الرابع عشر

ابتسم وهو يتذكر ملامح وجهها الجميل. لم يسبق له أن رأى مثل هذا السحر الأخاذ من قبل. ولأول مرة، نسي أنه الملك ولم ير أمامها سوى أيولوس الإنسان. بدأ قلبه ينبض بالأمل لحياة جديدة برفقتها.

تبدد ذلك الظلام بداخله وأذابت نظراتها جليد حواسه. لقد بدأ الآن يتمنى أن يعيش عمرا طويلا بجانبها. لم يسبق له الخوف من الموت قط، وهو الآن يخشى أن يفقد حياته هو لم يستمتع بنعيم القرب منها بعد.
هذه الهواجس بفقدها أصبحت تؤرق فراشه وتجعله يدعو الآلهة أن تمنحه ملكة قلبه في كل حياة يعيشها.

_ مولاي الملك .
أجاب أيولوس بابتسامة
_نعم يا أكرسيوس
فبدأ أكريسيوس يبتسم ويقول
_من الجيد رؤيتك تظهر ابتسامتك دون أن تخفيها مثل المرة الأولى

ضحك أيولوس وقال
_لم أجد ملكتي حينها، أما الآن فقد اكتملت معها
_أرى أنك واقع في الحب بالفعل
وقف أيولوس وهو يضحك ببشاشة
_منذ زمن طويل، وقعت في حبها
صفق أكريسيوس بسعادة
- هذا جيد حقًا، لكن ملكتك مجنونة يا صديقي

رمقه أيولوس بغضب فاعتذر أكرسيوس قائلا
_ أنا أعتذر لك بشدة، ولكن...
قاطعه أيولوس بحدة
- إنها زوجة أخيك. لا تذهب بعيداً يا رجل

دخل إليهم مينيلوس وهو يحمل كأس الخمر و يمشي  يترنح قائلا بثمالة
- أوه، أنتما هنا. كنت أبحث عن أكرسيوس
أجاب أكرسيوس منزعجا
_لا أعرف متى ستتوقف عن شرب الخمر بهذه الشراهة. نحن بالفعل في حالة حرب

أجاب وهو يلوح بيده بلا مبالاة
_ ماذا لو استمتعنا بالقليل من الشراب يا صديقي، وإذا استطعنا أن نجلب النساء الجميلات أيضاً، ستصبح الحياة أجمل وأكثر جمالاً
نظر إلى أيولوس وهو يهز حواجبه قائلا بمزح
_ أن ملكتك جميلة ايها الملك
ابتسم وقال بثقة
_ لا مثيل لجمالها بين النساء
ضحك مينيلوس ثم قال
_ اكرسيوس، انت الوحيد الذي لم تجرب متعة العشق هنا
رد عليه أكرسيوس بسخرية
_ لست مثلكما ضعيفا أمام النساء

نظرا إلى بعضهما ثم اقتربا منه ينظران إليه بحنق ليقول معتذرا
_ اعتذر منكما، لقد اخطأت
ابتسم مينيلوس وقال
_ سأصلي إلى  الآلهة أن تجعلك تقع في الحب يا صديقي
ضحك أيولوس على صديقه السكير وقال
_ من يراك في ساحة المعركة ترمي الجثث الواحدة تلو الأخرى سوف يتعجب من حالك الآن
أجاب مينيلوس وهو يلقي جسده على الكرسي
_ صديقي الملك أيولوس، في هذه الحالة أنا مينيلوس، ولكن بين الأعداء أنا حاصد النفوس


ضحكوا جميعًا، ثم طلب آيولوس من أكرسيوس أن يسكب لهم النبيذ أيضًا ليتشاركوه مع صديقهم، قال مينيلوس وهو يأخذ الرشفة الأخيرة من كأسه.
_ أنا أيضا أريد المزيد. دعونا نعيش لحظات السعادة معًا يا رجال، وننسى قليلًا أمر الحرب هذه
أجاب أيولوس وهو يأخذ الكأس من يد أكرسيوس
- حسنًا، فليكن ذلك

عادت إلى جناحها وكان قلبها يحترق من الغضب، كيف يحرجها أمام القادة وهي من تفكر في الحفاظ على حياته ومملكته؟ اقتربت خادمتها عندما رأت سيدتها بملامح مستاءة تسألها بهدوء.
_سيدتي ما الأمر؟
صرخت هيميرا في سخط
_هذا الملك لم يعد يحتمل ، لقد فقد عقله بالفعل
_ سيدتي، حسناً، حاولي أن تهدأي الآن
ألقت هيميرا كل الطعام على الطاولة وقال
_كيف يجرؤ على إحراجي بهذه الطريقة المهينة، أنا الملكة هيميرا
أسرعت خادمتها لإحضار بعض الشراب، على أمل أن يهدئ من أضطرابها، أخذت هيميرا وشربت المشروب رشفة واحدة، ثم رمت الكأس بغضب وهي تصرخ.
_اللعنة عليه، لن أهتم به مرة أخرى

كان خلفها يسمع منها تلك اللعنات، لكنه لم يتجاهل الأمر، بل دخل وقال بعدم اكتراث
_لم أطلب منك أن تهتم بي
اقتربت منه ونظرت في عينيه بعنف وقالت:
- حسنًا، أعتذر عن اهتمامي بك أيها الملك
_أقبل اعتذارك أيتها الملكة
أدارت ظهرها وقالت
_حسنا يمكنك الرحيل
رد عليها بتهكم
_ لن أرحل، إنه قصري. أبقى حيث أريد
صرّت على أسنانها بغضب وقالت
_ للمرة الثانية تعلن طردي من قصرك أيها الملك
_ أنا لم أقصد ذلك.

تراجعت إلى الوراء، ثم أدارت ظهرها تسير مغادرة جناحها، ولكنه اسرع  و سحب يدها وقال
_لماذا انت مغادرة؟ هل يضايقك وجودي؟
التفتت لتنظر إلى وجهه المبتسم بشكل استفزازي
-أعتقد أنك أمرتني بالمغادرة
سحبها إلى الداخل ثم أجلسها على سريرها وقال
_ أنا من سيرحل . ابق حيث أنت

أمسكت بيده بلطف وسألته بحيرة
_ لماذا تفعل هذا؟ تتجاهل الأهم بسبب أشياء تافهة
أجاب بإستياء
_تريين أن هذه الأشياء تافهة، لكني اراها مهمة.

تجاهلت كلامه واختارت الصمت دون التعقيب على ما قاله،خرج من جناحها وهو لا يدري هل نشوة إزعاجها ستخفف عنه أم تزيد من عذابه وألمه. مشى نحو جناحه، ربما يجد بين ذراعي كايا بعض العزاء لحالته. فتح باب جناحها وارتمى سريعا بين ذراعيها، وأمطرها بقبلات دافئة وكأنه يفتقدها حقا، لكنه كشف ستر قلبه عندما نطق اسمها.

_ هيميرا حبيبتي اشتقت إليك
لقد انهار على رأسها صرح الأمنيات، ليس ثملا، بل هو في كامل عقله. لكنه أخطأ في اسمها ونسي من هي. كان مخموراً بالحب الذي أرهقه، ويبدو أنه سيرهقها في الأيام المقبلة.
_ مولاي الملك أنا أنتظرك منذ زمن طويل أين كنت

أخذها وأجلسها بجانبه وقال
_ اعتذرت منك حبيبتي، انشغلت قليلا
إنها تأمل أن تكون حبيبته بالفعل، وليست كلمة يقولها دون أن يشعر بها بداخله
_عزيزي الملك، سمعت أن هناك حربًا
_ لا تخافي، ليس هناك ما يقلق عزيزتي، اطمئني

قامت تسكب له بعض الماء ثم قالت
_هل رأيت الملكة هيميرا اليوم؟
أغمض عينيه كرفض واضح لسؤالها، وقالت وهي تقدم له الكأس
_لقد عزفت لحنًا جديدًا هذا الصباح. هل تريد أن تسمعه؟

هز رأسه وهو يأخذ منها الكأس، فبدأت بإعداد الآلة الموسيقية ثم عزفت بقلب مكسور، فالحب الذي تكنه له لن يكون له أمل ليوم واحد طالما كانت تلك الملكة هيميرا بينهما.


لم تحب صمت سيدتها على الإطلاق، كيف يمكن أن تظل صامتة بينما أمر ذلك الطاغية بقتل سيجورد المسكين؟ محاولاتها لكسر هذا الصمت باءت بالفشل طوال اليوم، لكنها كانت تشعر بالقلق مع كل زائر يطرق باب الجناح. ظنت أنه سيأتي حاملاً رأس الخادم سيجورد. لعنت عجزها ومصيرها الذي جعلها خادمة لهؤلاء الملوك الذين لا يهتمون إلا بأنفسهم، مهما كان ذلك الشخص مخلصًا لهم

_سيدتي آنا
ولأول مرة، نادت آنا باسمها الحقيقي، التفتت إليها بوجه كئيب، فقط لتقول لها آثي، الغاضبة.
_ اعتقدت أنك شخص طيب ولطيف، وآمنت بجهودك لإنقاذ سيجورد وأمي، لكن ماذا الآن أراك تقفين عاجزًة ومستسلمًة لقرار ذلك الطاغية؟

نظرت آنا بعيدا عنها وغرقت في أفكارها مرة أخرى، لكن آثي لم تتركها بمفردها وصرخت وهي تهز كتفيها قائلة بقسوة:
_لن أسامحك على قتل سيجورد. لقد كان مخلصًا لك حتى النهاية، وأنت تكافئه بموته

أبعدت آنا يديها عنها وقالت بسخط أيضًا
- رددي تلك الكلمات لأميرتك باسيفاي، وليس لي. سيجورد لم يخلص لي على الاطلاق ،على العكس من ذلك تماما ، لقد قام بتوريطي وألقى بي هنا إلى الأبد.
هزت آنا رأسها يائسة واكملت
_ سيجورد مذنبا بحقي، لكن بالنسبة لولائه وإخلاصه للسيدة باسيفاي، فلتأتي هي  لنجدته.

تفاجأت آثي بكلمات آنا الحادة وصريحة ،لكنها كانت على حق في الواقع. لم تكن أميرة، بل إنسانة اجبرت على حياة ليست لها، ومع ذلك كان الجميع يتوقع منها الوفاء الذي لم تجده منهم منذ البداية.


"ازداد توتر الملك كنوت ولم يكن أمامه سوى الهرب، لكن ابنته المدللة أورسولا لن تقتنع بذلك. حلم أن تكون ملكة أيس لم يترك فكرها دائمًا. ذلك الحلم لن يجبرها أحد على تركه، حتى لو كان ذلك الشخص هو والدها العزيز، صرخ في وجهها. بغضب
_ مللت منك ومن أوهامك أن أيولوس على الأبواب. إذا لم نهرب الآن، فلن نجد فرصة أخرى.

لم تهتم بكلام والدها المذعور وقالت ببرود
_ أبي لن أهرب أبداً فهي مملكتي ولن أتخلى عنها من أجل أحد.
صفع إحدى يديه على الأخرى وقال في يأس
_ هل تنتظرين أن نموت هنا معًا؟
_ لا أريد أن أموت، لكني لن أترك مملكتي لتلك الأميرة باسيفاي.
اقترب من ابنته وقال هامسًا
_ تلك الفتاة ليست الأميرة باسيفاي.
رفعت حاجبيها في دهشة وهي تستمع إليه وهو يواصل بكل وقاحة ولا مبالاة بما فعله 
_ قدمت الاميرة باسيفاي إلى إله العالم السفلي، هاديس، في طقوس خاصة في جزيرة المعبد (أوجيجيا)

رفعت أورسولا حاجبيها واستمر والدها يتساؤل بذهول عن تلك الفتاة الشبيهة .
_لا أعرف كيف جاءت هذه الفتاة أو من أين أحضرها سيجورد، لكنها نسخة من باسيفاي.

استدار كنوت واستمر في سرد ​​ما حدث.
_عندما أمرت بنفي الأميرة، طلبت من الحارس أن يربطها جيداً. أخذت قليلا من ماء المعبد المسحور وأعطته لها، ثم بدأت ارتل الصلوات لاستدعاء الإله وملك العالم السفلي (هاديس).

ظلت عينا أورسولا تضيقان وتتسعان من الدهشة وهي تستمع إلى كلام والدها بأنه قد وصل إلى هذه النقطة. من القوة التي لم تتوقعها، أخذ كنوت نفسًا ثم تابع
_لا أحد يعلم ما حدث في ذلك اليوم سواي أنا ورئيس الكهنة الذي ساعدني في ذلك الوقت.

فسألته أورسولا بدهشة:
_أليس رئيس الكهنة صديقًا للملك مينوس؟.
أجابها والدها بابتسامة خبيثة:
_بالتأكيد، ولكن إذا قدمت أميرة للملك هاديس وقبلها خليلة له، فسوف يمطرك بالمال والهدايا، وقد قدمت ذلك التقدمة باسم الكاهن.
_ لقد ضحى بالأميرة من أجل مصلحته.

ربت على كتف ابنته بلطف وقال:
_الجميع يبحث عن مصلحته يا ابنتي، وليس هناك ولاء  الا للضعفاء فقط.
_ وهذا يعني أن باسيفاي لن تنجو أبدًا.
فهز رأسها بالإيجاب وقال
_هي الآن زوجة هاديس، فلا سبيل لها إلى العودة إلى هذا العالم.

ثم أردف وهو يربت على كتفها وقال:
_لذلك يجب علينا دائمًا أن نبحث عن مصالحنا الخاصة. فأجابت أورسولا قائلة بكل إصرار
_ إن الهرب لن يجعل اي منا مستفيد، لن نحصل سوى على التشرد والخسارة
_ أيولوس يريد قتلي
_ أعلم، لكن قد يحدث شيئًا ما يجعله يتوقف عن فكرة الانتقام هذه إلى الأبد.

عقد حاجبه وسألها بغرابة
_ ماذا تقصدين؟
أجابت بابتسامة وهي تنظر نحو الشرفة
_ تحلى ببعض الصبر ، ابنتك ستجد الحل بالتأكيد.
_عن أي حل تتحدثين؟
حضنت والدها لتخفف عنه ذلك التوتر وقالت
_لا تقلق، فقط ارتاح يا والدي.
عن أي راحة تتحدث؟ ومن أين ستأتي هذه الراحة؟
لقد وُعد بالموت المحتوم، فقاتله ينتظر الفرصة لإنهاء حياته دون أن يرف له جفن

لم تسمع أي خبر عن وفاة سيجورد. وكما توقعت سيعود ذلك الملعون من جديد ويبتزها به . قد يكون المينوتور هو الحل، وربما يكون الدمار، كما قيل لها.

وهي الآن تبحث عن حل مؤكد لنفسها. ولكن لا يوجد شيء لتفعله حيال ذلك.
_سيدتي ألا تنامين؟
تحدثت آثي وهي تحاول كسر حاجز الصمت الذي استمر لمدة يوما كامل، لكن كل محاولاتها ومازالت فاشلة.  استدارت آنا وهي مستلقية على سريرها رافضة  النظر إلى آثي، التي زادت حيرتها وقلقها من هذا السكون

مر اليوم ولم يبق إلا يومين، وتكون حينها زوجة الملك أيولوس. ولم يتوقف عقلها عن التفكير في ذلك، ولكن دون جدوى. لم يكن هناك بريق أمل أو طريقة لإنهاء هذه اللعبة. وبين الحين والآخر كانت تقرص جسدها على أمل أن تستيقظ من هذا الكابوس وتعود إلى حياتها الطبيعية كما اعتادت.
_ سيدتي، أعلم أنك غاضبة مني. لقد شعرت بالانزعاج قليلاً عندما وجدت ذلك الملك يهدد بقتل سيجورد.

لم تتحرك آنا من مكانها وكأنها لا تستمع إليها. جلست آثي على حافة السرير وقالت:
_من فضلك سيدتي، من فضلك تحدثي معي.

بكت آثي عندما لم تتلق أي إجابة من آنا، فشعرت بالأسف على وضعها وقالت في النهاية دون أن تلتفت إليها:
_آثي، لا أرغب في التحدث، ارجوك أن تكفي عن البكاء
_ أعلم سيدتي أنك تمرين بوقت عصيب، لكن الصمت ليس حلا.
تنهدت آنا ثم استدارت وقالت:
_ آثي، من فضلك اتركني وشأني. أشعر وكأنني على وشك الانفجار،
ردت آثي بخضوع:
"
_حسنا سيدتي، كما تريدين.

لا شك من أن آنا وصلت الآن إلى مرحلة الاحتضار  وتنتظر الموت بهدوء، فهي في كل الأحوال ميتة سواء كان ذلك على يد كنوت أو الملك أيولوس الذي لا يعلم حقيقتها بعد .
ولكن ماذا لو فعلت شيئًا لم يفكر فيه الجميع، أو أن تسلك طريقا لن يخطر على بالهم، ربما ما تريد فعله هو الجنون بعينه ولكن ذلك على الأقل أكثر لطفا من ما ينتظرها داخل وخارج هذه المدينة،

ذلك كان شعورها بعد أن فكرت كثيرا بصمت، جلست تنظر إلى آثي وهي تبكي ثم قالت بهدوء
_أنا ذاهبة للخارج
سألت آثي في ​​دهشة
_أين ستذهبين سيدتي؟ إن الوقت متأخر
_ لا يهم
_حسنا سوف آتي معك
رفضت آنا بشدة قائلة
_لست بحاجة إليك، فقط ابقى هنا و اعتني بنفسك
جفلت آثي وقالت متسائلة بإرتباك
- ماذا تقصدين ؟ هل ستتركيني وتذهبي بعيدا؟
أجابت آنا بنفاذ صبر
_آثي، توقفي عن البكاء، أنا سأرحل الان لا تخبري أحدا حتى الصباح.

ارتفع نحيب آثي، لكن هذا النحيب لم يمنع آنا من استكمال ما خططت له، ومشت لتغادر الجناح وتتسلل للخارج بهدوء.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي