الثالث والعشرون

لقد مر ذلك اليوم سريعا، لم يرها ولم تبحث عنه لإزعاجه مثل كل يوم .
ماذا حدث؟ هل هي بخير؟ سأل نفسه بينما كان يجلس يستمع إلى خليلته المقربة وهي وهي تعزف الموسيقى..
شعرت أنه ليس على طبيعته، لكنها واصلت العزف دون أن تشعره بانزعاجها من تشتت انتباهه وتجاهل عزفها.
وقف وخرج من الجناح دون أن ينظر  إليها وكأنها ليست موجودة ،بدأت تدرك أن ما يحدث له سببه تلك الملكة التي لا تفارق عقله وقلبه مهما فعلت.

ضربت تلك الآلة بقوة حتى أنها آذيت يديه وبدأ هذا الجرح ينزف.
تقدم نحو جناحها وسمع صوت ضحكاتهم العالي الذي لم يسمعه منذ فترة طويلة. اقتحم المكان ليرى ما سر تلك الضحكة والسعادة، فوجد خادماتها يجلسن حولها وهي مستلقية على الأريكة، يروين لها القصص والأخبار.
لاحظته إحدى الخادمات وقالت بخشوع
_ مولاي الملك

لم تتحرك هيميرا من مكانها ، فأمر الملك الجميع بالمغادرة. اقترب منها ثم جلس على الكرسي المقابل لها وقال بتساؤل
_ هل أنت بخير
أجابت بنبرة باردة
_ نعم لماذا؟
أجاب بابتسامة، في محاولة لكسر الجمود على وجهها
_لأنني لم أراك طوال اليوم.
نظرت إليه بنصف ابتسامة وقالت
_اعتقدت أن الملك سيكون أكثر راحة عندما لا يراني

تنهدت وهي تعدّل مقعدها على الأريكة وتضع قدميها على الأرض، ثم قالت
_سيدي الملك إيغيوس، لقد قررت حتى لا أزعجك، سألتزم بغرفتي معظم الوقت.

أسندت ظهرها إلى الأريكة واستمرت
_أعتقد أنني فعلت الشيء الصحيح والمريح بالنسبة لك

فسألها في دهشة
_ماذا حدث فجأة ليجعلك تقررين ذلك؟
إجابته وهي ترتشف شرابها
- سيدي، العلاقة التي توحدنا الآن هي علاقة الملك والملكة. علاقتنا لن تتجاوز هذه الحدود

وقف مذهولا وقال بالرفض التام
- لن أقبل قرارك هذا يا هيميرا. نحن زوج وزوجة، وقبل ذلك نحن عشاق. لا أعتقد أنك نسيت.

وقفت هيميرا واقتربت منه وقالت، وحرارة أنفاسها تلفح جلد وجهه
_لست أنا من تقبل مشاركة قلب حبيبها مع خليلته.

ابتعدت عنه وجلست مرة أخرى واستمرت
_لن أقبل وجودي مع كايا في قلب نفس الرجل. لقد اخترت خليلتك الخاص بك. فتمسك باختيارك أيها الملك.

صرخ عليها بسخط
_هيميرا
_أنا ملتزمة بحدودي معك في هذه العلاقة يا سيدي الملك.
زفر بغضب واستدار ليترك جناحها وهو على وشك الانفجار

عاد إلى جناحه وكان غاضبا منها. كيف لها أن تقرر الابتعاد عنه بهذه الطريقة؟ لن يقبل أن تصبح علاقتهما بهذا البرود، لكن ماذا عليه أن يفعل؟ يشعر بالعجز.
اقتربت منه كايا وهو على هذه الحالة، ووضعت يدها بلطف على كتفه وقالت:
- سيدي ماذا حدث لك؟
أزال يدها بغضب وجلس على حافة السرير وقال
_ قررت هيميرا أن تكون علاقتنا كملك وملكة رسمية فقط.
كيف يمكنها أن تقرر هذا بنفسها؟

شعرت كايا أن الملكة بدأت تلعب لعبة، هي تعلم جيدًا أنها ستفوز بها قريبًا، فقالت للملك بنبرة حزينة
_ربما وجودي هو ما يزعج الملكة. سوف أعود إلى جناح المحظيات غدا .

لم ينظر لها ولم يهتم بما قالته وكأنه لم يسمعها حقا ثم قال منزعجا
_كانت تخبرني بالأمس أنها لم تنس ما حدث بيننا، واليوم قررت إنهاء الأمر.

ضغطت كايا على جرحها فبدأ ينزف من جديد. صرخت من الألم لكنه لاحظها هذه المرة فقال بقلق
_ما هذا ماذا حدث لك؟
فتح الباب وأخبر أحد الحراس بحزم
_اذهب وأحضر الطبيب الملكي على الفور
وكانت هذه الطريقة مفيدة في بعض الأحيان. إن استعطافه  وجعله يهتم بها يشعرها ببعض الراحة، حتى لو كان لا يحبها.

ووقف أمام خيمة صديقه، لكنه لم يتمكن من الدخول، أمر أحد الحراس ليخبره بوجوده خارجا، ففعل الحارس ذلك، وخرج أكريسيوس سريعًا نحوه قائلاً:
- مولاي لماذا لم تدخل؟ لا تحتاج إلى إذن لدخول خيمتي
أجاب أيولوس منزعجا
- لا أستطيع الدخول ورؤية ابنة كنوت، أشعر بالنار بداخلي, قد أقتلها.
شعر أكريسيوس بالأسف على ما فعله، فكيف يمكنه إنقاذ ابنة من تسبب في إبادة عائلة صديقه، لكنه الآن شعر ببعض المشاعر تجاه تلك الجميلة المتغطرسة.
قال لصديقه محاولاً إن ينسه الأمر
_ لقد تبقى غدا فقط وستأتي إلينا زوجة أخي

نجح أكريسيوس في الواقع في رسم ابتسامة على وجهه لكي يجيبه  أيولوس بابتسامة
_الأيام الماضية مضت كالدهر، تلك الحمقاء لا تهتم بي
ربت صديقه على كتفه وقال بمرح
_كل النساء حمقى، هن لعنة الرجال
ضحك أيولوس وقال
_زوجتي ليست لعنة، بل تنعم بمباركة السماء
فنظر إلى الخيمة وقال بسخط
_ ليست مثل زوجتك، ابنة ذلك الشخص البغيض

أغمض أكريسيوس عينيه متجاهلاً كلام صديقه. لم تكن هناك حاجة لخلق مشكلة جديدة بينه وبين صديقه.
ففي النهاية، كان لأيولوس كل الحق في أن يكره أورسولا، وكان له هو أيضا كل الحق في أن ينزعج من كلامه عنها، لذلك بقي أكريسيوس صامتًا دون خلق أي مشهدا بينهما.


ارتاحت آنا عندما خرج السيد بيلوتس من غرفته بحالة جيدة فركضت نحوه وقالت مبتسمة
- إنه لمن دواعي الارتياح أن أراك في حالة جيدة، سيد بيلوتس
ابتسم أيضاً وقال
-أخبرتك أن الأمر ليس مخيفًا إلى هذا الحد
دخلت آثي بينهما قائلة بثقة
_إنه سر حساءي اللذيذ
ضحك السيد العجوز وقال
- نعم أشهد على ذلك. أخذته ونمت وشعرت بتحسن بالفعل
أجابت آنا
_ آثي سوف تحضر لك عشاءً سحريًا أيضًا
ضحك الرجل العجوز وقال
_سأعود إلى شبابي إذن

ضحك الجميع بشدة، ثم صمت السيد العجوز ونظر إلى آنا وقال بجدية
_غدًا سنغادر إلى معسكر أيولوس
تغيرت ملامح آنا وقالت آثي بتساؤل
_لماذا تريد العودة إلى هناك؟
أجاب الرجل العجوز
_وعدته آنا بأنها ستعود خلال ثلاثة أيام
قالت آثي وهي تلف ذراعها حول آنا بلطف
_لكن سيدتي لا تريد الزواج منه
نظر الرجل العجوز إلى ملامح آنا الشاحبة وقال
_ لا نستطيع أن نخلف وعداً يا ابنتي. أنت تعلمين أن أيس ليست قوية بما يكفي لتصطدم أمامه

أجاب آثي
_ ألا ترى كيف أصبحت ملامحها؟
وضع السيد العجوز يده بلطف على كتفها وقال
_ابنتي آنا، أعرف أنك مجبرة على هذا، لكني وعدتك بأنني سأنقذك قريباً.
هزت آنا رأسها باستسلام وقالت
_حسنا، آنا مستعدة للذهاب
اعترضت آثي
_سيدتي لن يجبرك أحد على أي شيء. انا معك
عانقت آثي ثم قالت
_أنت أفضل أخت أعطاني إياها القدر
بدأت الدموع تتجمع في عيني آثي، فقالت آنا وهي تضحك
_ أرجوك لا تبكي، سأتوقف عن الحديث معك حتى لا تبكين.
تعرف آنا أن آثي شخص عميق وله قلب يعيش بوتيرة العواطف. إنها تبكي وتضحك دائمًا في نفس الوقت، لكنها تعلم أنه لولا آثي لما استطاعت أن تتحمل الكثير في هذا العالم.


في عالمها الصامت، وحيدة بمشاعرها العميقة، تعيش كايا في حب من طرف واحد. ينبض قلبها بقوة وشوق إليه، وتتناغم خيوط الأمل واليأس بداخلها لتعطيها لحناً خيالياً يعبر عن الألم الذي لا يمكن أن يشعر به غيرها.

يمتلئ قلبها الحالم بجمال التوق والشغف، وتتدفق أحلامها في نظراتها، وأفكارها وحبها له الذي لا ينتهي. تبقى وحيدة على كوكبها الساكن، محاطة بالذكريات التي بنتها بجواره وأملها المتعثر في حبه المستحيل، وربما ستستمر في رسم لوحات الألم والابتسامات المريرة التي تعكس مشاعرها الجامحة ودوافعها المضطربة.

تمر أمامها مواقفهم ولحظاتهم، تلون أحاسيسها الشديدة، ويمتزج خيالها بأفكار وخيالات تعزف لحن الحب والشغف الذي تمنت أن تجده يوما ما.
تغوص في بحر الأفكار والصراعات بداخلها ، تبحث عن رحمة النسيان وسط عواصف انفعالاتها الهائجة.

ورغم الألم الذي تعانيه، إلا أنها لا تزال تتحدى هذه الحالة العاطفية المؤلمة بإصرار لا يتوقف، وتبني برجا من الأمل والصبر تحاول فيها احتواء شوقها. الألم على وجهها يرسم صورة حزن عميق، لكنها تستمر في التأمل والانتظار بعيون مليئة بالأمل.

وبينما تستمر في اعتناق حلم حبه يومًا ما، تستمر في بث شغفها وحنينها من خلال تلك الأمنيات المنبعثة من قلبها لترتفع عاليًا، وتستقر في الزمن كذكرى مختنقة بين حبها له وعشقه. للطرف الآخر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي