سوء ظن وان الأمور ستظل مثل ماهي.
_ حسنا لنبدء ايها القائد.
تحدثت بهدوء ولكن نبرتها لم تخفي انفعالها.


صوت صدى مرعب ممزوج بأصوات تلك الأقدام القريبة منها، لم تتمكن من التراجع، فكل ما سمعته كان يأتي من خلفها مباشرة. كان قلبها ينبض بعنف، وتباطأ تنفسها وشحب لونها وأصبحت رؤيتها ضبابية. توقف عقلها عن إيجاد حل، واستسلمت لما كان ينتظرها.
- وأخيرا جئت. كنت أنتظرك.
بمجرد أن سمعت هذا الصوت، فقدت وعيها تماما بينما ظل ينظر إليه مذهول.
حملها بين ذراعيها، وركض بكل قوته وسرعته، طالبا النجدة، لكن من سيكون في ذلك المكان الموحش سواه؟
فأحضر بعض الماء وبدأ يرش قليلا على وجهها حتى استيقظت. تمنت لو أنها لم تستيقظ وترى ذلك المخلوق.

كان وجهه الحيواني وجسمه البشري الضخم مخيفين للغاية لدرجة أنها فقدت قدرتها على الكلام. ظلت تحدق به مذعورة، تسحب جسدها للوراء بينما ظل هو ينظر إليها متفاجأ من موقفها، فتكلم بلطف لم يظهره صوته المخيف.
_أختي لماذا تبعدين عني؟ لقد سئمت من الانتظار، وانت لم تأت إلي منذ فترة طويلة.
ماذا قال بحق الجحيم: "أختي؟" كيف يمكن أن تقبل أن تكون قريبة من هذا الوحش؟ للحظات كان الصمت سيد هذا الموقف بينهما فلسانها مقيدا ولم تكن قادرة على نطق كلمة واحدة.
أردف وهو يجلس على الأرض يسند ظهره على الجدار
_كل من يأتي إلى هنا يخاف مني، ويشهر سيفه ضدي لقتلي لا أعلم لماذا يحاولون قتلي دائما.
نظر إليها وأكمل بحزن
_نفس هذه النظرات أراه دائما من عيونهم، لقد كرهت نفسي حقا أختي، أريد أن أموت.
لا تقدر على التعاطف معه ولا مواساته فهي في حالة ذعر جعلت حواسها تتوقف.


حاول تملق الجميع وإظهار اهتمامه بالأميرة وخوفه عليها،  فسألوه عن حالتها الغريبة منذ عودتها من المنفى فهي لم تبدو طبيعة، فعلل ذلك بفقدانها المؤقت للذاكرة بسبب شربها الماء المسموم من بئر معبد الآلهة.
حاول القادة تصديقه، رغم أن الأمر كان بعيداً عن المنطق. كيف يمكن أن تكون أميرتهم ضعيفة جدا إلى هذا الحد ؟  بسبب قليل من الماء.
_أين هي الأن؟ نريد أن نلتقي بها للحديث عن مسار الحرب.
سأله أحد القادة، فحاول التهرب من الإجابة فقال:
- حسنًا، دعونا نتحدث عن كل هذا في اجتماع الغد. أشعر ببعض التوعك الان.
نظر الجميع إلى بعضهم البعض،لقد  كان من الواضح لهم أنه لا يريد التحدث عن الأميرة باسيفاي أو عن حالتها حتى العقاب الذي تعرضت له لم يكن عادلا .
وخرج من القاعة وتوجه إلى غرفة ابنته المتهورة التي لم تهتم بسلوكها المجنون ، ودخل عليها وهو يصرخ عليها بكل غضب.
لقد أخبرتك دائمًا أن تتصرفي ببعض الحكمة  ، لكنك لم تفهم أبدًا.
اجابته بتبرم وهي تكمل تناول عنقود العنب الذي بيدها
_ ماذا فعلت؟ كنت فقط أعبر عن مدى سعادتي بما فعلته يا أبي.
اقترب منها ثم مد يده يخطف ذلك العنقود قائلا بنفس غضبه
_ لا تحاولي إفساد خططي بتهورك و جنونك.
أعادت العنقود من يد ابيها وقالت بتذمر
_ أبي  لست أنا من تفسدها أنها  باسيفاي.
ردد كلماته بغضب مرة أخرى
_ لا تفسدي خططي فقط التزمي ببعض الهدوء.
غادر غرفتها، وهو يتمتم بسخط بكلمات يكاد يكون من المؤكد أنها لعنات كان يصبها على رأسها المتحجر.

فكت عقدة لسانها وأخيراً نطقت ببعض الكلمات بنبرة مشوشة كسرت حاجز الصمت الذي دام بينهما لفترة طويلة.
_ليس لدي سيف لأقتلك.
نظر إليها بابتسامة، ثم اقترب ليحتضنها، لكنها أغمضت عينيها ومدت يديها لتوقفه بالصراخ، متوسلة إياه ألا يقترب. تراجع إلى الوراء وهو يتأملها بصمت، لا يعرف سر هذا التصرف الغريب. كانت أخته التي اعتاد أن تكون له كسند وقلب حنون ومحب. كيف لها أن تكون الآن كالبقية، تختار الابتعاد عنه خوفاً من... شكله
_ هل أكلت سيجورد؟!

أجاب في دهشة
_أكلت خادمك سيجورد. أنا لا آكل الناس يا أختي. ما هي مشكلتك؟
فهل هذا الحديث حقيقة أم أنه يخفي شيئا أعظم؟ سألته مترددة
- والدي أمرهم أن يأتوا به إلى هنا.
_والدك، عن أي أب تتحدثين؟
_الملك كنوت.
ضحك بشدة حتى أدمعت  عينيه ثم قال من بين أنفاس ضحكاته
_إنه ليس أبانا يا أختي. والدنا هو الملك السابق مينوس.
ليس المهم الآن أن تعرف من هو والدها، لكن ما يقلقها بالفعل هو اختفاء سيجورد، سألته في حيرة
-إذا لم تكن قد رأيت سيجورد، ماذا حدث له إذا ؟
صمت للحظات ثم أجابها بهدوء
-ربما قتله.
كان هذا اعتقادًا مرعبًا لم يستطع عقلها قبوله، لكن قلبها انفطر لمجرد التفكير في وموته.

بدا مريبا، صامتًا، لا يتكلم، غارقًا في التفكير، ينسحب من الجميع في هذه العزلة التي فرضها على نفسه لبقية اليوم. استجمعت رباطة جأشها واقتحمت تلك العزلة لكي تفهم ما يدور في رأسه.
كان خوفها الوحيد هو عزلها عن إدارة شؤون المملكة. لقد انضم إلى جانبها  العديد من الحلفاء، الوزراء والقادة، ومع ذلك هي تعلم تماما أن حلفاءه وشعبه لن يرضوا بحكمها الكامل دون أن يكون وجوده غطاءً لحكمها.
جلست بجانبه وتحدثت بلطف متملق
- سيدي الملك لماذا أراك قلقا ومشتتا؟
زفر بضجر دون أن يجيبها، فاقتربت منه أكثر وسألته مرة أخرى باهتمام كاذب
_كنت قلقة عليك. أخبرني، ما خطبك يا عزيزي إيغيوس؟
أجاب باقتضاب
_ لا شئ
_إذن لماذا لم تذهب وتستمتع بالاستماع إلى الموسيقى ورقص الجواري الجميلات؟
تنهد بشدة ثم نظر لها وقال
_أريد وريثاً للعرش.
انصدمت من تلك الكلمات. لم تتوقع أبدًا أن يأتي يوم يجعلها تشعر بالنقص تجاهه. وتابع دون أن ينتبه لملامحها المصدومة.
_أريد أن يستمر نسل العائلة، لذلك قررت أن يكون لي وريث.

لم ينظر إلى وجهها حتى لا يزيد من حزنه عليها فلقد أحبها دائمًا وإلى الأبد، حتى عندما لم تلد له وريثا. ولم يفكر في إنجاب أي أطفال من سواها. وأجهض الكثير من الجواري اللاتي حملن منه حتى لا تشعر بالنقص والحزن، لكنها لم تراعي كل هذا الحب، لقد انساها الجشع والقوة كل ذلك، فلم يكن أمامه إلا أن يضمن حقه في  استمرارية نسله.

يبدو لطيفًا، هذا ما قالته لنفسها المذعورة بعد أن أمضت بعض الوقت معه. لقد تحدث بلباقة ولطف، على عكس مظهره المرعب، ("ليست كل القصص الأسطورية صحيحة. المينوتور مخلوق لطيف.") تحدثت من أعماق نفسها وهي تتأمله لقد أعجبت بشخصية ذلك الوحش اللطيف. قاطع أفكارها وقال.
- ربما أراد كنوت إثارة الخلاف بيننا.
لم تفهم ما كان يقوله لأنها كانت في حاجة إلى الكثير لتعرفه عن عالمها الجديد.
و أضاف متسائلا
_ماذا حدث بينكما بعد عودتك؟!
_ من تقصد؟
_ كنوت
صمتت للحظات ثم ردت بضيق
_لم يحدث الكثير، لكنه هددني هذا الصباح.
سألها باقتضاب
_ بماذا؟
_ أن تنضم إلى الحرب وإلا سأخسر سيجورد.
نظرت إليه واستمرت
_يبدو أنني رفضت مشاركتك في الحروب الماضية.
- نعم كنت خائفة علي، مع أن لدي قوة عشرين رجلا
ابتسمت وقالت
_أخشى أن أفقد أخي اللطيف مهما كانت قوته

ابتسم بسعادة لأنها الوحيدة التي تستطيع أن تظلله في هذه الوحدة والتي تجعله يزداد قوة فوق قوته. إنه مستعد لخوض كل المعارك من أجلها، لكن ذلك الخوف الذي تحمله في صدرها من أجله يبقيه مقيدًا دائمًا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي