الثاني والعشرون

كان جسدها يرتجف من البرد الذي لم تكن معتادة عليه. وكانت تستمتع دائمًا بالراحة في غرفة قصرها، وتستمتع بالمشروب الدافئ الذي تعده خادمتها. أحس برعشة جسدها، فقام بتغطيتها بقطعة مصنوعة من جلد. استيقظت من نومها من خشونة ذلك اللحاف وقالت منزعجة.
- لا يوجد شيء أكثر ليونة من هذا. إنه يخدش بشرتي

قال غير راضٍ عن دلال تلك الأميرة
- لا يوجد سوى هذا اللحاف الخشن. ونشعر بالدفء مع هذا اللحاف، لأن معظم حياتنا نقضيها في ساحات القتال.
نظرت إليه بازدراء ثم عادت تغمض عينيها بصمت. أجاب أكريسيوس
_ حاولي أن تعتادي على ذلك، فنحن لا نعلم إلى متى سنبقى هنا
استدارت وهي مستلقية، أعطته ظهرها، ثم قالت وهي على تلك الحالة
_لا أستطيع التعود على ذلك، عد بي إلى قصري
أجاب بسخرية
_ هل تقصدين القصر الذي سيكون ملكا للملك أيولوس بعد أيام قليلة؟
فالتفتت إليه وقالت
- هل قررتم مهاجمة المدينة؟
_هذا سيحدث عاجلاً أم آجلاً

جلست بوجه حزين تتذكر والدها المكلوم ثم قالت بحزن
_آمل أن لا يحدث شيء سيء لأبي
أجاب أكريسيوس
- لا أعتقد ذلك، فالملك لن يتركه وشأنه

نظرت إلى أكريسيوس وقالت بسخط
_لقد أصبح والدي الآن رجلاً عجوزًا، ويجب على ملكك أيضًا أن يهتم لذلك
_وعندما قُتل والد الملك لم يكن صغيراً أيضاً
فصمت لحظة ثم قال
_أنا لن أضمن لك حياة والدك، ولكني أضمن أنك ستبقين في مأمن من غضب الملك
نظرت له بذهول ثم قالت
_ لا أعلم هل يجب أن أشكرك أم ألعنك. أتمنى أن يهرب والدي وينقذ نفسه.

شعر بالحزن على غيابها حتى لم يعد يشعر بالحياة. لقد فقد كنوت ابنته الحبيبة، وكان ألم فقدانها لا يطاق. لقد كان يعتز بها دائمًا، وكانت مركز عالمه. لقد شاهدها تنمو من فتاة صغيرة إلى امرأة شابة جميلة، وكان فخورًا بها جدًا. ولكن بعد ذلك حدثت هذه المأساة وأختفت ابنته بسبب الغرور و الجشع الذي رباها عليه. كان الألم الذي شعر به مختلفًا عن أي شيء شعر به على الإطلاق.

حبس دموعه وحاربها طوال اليوم، لكنه الآن في غرفتها، يحيط بأشياءها من حوله، يشم رائحتها التي يشتاق إليها. لو كان يعلم أنه سيأتي يوم مثل هذا، لما تركها للحظة واحدة.

أطلق العنان لدموعه المحبوسة التي سقطت على خديه وكأنها جمر يحرق جلد وجهه. صرخ باكيا
_ طفلتي أورسولا، لقد تركت والدك يعاني. لماذا فعلت هذا بي وبك؟
فسمعته أحد الخادمات، فدخلت وهي تبكي أيضًا تسأله
_سيدي هل تحتاج لشيء؟
نظر لها بعينيه الدامعتين وقال بحزن
_أميرتك لم تعد هنا. أصبح القصر كله وحيدا بدونها
وازداد بكاء الخادمة وقالت
_سيدتي أورسولا كانت كالفراشة. لم نكن نعرف ما يجب القيام به. لقد صلينا جميعا من أجل سلامتها

احتضن ملابسها وصرخ بصوت عالٍ معلنا للجميع حداده القلبي على ابنته الوحيدة أورسولا


لقد تلاشت من قلبها كل الثقة التي كانت تحملها في قلبها عندما رأته الليلة الماضية يعتني بتلك المحظية وكأنها شخص عالق في جزء من قلبه. لم تصدق ما كانت تراه. غرق قلبها عندما رأته يقع في حب المحظية. كان الأمر كما لو أن المحظية كان لها مكانة خاصة في قلبه لم تتمكن أبدًا من تصديق ذلك، لقد وثقت به تمامًا من كل قلبها، لكنها الآن لا تستطيع إلا أن تشعر وكأنها حمقاء.

لقد كانت تعلم دائمًا أن لديه عددًا قليلاً من المحظيات، لكنها لم تعتقد أبدًا أن إحداهن يمكن أن تشغل هذا المكانة وتصبح يومًا ما مكانها في قلبه. اشتعل قلبها بالغيرة عليه، وأذابتها البرودة التي عاملها بها. لقد أخطأت عندما أظهرت قوتها عليه، لكنه كان يسامحها دائمًا على تلك الأخطاء لماذا أصبح هذا الخطأ كبيرا مثل السماء في قلبه؟ وهي كما كانت لم تتغير، ويبدو أنه بدأ يتغير ويشغل نفسه وقلبه بتلك الجارية.

وقفت في شرفتها تتأمل تلك القادمة في الأفق، تنشر أشعتها الذهبية على تلك السجادة الخضراء،وهي تغمرها ببهاء وجمال أبدي لا تمل منه العين، المنظر أنساها الهموم، لكن الهموم أبت أن تتركها.
رأته يمشي وهي ممسكة بذراعه، وظهرت المودة بينهما. لمحتها وهي تنظر إليهما، فزادت الأخرى جهدها في إظهار ذلك الحب أمامها.
- سيدي، أرى أن هذا الصباح هو يوم ميلادي
ابتسم وقال
_لأول مرة استيقظ في هذا الوقت، أن رأيت شروق الشمس رائعًا حقًا.

تعمدت رفع مستوى ضحكتها لتزيد غيرة الأخرى وتثبت أنها الآن في مكانة ليس بالسهل عليها انتازعها منها مع الملك.
تظاهرت بالسقوط حتى يتمكن من أخذها بين ذراعيه، رأت هيميرا وسمعت كل ذلك دون أن يشعر الملك بها .
اختارت أن تلتزم الصمت وهي تشاهد ذلك المشهد الرومانسي بين زوجها وخليلته.

فرجعت للخلف وهي تحمل في قلبها حزناً لا تستطيع الجبال حمله. بدأت خيوط اليأس تتسلل إلى داخلها، ولكن قلبها يرفض إدراك أن الملك لم يعد يحبها كما كان من قبل.
_كيف يمكن أن يصبح ما بيننا منسياً؟ أنا الذي أحببتها وأنا الذي طلبت الزواج منها. أنا الملكة هيميرا، سليلة الملوك. من هي أمامي؟
حزنت عليها خادمتها وقالت بحزن
_سيدتي لا تقلقي. سوف ينسى الملك تلك المحظية ويعود إليك
نظرت إلى خادمتها بيأس وقالت
_ لا أريد أن أنتظره حتى ينسى، طالما اختارها قلبه. ما علي فعله الان، هو أن أتمنى له السعادة

أرادت أن تتمرد وتصرخ وتقتل تلك الدخيلة أمامه، لكن كبريائها منعها من ذلك. إن الشعور بوجود شريكة في قلب حبيبها هو شعور قاتل، لكنها أقسمت الآن ألا تهين نفسها أبدًا وأن تظل شامخة ، ويستمر هو في فعل ما يريد. سوف تتظاهر بعدم الاهتمام دائما.


استيقظت على صوت ارتطام حاد مزق قلبها من مكانه، فخرجت تبحث عن مصدر ذلك الصوت المزعج. لم يكن أحد سوى آثي، التي كانت مشغولة بإعداد وجبة الإفطار لهم، لذلك تحدثت آنا.
- صباح الخير يا آثي
أجابت آثي بابتسامة مريحة
_ صباح الخير سيدتي
قالت آثي وهي تنحني لتلتقط الأدوات المتناثرة على الأرض
- أعتذر سيدتي. ذلك الرجل العجوز لا يضع الأشياء في أماكنها
فجاءها صوت سعاله الحاد وهو يقول:
_ومن طلب منك تحضير الفطور في منزلي؟
نظرت آثي إلى سيدتها وقالت
- هل رأيت هذا الرجل العجوز عديم الفائدة؟

أسرعت آنا نحوه وسألته بعناية
- ما بك يا سيدي الوزير؟ أرى أنك تسعل بشكل حاد
أجاب وهو يجلس على الكرسي
_لا أعلم، ربما يكون نزلة برد ، لا تقلقي عزيزتي
_اذهب الى الطبيب
قال معترضا على الفكرة
_جهزي لي مشروباً ساخناً. سوف أتعافى. أنها بسيطة جدا.
قالت آنا بغضب
_ حسنا، كما تريد
قال الرجل العجوز معتذرا
_ أعتذر يا بنتي، لكن الموضوع بسيط فعلاً

هذه المرة ردت آثي وقالت
_حسناً، سوف احضر لك الحساء الذي قد يساعدك على التعافي
قال الرجل العجوز
_شكرًا لك، آثي
_لا داعي للشكر فهو أقل واجب
فنظر الرجل العجوز إلى آنا التي كانت منزعجة منه وقال
_آثي مثل والدتها تتحدث كثيراً، لكن لديها قلب كبير
تنهدت آنا وابتسمت وهي تنظر إلى آثي
_في الواقع، هي الوحيدة التي سأفتقدها عندما أغادر
اعترض الرجل العجوز بشدة
-وماذا عنا، آنا وسيجورد؟
ضحكت آنا وقالت
_وانت ايضا

على الرغم من أن هذه هي أصعب أيام حياتها وتجربتها المريرة، إلا أن ذكرياتها مع هؤلاء الأشخاص لن تمحى من ذهنها أبدًا

سألها الرجل العجوز وهو يشرب كوبًا من الماء
_ ألا تريدي أن نكمل القصة؟
أجابت على عجل
_ نعم أريد ذلك بشدة
- حسنًا، أين توقفنا في المرة الأولى؟
أجابت آنا بحماس
_عندما أخبر الكاهن الملكة أنه لا يستطيع دفع اللعنة عنهم
-نعم هذا صحيح بعد ذلك..
عاد الوزير إلى تلك الأيام وبدأ يروي الأحداث بسلسة قائلا:
أصبح القصر في حالة حداد، ولم يتمكن الملك من الوقوف أمام الملكة، خجلاً مما فعله. ومرت الأيام سريعا حتى أنجبت الملكة فتاة جمالها يشبه القمر، وطفلا وحشا كان مظهره مرعبا حقا، لكن الملكة احتضنت ذلك الطفل ولم تخاف منه على الإطلاق.

واحتفل الملك بوصول أميرته المباركة ودعا الجميع للاحتفال بها. أعلن خطوبتها لأمير موكناي الصغير، رافضًا عرض ملك مملكة كريت. اعتقد الملك مينوس أن ملك موكناي وزوجته يتمتعان بقلب رحيم، بينما قدم ملك كريت هذا الطلب فقط من باب الطمع في مملكة أيس.

الملكة هيوميون لم تفرق  بين الأميرة والأمير الوحش حتى بلغ الخامسة من عمره. فقال له الكاهن أن يعزله حتى لا يكبر وتتجمع حوله الوحوش
فكر الملك في المكان الذي سيعزله فيه. اقترب الكاهن الشاب وأخبر الملك أنه سيبني قلعة بها متاهة يصعب على الأمير مغادرتها.
أسعد هذا الاقتراح الملك وبدأ كنوت في الإشراف على بناء قلعة المتاهة بالفعل

اشتد سعال السيد العجوز حتى أصبح من الصعب عليه التنفس، فوقفت آنا قائلة
- آثي، هيا، سنأخذه إلى الطبيب
رفع يده رافضاً، ثم قال بصعوبة
_آثي، أعدي هذا الحساء بسرعة، سأدخل الغرفة وأستريح
لم يتمكن الرجل العجوز من إكمال تلك القصة اللعينة، لكن الأمر أصبح أكثر وضوحًا بالنسبة لآنا


فتحت عينيها ببطء ولم تجده هناك. كانت الطاولة التي أمامها تحتوي على بعض الطعام. ربتت على بطنها التي لم تتوقف عن إطلاق شعارات مفادها أنها أصبحت فارغة تماما. وقفت وهي تسير نحو تلك الطاولة، لكن الطعام لم يكن بالمستوى الذي اعتادت عليه. ولكنها أجبرت نفسها على أكله. لم يكن الأمر سيئا، لكنها تتوق لطعام القصر

دخل فوجدها تأكل بشراهة كأنها لم تر طعاماً منذ عدة أشهر، فقال
- خذي وقتك أيتها الأميرة فالطعام لن يهرب منك
نظرت إليه بازدراء وواصلت تناول الطعام
جلس واستمتع بالنظر إليها وهي تتناول طعامها بسرعة حتى أكلت وبدأت تسعل. نهض بسرعة وأعطاها كوبًا من الماء وربت على ظهرها بحنان وقال.
- هل رأيت ماذا يحدث عندما تأكل بهذه الطريقة؟
عادت أنفاسها إليها وقالت بغضب
_لم آكل شيئا منذ الأمس.
- حسنًا، يمكنك أن تأكلي ما تريدين ، ولكن ليس بهذه الطريقة
أجابت منزعجة
_أريد أن أذهب من هنا
أجاب بهدوء
_قلت لك أن هذا غير ممكن على الإطلاق
_ماذا سأفعل هنا؟
أجاب باقتضاب وهو يصب بعض الشراب
_سوف تتزوجين
_هل تجبرني على الزواج منك؟
_أنا لا أفعل ذلك، أنا أحاول أن أعطيك حياة جديدة، إذا كنت لا تريدين الزواج بي، اخرج من هنا .....
قاطعته بحدة
_هل تستغل هذا؟
_أنا لا. لماذا تعتقدين أنني شخص سيء؟
أجابت منزعجة
_لأنك كذلك حقًا
- حسنا، ماذا تريدين مني أن أفعل؟ إن الملك يريد أن يقتلك، ولم أجد سبيلاً لإنقاذك غير هذا
تنهدت بعمق وهي تنظر إلى ملامحه القاسية
_ألا تفكر في سعادتك؟. الزواج من امرأة لا تريدها لن يكون مصدر سعادة لك
ضحك أكريسيوس وقال بسخرية
_لماذا أردت الزواج من الملك وأنت لا تعرفينه؟، ولا أظنك ترغبين به أيضا
ردت أورسولا بغضب
_هل تعلم أن الحديث معك لا فائدة منه؟
_أنا أرى ذلك أيضاً
سألته بغضب
_ ماذا تقصد
أجابها بإيجاز وهو يبتسم
_ لا شئ
_ماذا تقصد بلا شيء؟
انفجر أكريسيوس ضاحكًا عليها، وهو لا يدري لماذا بدأ يستمتع برؤيتها متحمسة. فهل هذه الحالة هي بداية تعلقه بالنساء الجميلات مثل حالة صديقه مينيلوس؟ أو أنها حالة جديدة لا يعلم ماهي.

جلست شاردة الذهن، وهي تحمل هم هذا الرجل العجوز الذي لا يهتم بصحته. كانت تخاف عليه، ليس لأنه هو الذي وعدها بمساعدتها، لكنها شعرت أنه مثل والدها الذي فقدته منذ الصغر. لم تكن تعرف سبب نمو هذا الشعور بداخلها تجاه هذا الرجل العجوز، تقدمت إليها آثي تسألها باهتمام.
_سيدتي ما الأمر؟
ردت آنا بحزن شديد
_السيد. بيلوتس ليس على ما يرام. أنا قلقة عليه
_ اطمئني، سيكون الأمر على ما يرام. حسائي لديه قوة سحرية لا يمكن الاستهانة بها
ضحكت آثي لكن آنا ظلت قلقة مثل ماهي
_ سيدتي، لا داعي للقلق. هذا الرجل العجوز قوي مثل ألف رجل. ماذا تعتقدين ؟
_أتمنى أن يتحسن قريبًا، ولا أريد أن أفقده أيضًا
نظرت إليها آثي بدهشة، وردت آنا بحزن
_لقد فقدت والدي عندما كنت في العاشرة من عمري، ومنذ ذلك الحين لم يفارقني شعور الفقد المؤلم
عانقتها آثي وقالت
_ آسفة لذلك يا سيدتي. كن مطمئنة، لن يحدث شيء لهذا الرجل العجوز
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي