الفصل الثامن

بحثا عن الوزير بيلوتس في حانات المدينة وبين السكارى المترنحين في تلك الأزقة التي تفوح منها رائحة النبيذ القوية.
هزت آنا أنفها باشمئزاز وهي تدفع أحد السكارى بجانبها بعيدًا، تهمس بانزاعاج  لآثي
_أين يمكن أن يكون هذا الوزير؟
أجابت آثي وهي تلوح بجانب أنفها لدرء الرائحة
_لا أعرف. قلت لك أنه لا فائدة منه

كان المشهد غريباً و مرعباً. اقترب منهما أحد الرجال و غازلهما بطريقة مثيرة للاشمئزاز. دفعته آثي بعيدًا وصرخت في وجهه بازدراء.
_اذهب بعيدا أيها السكير الوضيع
أغضبه كلامها، فرفع صوته ينادي أصدقائه
_يا رجال، هاتان الفتاتان تحتقراننا

اندفع الرجال نحوهما . لقد شعروا بالخوف، لذلك صرخت آنا وهي تستدير وتهرب
_آثي، اركضي بسرعة، سوف يقتلوننا

لكن آثي وقفت تحدق بهم في خوف، غير قادرة على الحركة، فقامت آنا بإمساكها بسرعة وشدها بعصبية
_ هيا ما هذا الغباء ؟ سوف نموت، الا تدركين هذا اسرعي؟
أدركت آثي الخطر الذي كانوا فيه وأطلقت العنان لساقيها وهربتا

وقفتا بعد أن شعرا أنهم ابتعدتا بما فيه الكفاية عن هؤلاء الرجال. تحدثت آنا وهي تتنفس بشدة
_ ذلك الرجل العجوز لن نجده حتى تموت أحدانا
استندت آثي على أحد جدران المنازل وقالت بتعب
- لقد أخبرتك سيدتي، لكنك تريدين مقابلته رغم ذلك.
_يجب أن نجد طريقة للعثور عليه
تتاففت آثي بضيق  ثم قالت
- لا يوجد سوى الطريق الذي هربنا منه الآن، وتلك الأزقة النتنة

مر أمامهما رجل عجوز يحمل صندوقا ثقيلا. كاد يقع لو لم تساعده آنا. ثم نظرت إلى خادمتها تأمرها  أن تحمله عن الرجل العجوز وقالت بشفقة:
- لا تقلق، سوف نحمله لك
لكن الرجل العجوز ارتاب منهما واحتضن صندوقه بقوة، فقالت آنا بتهذيب
_لا تخف، نحن لسنا لصوص. أردنا فقط المساعدة، ولكن كما تريد

ابتسم الرجل لعطف آنا وسألها مستغربا
-يبدو أنك لست من هذا الحي
أجابت آثي على عجل
_نحن نبحث عن السيد بيلوتس
هز الرجل العجوز رأسه ثم قال
_هذا الرجل الطيب
سألته آنا بعناية
_ هل تعرفه؟
_ بتأكيد أنه يساعد الفقراء دائماً
- هل يمكنك أن تخبرنا أين هو؟
رفع الرجل حاجبيها وسأل
-هل تريدين أن تؤذيه؟
ردت آنا باعتراض
_ لا، بالطبع. هل نبدو مثل قطاع الطرق؟ إنه عمي وقد جئنا لزيارته

ففرح العجوز وقال:
_ إنها فكرة جيدة أن تسألا عنه . إنه طيب القلب، لكنه وحيد دائمًا
- حسنا، من فضلك خذنا إليه

سارا خلف ذلك الرجل العجوز الذي لم يتوقف عن مدح السيد بيلوتس، وإخبارهم عن صدقه ولطفه، كانت آنا تائهة، تفكر فقط كيف ستبدأ سؤالها للسيد بيلوتس وما إذا كان سيتمكن من مساعدتها لتحل قضية سيجورد أم أنها تتشبث بأمل كاذب؟

جمع جيشه وألقى خطاباً بكل حماسة ليغرس فيهم روح القوة والشجاعة قائلاً:
_ أيها الرجال، لقد حانت اللحظة للانقضاض على فريستنا الجديدة. إنها ايس العظيمة، مدينة الآلهة. وسوف تكون قريبا ملكنا.
صاح الرجل بصوت واحد
_ يحيا الملك العظيم أيولوس. يحيا الملك


وقف صديقه عن يساره يراقب حماسة الجنود ويهمس له وهو يبتسم
_هذا هو الملك العظيم أيولوس الذي نعرفه. بدأت أفقد الأمل في دخول هذه المدينة
فنظر إليه أيولوس ثم ربت على كتفه وقال
_قلت لك لا تتعجل الأمور، فلنستعد الآن
قال أكريسيوس بحماس
_لكننا على أتم الاستعداد
_لم يتبق سوى يوم واحد وسيتم تدمير آيس بالكامل
استغرب من كلامه وقال:
_ أيها الملك، لقد جئت لغزوها وضمها إلى أرضنا وقتل كنوت، وليس لتدميرها


لم يكن يعلم كيف يشرح لصديقه أن بداخله بركانًا يغلي على وشك أن يقذف حممه على مملكة آيس بأكملها. لقد كانت باسيفاي، تلك الرغبة التي لم تتحقق، ذلك الحلم الذي أصبح شبه مستحيل والذي خاض الكثير للوصول إليه.

جلس في غرفته عابسًا غارقًا في أفكاره. كان مترددًا في قراره، لكن لم يكن لديه حل آخر. استجمع قواه واغمض عينيه على الفور وانطلق متوجهاً إلى ذلك القصر الذي أقسم ألا يدخله بعد وفاة صديقه.

كان يسير في الردهة، يتذكر تلك اللحظات التي كان فيها وزيراً ذو شأن ، تلك الأيام التي جمعته بصديقه الملك مينوس. وها هو الآن رجل عجوز بلا مأوى.

وقف أمام الباب يستعد لمواجهة عدوه الازلي، أخذ نفسا عميقا ثم دخل على الملك ينظر إلى الأرض وكأنه يرفض رؤية وجهه
وقف الملك كنوت وصاح بترحيبًا متزلفًا
_الوزير بيلوتس في قصري، لا أستطيع أن أصدق ذلك.
فضحك وزيره وقال بسخرية
- اشتاق السيد بيلوتس إلى أيام مجده في القصر
أجاب الملك كنوت وهو يبتسم
_ الوزير بيلوتس مرحب به في أي وقت

استاء وزيره وظل صامتًا وهو يراقب كنوت وهو يقف ويسير نحو بيلوتس العجوز
_أعلم أن ما دفعك للمجيء هو بالتأكيد أمرا خطير للغاية.
أجاب السيد بيلوتس بلهجة جامدة
_أنت تدرك تماماً خطورة الوضع، ولكنك تتجاهله.
عاد الملك إلى كرسيه وقال وهو جالس عليه
_أيولوس يريد تدمير آيس، وما دخلي بذلك؟

- من الجيد أنك تعلم، ومن الغريب أن ترى تدمير آيس أمراً عادياً

ابتسم كنوت وقال
_ أميرتك باسيفاي أيضًا لا تهتم بالمملكة. إنها تهتم فقط لخادمها، ذلك المخلوق الأزرق، سيجورد

شعر بيلوتس ببعض الطمأنينة، فقد عادت الأميرة وعليه أن يقابلها ويقنعها بلقاء الملك أيولوس
صمت الملك كنوت للحظة، ثم قال
_قادة الجيش ضعفاء ولا أحد منهم يريد الحرب

أجابه بيلوتس العجوز بحدة
_أي حرب مع جيوش عظيمة كجيوش الملك  أيولوس، لم تتمكن الممالك المجاورة من الصمود أمامها. هل تريد دفع الجيش إلى الانتحار؟

غضب كنوت وقال وهو يقف ويضرب كرسيه
_أنا الملك كنوت. كيف تجرؤ على التحدث معي بهذه الطريقة؟

_يمكنك أن تقتلني، لكنني لا أراك ملكًا، بل ذلك الكاهن المخادع كنوت. أتمنى أن لا تنسى ذلك

قال السيد بيلوتس كلماته الأخيرة وهو يبتسم بخبث مما زاد من غليان الملك فرفع صوت يصرخ وهو يستدعي الحراس
_ يا حراس يا حراس

ضحك السيد بيلوتس عليه وقال بتهكم
- لماذا تنادي الحرس؟ هل قررت قتلي؟
تدارك كنوت الأمر وقال ساخطا
_اللعنة، أعرف أنك طيف
ضحك بيلوتس بشدة حتى أن وزير الملك تفاجأ واقترب من السيد بيلوتس ولمسه وصرخ هو أيضا  في دهشة
_كيف هذا؟ إنه مجرد طيف
قال الملك كنوت بغضب
_أيها العجوز اللعين، أستطيع الوصول إليك وقتلك.

ضحك السيد بيلوتس وقال بتحدي
_سأنتظر وصولك أيها الكاهن كنوت.
غادر السيد بيلوتس وهو يضحك على ملامح الملك الغاضبة، بينما ظل وزير كنوت، المذهول، يحدق في الرجل العجوز حتى اختفى عن الأنظار.
_اظن  أن ذلك الوزير ساحرًا
زفر كنوت بغضب وقال
_لا أريد أن أسمع عنه أي شيء. أين تلك الأميرة؟
رد وزيره بإرتباك
- لا أعلم، ربما في جناحها
تردد الوزير ثم سأله
- سيدي الملك، لا أفهم لماذا يرتبط تدمير آيس بذلك الوحش.
فالتفت إليه الملك وقال بتحذير
_لاتقحم نفسك فيما لا يعنيك
صمت الوزير الحائر، يبحث في ذهنه عن بعض الإجابات، لأن ملكه لا يشاركه أي شي ، رغم أنه وزيره، بل كان ذلك الملك لا يستشيره إلا في الأمور التافهة.

بدأ قلب كايا متعلقًا بالملك إيغيوس حتى بدأت تشعر بالضيق عند غيابه عنها. تولد هذا الشعور من معاملته اللطيفة وهذا الحب الذي يمنحها لها. حتى لو كان مزيفًا، فقد رأته حقيقيًا. سألت نفسها لماذا لا يحبها، هي أجمل بكثير  من ملكته المتغطرسة هيميرا، لكنها دائما تعود إلى رشدها على الفور. والحقيقة هي أنها كانت مجرد محظية، والملك أرادها فقط أن تلد وريثًا. أتمنى لن يجعل حبه لها حقيقيًا أبدًا، بغض النظر عما تريده،هناك
الملكة الذي لن ينضب في قلبه عشقها مهما حاولت.

فُتح باب الغرفة لتجدها أمامها. ولم تشعر بالارتباك مثل المرة السابقة. بل على العكس تماما، وقفت بحزم وكأنها تعلن بوضوح أنها المالك الحالي لهذا الجناح الملكي. لكن صرح تلك الغطرسة انهار عندما قالت لها هيميرا بلطف.
_لقد جئت اطمئن عليك

تساءلت ما وراء هذا اللطف الكاذب، لكن كايا لم تظهر ذلك الاستنكار واجابتها بامتنان لطيف
_شكرًا لك سيدتي الملكة هيميرا
وكررت تلك الكلمات لتوضح أنها لم تنس ما حدث في جناح الملكة. ابتسمت هيميرا وهي تجلس على حافة السرير قائلة
_من الآن فصاعدا ستكونين قريبة مني أيضا وليس من الملك فقط.
_أنا لا أفهمك سيدتي.

أشارت لها الملكة بالجلوس بجانبها على السرير، لكنها تعلمت من الدرس السابق وجلست على الأرض تحت قدميها
فتحدثت هيميرا بابتسامة
_يجب أن أعتني بوالدة الأمير القادم.
وقفت هيميرا واردفت بحزن
_تمنيت أن يكون لي طفل واحد فقط، لكن الآلهة لم تباركني
فقالت كايا بأسف
_أعتذر عن ذلك سيدتي.

قالت هيميرا بابتسامة وهي تخفي الالم بداخلها
_لماذا تعتذرين؟ انها ليست غلطتك. لقد كنت شقيًة وسيئًة،, لذلك لم ترزقني الآلهة بطفل لمعاقبتي.

تنهدت بوجع ثم أكملت كلامها  بسعادة زائفة.
_ كايا، يجب أن تهتمي بنفسك. لقد طلبت من طبيب الملك أن يعتني بك جيدًا
أجابت كايا في دهشة
_لماذا الطبيب؟ لا أعاني من أي مرض.
_يجب أن نعتني بصحتك قبل أن تحملي بالأمير حتى تتمكني من ولادته سالمة معافاة
_ لكن ....
قاطعتها الملكة هيميرا بشدة
- الطبيب الملكي سوف يراك. لا أريد أي اعتراض

استسلمت كايا رغم استنكارها للتحول المفاجئ الذي حدث في شخصية الملكة، لكنها تشك في أن كل ما تفعله هو شيء تخفيه. ربما هذا الشيء هو نهايتها. ومع ذلك، فهي الملكة وعليها أن تطيعها مهما كان الثمن.


عندما علم الملك إيغيوس باقتحام هيميرا جناحه، سارع بخطواته وهو غاضبا منها، لقد عصت أوامره بمغادرة جناحها.
دخل الغرفة وكانت كايا وحدها تعزف على آلة وترية كانت هذه متعتها لقضاء وقت فراغها عند غياب الملك عنها. اقترب منها يحتضنها وهو يشعر بالأسف
_أعتذر عن انشغالي عنك. هل ازعجتك هيميرا؟

هزت رأسها نافية ثم قالت
- سيدي الملك، لم أعد أهتم. أستطيع أن أتحمل مضايقتها
فغضب الملك وقال
_هل هذا يعني أنها ازعجتك؟
فبقيت صامتة، فاشتد غضب الملك فغادر على الفور. لا تعلم سبب قيامها بهذا المشهد أو ما الذي أرادت إثباته. ربما أرادت زيادة الخلافات بينهما، لتجد بعد ذلك مكانا لحبها في قلبه، لا تعلم بالفعل لماذا صمتت ولم تخبر الملك بما حدث بينهما.

كان غاضبًا لدرجة الانفجار عندما دخل جناحها، قفزت عليه فرحا،  و احتضنته بلهفة جعلته عاجزاً مثل كل مرة. ظل يشم رائحتها التي كانت تفتنه دائمًا و أبدًا. نسي للحظات الغضب الذي يكنه لها، قالت وهي بين ذراعيه.
_اشتقت لك يا عزيزي، هل اشتقت لي؟

أبعدها عنه بهدوء ثم قال
_لماذا يا هيميرا؟
عادت لتعانقه مرة أخرى وسألته بنبرة ناعمة
_ ما الذي فعلته ؟
دفعها بعيدًا وهو يقول بهدوء عكس الحالة التي كان عليها
_أمرتك بعدم مغادرة غرفتك، وعدم إزعاج كايا، لكن أنت....
قاطعت كلامه بقبلة أذابته حتى النخاع، ثم قالت
_قررت الاعتناء بها حتى تلد أميرنا الصغير
لقد كان في عوالم أخرى حيث نسي كايا والأمير والجميع. فقط كانت هي الوحيدة. لم يكن يعرف سبب ضعفه أمامها، لكنه لم يظهر ذلك الضعف حتى لا يخذله غرورها مرة أخرى.

وقال بإصرار
_أحذرك من الاقتراب منها. دعيني أجد بعض الحب الذي لم أجده معك
سيطرت على انفعالها وقالت
_لم أزعجها، تستطيع أن تسألها. أردت فقط أن أعتني بها بينما كنت مشغولاً.
أجاب ببرودة مصطنعة
_ شكرًا لك. لا أريد منك هذه الخدمة. أستطيع أن أعتني بخليلتي و أميري القادم
تمسكت به وسألته بخبث
- ماذا لو لم تلد أميرك هل ستبحث عن غيرها؟
_ نعم
_هذا يعني أنك لا تهتم بها، فقط تريدها أن تلد وريثك

أجاب بعصبية
_ لا، أنا أهتم بها، حتى لو لم تنجب اميري، ستبقى خليلتي الخاصة الوحيدة.
ضحكت لاستفزازه وهي تحاول بتلك الضحكات أن تخفي نيران غيرتها المشتعلة. تحدث أيغيوس بنفس عصبيته
- لولا سقوط مملكتك ثيساليا لأرسلتك إلى أخيك الملك بيلياس
- هل كنت ستطردني؟
أجاب وهو يصرف عينيه عنها
_ نعم سأفعل

لم تلاحظه عندما كان يتحاشى النظر في عينيها وهو يقول تلك الكلمات، لكنها انفعلت وصرخت في وجهه
_ أحببتك وسعيت أن أجعل مملكتك من أعظم الممالك. لقد تخليت عن أخي وعائلتي من أجلك، والآن من أجل وريث عرشك. سوف ترميني بعيدًا يا أيغيوس. أنا الذي أسست عرشك هذا.

ذلك الحب الذي يحمله لها في صدره يتمزق أمام عينيه مع كل لحظة تظهر فيها غطرستها وجحودها وإنكارها أنه هو الذي فضل البقاء في الظل من أجلها، وهي الآن تلومه. لكونها هي الذي وضع أساس حكمه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي