الثامن والعشرون

بقيت واقفة في تلك الشرفة حتى بزغ الفجر بنسيمه البارد، فبسطت يديها واستقبلته بذراعين مفتوحتين، ثم أعلنت أن هذا الصباح هو الأخير لها، فبدأت تتنفس ذلك النسيم ثم قالت:
_اليوم سأحرر روحي من هذا الجسد الذي لم يجلب لها إلا العذاب. سأرحل عن هذا العالم الذي لا يهتم بمشاعر الضعفاء. سأتركك يا ملكي الحبيب، الذي لم يرحم دموعي التي لم تذرف الا لك ومن أجلك. سأفتقدك وتلك اللحظات التي قدمتها لي. سأتحرر من حبي الغير مكتمل، فبدونك لا حياة لروحي. وداعاً أيها الملك أيغيوس. الوداع.......
رمت بنفسها من أعلى تلك الشرفة، وهي تبتسم وتغمض عينيها وكأنها تعانق الموت.

كان القصر يضج بأصوات صراخ الخادمات وحركات الحراس المريب . استيقظوا على تلك الضجة وقف واسرع نحو الباب، متسائلا عما يحدث.
_ماذا يحدث في الخارج؟
فأجاب أحد الحراس قائلاً
_سمعت إحدى الخادمات تصرخ وتقول إن إحدى المحظيات ألقت بنفسها من الشرفة
فسأله في دهشة
_ كيف حدث هذا
أجاب الحارس
_لا أعلم يا مولاي
سأله أيغيوس عن حالتها
_هل المحظية بخير؟
- سيدي، أعتقد أنها ماتت
هز رأسه بحزن ثم قال
- حسنا، سوف آتي لأرى ما حدث

لقد كان منهكاً من السهر، لم يتمكن من النوم بسبب أفكاره، وهنا استيقظ على تلك الأصوات المزعجة الصادرة بسبب تلك المحظية التي أنهت حياتها.
سألته هيميرا وهي تعدل لحافها، ويبدو أنها تواصل نومها
_ ماذا حدث؟
أجاب وهو يرتدي ملابسه
_ انتحرت إحدى المحظيات
_هل تلك الأصوات لتلك المحظية التي انتحرت؟
_سأذهب لأرى ما الذي يحدث
أجابت وعينيها مغلقة
_حسنا حظا سعيدا

في الردهة، التقى أيغيوس بإحدى الخادمات وسألها عن المحظية المنتحرة. قالت له بوجه حزين زائف.
_إنها السيدة كايا يا سيدي
دفعها دون أن يدرك ذلك وصرخ عليها وأهانها بحده
_كيف تجرؤين على قول ذلك، كايا في جناحها تعزف الموسيقى .

بكت الخادمة وجسدها مرميا على الأرض ليركض الملك بكل سرعة إلى جناح كايا التي كانت مستلقية على سريرها ومغطاة بالدماء

اقترب منها ببطء، وهو يشعر أن قدميه لا تستطيع المشي. كان هذا مستحيلا. لم يصدق عينيه، أن ما يراه ليس حقيقيا، مازال يراها تعزف على الآلة الموسيقية، وما زالت أنغامها ترن في أذنيه

ركع بجوار السرير الذي كانت مستلقية عليه  بملامحها الساحرة وكأنها نائمة مثل الالهة أفروديت.
لم يستطع احتواء حزنه وغضبه، فأطلق صرخة أرعبت من كان هناك، ثم احتضن جسدها الهامد وقال بعتاب.
_لماذا يا كايا لماذا فعلتي هذا كيف قررتي أن تتركيني وترحلي؟

اشتد بكاء الملك وهو يهز جسدها الساكن. يحاول أيقاظها والتحدث معها مثل السابق، تذكر كلماتها الليلة الماضية عندما أخبرته أنها ميتة بالفعل بدونه.

وزادت تلك الذكرى من حالته العاطفية، فحملها محاولاً إيقافها أمامه. تأثر الجميع بحالة الملك، وأسرع بعضهم لإخبار الملكة هيميرا بما يحدث.
تحدث وشفتاه ترتجفان محاولاً رسم ابتسامة.
_ كايا، عودي إلى جناحي. أعدك أنني لن أتركك أبدا. أفتقد عزف الحانك، هيا بنا لنعود

دخلت هيميرا ووجدته في تلك الحالة ممسكًا بكايا ويتحدث إلى جثتها. اقتربت منه وقالت بلطف وهي تحاول سحب الجثة من يديه.
_عزيزي أنها ميتة الآن، ولا تستطيع الرد عليك

رمق هيميرا بنظرة لم ترها من قبل، نظرة أخافتها
ثم صرخ
_أنت السبب يا هيميرا، أنت السبب
مد يديه لها وهو يحمل جسد كايا قائلا بحزن
_ أعيديها لي. من فضلك، هيميرا، أعيديها، لا أستطيع تحمل فقدانها، أتوسل إليك.

ارتفع صوت أنينه ثم قال
_كانت دائما ما تسعدني لكن ماذا فعلت بها؟ لقد سرقت حياتها منها. لماذا لم أستمع إلى توسلاتها؟ سأعيش مع ذنبها حتى أموت.
جلس على الأرض يبكي كالأطفال وهو يحتضنها ويرفض تركها مهما حاولت هيميرا إقناعه

كان ينظر إليهما وهما يتهامسان وكان يشك بأن  هناك أمرا هاما يحاك ، لمحه أيولوس وقال
_ذلك العجوز، يحدق بنا  يحاول أن يفهم ما يدور
حاول مينيلوس أن يلتفت ويراه ولكن أيولوس قال يمنعه
_لا تجعله يشعر بأننا نتحدث عنه
ابتسم مينيلوس وقال
_سأدعوه لشراب حتى أجعله يثمل وينسى اسمه.

ضحكا الاثنين،  تقدمت آنا نحو العجوز المهموم سألته باهتمام
_ ماذا بك سيدي الوزير؟ اراك مشغول البال؟
تحدث وهو يراقبهما
_ أشعر أن هناك أمر مريب يحاك
اضطربت آنا ولكنه لم ينتبه لها ثم أردف وهو ينظر إليهما
_ منذ الصباح لم أرى أكرسيوس وهذا شي غريب أيضا

ردت آنا ضاحكة وهي تحاول اخفاء شحوب وجهها
_ ربما لم يغادر خيمته، وظل مع الأميرة
عاد يراقبهما ثم قال بشك
_ لا ظن ذلك، اكرسيوس ليس من هولاء الرجال الذين يأثرن النساء بهم
نظر إليها وكانت تحاول تحاشي النظر إليه ثم قال متسائلا
_ ماذا بك؟، لا تبدين على طبيعتك
ردت آنا تصطنع الثبات
_ لا، انت الذي لا تبدو على طبيعتك، هل رأيت كابوسا بالامس؟
قال بحزم
_ آنا، يجب أن تخبريني، قبل أن تسوء الأمور
رأى أيولوس ملامح آنا المتوترة، ففهم أن العجوز بدء يمارس حيلته عليها، فقال لمينيلوس
_ سوف اذهب وارى العجوز، أنه يحاول ممارسة مكره على زوجتي

تقدم أيولوس مقتربا منهما ثم احتضن آنا بين ذراعه يقبل خدها قائلا ببشاشة
_ صباح الخير عزيزتي
ردت آنا مبتسمة تخفي توترها
_ صباح الخير عزيزي
نظر أيولوس إلى العجوز الحائر ثم قال له
_ الوزير بيلوتس أراك مهموما هذا الصباح

رد العجوز نافيا وهو ينظر إليه بريبة
_لا لست مهموما، ولكن.....
صمت لثانية ينظر إلى آنا ثم أكملت
_ سيدتي لا تبدو منذ الأمس على طبيعتها مثل ما أخبرتك.
فهم أيولوس تلك الحيلة فقال بمكر هو أيضا
_ حسنا أستاذنك لأخذها، لن أعيدها حتى تعود مثلما كانت.

ضحك عندما استدار هو وآنا وغادرا معًا أمام الرجل العجوز. قال أيولوس هامسًا لآنا
_لقد أنقذتك من خداع ذلك الرجل العجوز. لن تشكرني؟

تنفست آنا الصعداء ثم قالت بابتسامة
_ شكرا لك، يا عزيزي
وأشار بإصبعه إلى خده كإشارة لطلب قبلة. استجابت آنا لهذا الطلب ووضعت قبلة صغيرة على خده.


كنوت لم يغادر غرفته. وبقي محبوسًا هناك، قلقًا. فأذن لوزيره أن يدخل عليه، فقال وهو يأسف على حاله.
- سيدي، لقد تخلى عنك الجميع، ولكنني مازلت هنا
رفع كنوت رأسه وهو ينظر إلى وزيره قائلاً
_ اشكرك صديقي
رد الوزير وقال
_سيدي أرى أن الجيش سيتولى المسؤولية بعد فترة قصيرة، لذا يجب عليك الفرار.

هز كنوت رأسه بيأس
_لا أستطيع المغادرة بدون ابنتي الصغيرة
فتنهد الوزير بحزن على حاله وقال
- سيدي، لا أعتقد أنها لا تزال على قيد الحياة
فنظر إليه الملك بغضب، لكن الوزير تراجع وقال:
_أتمنى أن تكون الأميرة بخير، لكنك تعلم أن أيولوس لن يترك أحداً من دمك على قيد الحياة.

الوضع قاب قوسين أو أدنى من بداية الانفجار وتعقيد الأمور، لكنه لا يزال متمسكًا بأمل مستحيل في عودة ابنته. فهو يعلم أن انتظاره ليس سوى انتظار قدره. ومع ذلك، لا يستطيع أن يرحل، ويترك وراءه كل ما لديه في الحياة، ابنته أورسولا، حتى لو كان انتظاره لها هو انتظار حتفه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي