الرابع والعشرون

في لحظة الفجر تعزف شمس الصباح أولى أنغامها على نسيم النهار الندي، وتتدفق الألوان بالأفق بألوان جديدة تعلن بداية يوم جديد. يتسلل الضوء الذهبي بين شقوق السماء كفتاة ترتدي ثوباً ذهبياً لامعاً يبهج الناظرين، وتتناغم خطواتها اللطيفة مع النسيم العليل.

و تتراقص أشعة الضوء بشغف مع الظلال المتغيرة، وتتناغم حروف الضوء والظل لترسم لوحة فنية مبهرة في كل زاوية. تبتسم الزهور تحت ضوء الشمس الذهبي، وتتلألأ قطرات الندى مثل الماس المتلألئ، وتعزف سيمفونية الجمال والحب.

ينبلج الفجر ببهائه الساحر على المدينة الساكنة، وتستيقظ الحياة لترقص على أنغام الشمس المشرقة، ويعزف زقزقة العصافير أعذب الألحان ترحيباً بنسيم الصباح.
ويبدأ كل شيء بالتألق والتحرك نحو يوم جديد يحتضن الأمل ويحمل رسائل الفرح والتفاؤل والطمأنينة.

في هذا الوقت السحري، يستيقظ الناس وقلوبهم مليئة بالحيوية، وتتنفس الأرض نسيمًا لطيفًا وتشرق بألوان الطبيعة الساحرة. يتحد المكان والزمان في رقصة هادئة وعاطفية تعلن عن بداية مغامرة جديدة مليئة بالعطاء والحب والتجديد.

كان سكان إيس يستعدون بقلوبهم المطمئنة لهذا الصباح الجميل. امتلأت الأزقة بأصوات الضحك والأحاديث اللطيفة بينهم، وبدأ الباعة يستعدون لاستقبال زبائنهم، بينما بدأ الأطفال يركضون ويلعبون بين الأزقة وكأنهم طيور تغرد على أنغام الحياة، وارتفعت ضحكات الأطفال، وصراخ الأمهات المنزعجات من هذه الشقاوة العذبة. لكنهم لا يتوقفون أبدا عن الضحك بشكل عفوي. وهنا يعم السلام والأمن، رغم رغبة الامهات في انهاء هذه الحالة المباركة.

وقفت آنا أمام النافذة، تستنشق هواء أيس النقي وتملأ رئتيها بهذا النسيم الساحر. ربما سيغرس فيها بعض روح الأمل والمقاومة لبدء رحلتها الجديدة. نظرت إليها آثي لترى تلك الابتسامة التي تشع من فمها وكأنها شمس هذا اليوم. وابتسمت أيضا بشكل عفوي.


_أرى أن هذا الصباح مختلف مع تلك الابتسامة على وجهك سيدتي
التفتت آنا إليها بتلك الابتسامة وقالت بارتياح لم تره  آثي من قبل
_ صباح الخير يا آثي
وقفت آثي وسارت نحو النافذة التي كانت آنا واقفة أمامها، لتتمكن هي الأخرى من استنشاق ذلك النسيم العليل، ثم ردت قائلة:
_صباح الخير سيدتي
آثي كالعادة لم تستطع حبس دموع الفرحة التي غمرتها حينها. كانت مشاعرها مختلطة بين الفرح لرؤية آنا بهذا الرضا والخوف عليها مما سيأتي.
عانقتها آنا بمحبة لتغرس بعض السلام بداخلها
_سيكون الأمر على ما يرام، لا تقلقي يا آثي
دفعتها آثي بلطف بعيدًا لتنظر إلى عينيها المكسورتين، رغم خطوط الأمل المرسومة على وجهها، وقالت بكل حب
_سيدتي سأكون بجانبك في كل الظروف، حتى لو كان مصيرنا الموت
ابتسمت آنا وهي تنظر إليها وكأنها شعاع الأمل المكتوب في مصيرها البائس. لم يكن هناك أحد من حولها مثل كاثي في ​​عالمها الحقيقي. كانت تأمل أن تجد من يحتضنها في وقت حزنها، والآن ترسل لها السماء أخيرًا تلك الأمنية، حتى لو كانت في عالم آخر.

في قلب الظلام الذي يحيط به، وهو يواجه فقدان حب حياته، ترتفع نغمة الحزن، وتتمايل أوراق اليأس في روحه البائسة. تبعث روح المقاومة والعناد بتلك الأنياب الحادة. ما زال متمسكًا بالأمل الخافت في عينيه، غير مستعد للانكسار أو الاستسلام. تغلب عليه مشاعر متضاربة بين الغضب العارم والحزن العميق. يعيش هذا الفراغ الذي يجعله يفكر في كل التفاصيل وفي كل لحظة مثمرة قضاها مع حبيبته هيميرا، تحت سقف العناد الذي لم يسمح لهما أبدًا بالاتفاق والتصالح. تشتعل في داخله شرارة الندم وسؤال مرير: هل كان من الممكن أن يكون الأمر مختلفاً؟ هل استطاع أن يكسب قلبها أم أنه استخرج السعادة من أعماق عناده؟ وأمام هذا الملك الذي يقاوم فقدان حبه بسبب عناده ويأسه، تظهر مشاهد ذكريات مشتعلة بالحب، وتختلط جوانبها المؤلمة بذلك الشعور الرائع مع كل ذكرى.
يعبر عن مشاعره المختلطة بنظراته إليها، حتى مع ذلك البرود والقسوة في تعامله معها. كل لحظة بينهما ترسل إشارة حب إلى حبيبته، فكيف لا تشعر بكل تلك المشاعر؟ وهو الآن يبحر في متاهة الندم على وصول الأمور بينهما إلى هذا الحد، وفي خضم التحديات التي يطرحها أمام اهتماماته بحبه. وعلى الرغم من آلامه المتزايدة، إلا أن هناك ضوءًا متوهجًا من الأمل يكمن بداخله. يرفض الاستسلام لظلمة اليأس، ويقرر القتال من أجل شريكة حياته بكل ما تبقى له من قوة. قد تمحو أشباح العناد المنتشرة في عمق الحب، وهو يعارض التراجع بامتياز، لكنه يقاتل من أجل عشقه، أنها معركة تشبه معركة البقاء على مسافة شبر من قوس قزح.

ظل متكئا على ذراعه وهو يجلس عرشه حاملا اليأس في قلبه. فدخل وزيره وسأله باهتمام
_يا سيدي هل هناك ما يقلقك؟
لم يرفع الملك إيغيوس رأسه وظل على تلك الحالة

شعور الانتظار واليأس والحزن العميق والاستسلام التام الذي يشعر به إيغيوس وهو ينتظر الأمل في عودة تلك الأيام الجميلة بينهما. وفي المصير الحالي لحبهما، لا يشعر بأي أمل في أي نتيجة يأمل فيها. وهو شعور يزيد من القلق والإحباط والعجز في قلبه، مما يسبب التكهنات والمخاوف حول هذا الحب الذي كان يومًا ما قدوة لكل العشاق.

كرر الوزير سؤاله بقلق على الملك
- مولاي ما بك؟
رفع رأسه وتنهد في يأس، ثم وقف ومشى على بجانب وزيره دون أن ينطق بكلمة واحدة.
سارع نحوها متوسلاً إياها بكلمة تبث في داخله شيئاً من الطمأنينة والراحة.

إنها امرأة برعت في قرارها بالتخلي عن حبها بكرامة. إنها ملكة القوة والصبر. تتوهج ملامحها بالجرأة والكبرياء ، ببريق متمرد يشع من عينيها يعكس قوتها الداخلية. عيناها تحملان العمق والحكمة، فتتأمل الحياة بحرية وتبحث عن معنى السعادة الحقيقية داخل نفسها.

ورغم المشاعر القوية التي تجتاح قلبها، إلا أنها على يقين أن اختيارها لنفسها هو الاختيار الأعظم في حياتها. وحتى في صمتها وهدوئها، أبدعت في جعل من حولها يؤمنون بتلك القوة التي تحملها في صدرها.


فتح باب غرفتها بكلتا يديه ودخلها ليجدها واقفة بفخر أمام شرفتها، تنظر إليه ببرود، ثم تعيد نظرها إلى حديقتها معلنة أنها لا ترحب به في غرفتها. لكنه تقدم نحوها وأمسك بذراعها وأدارها إليه. نظر إلى عينيها للحظات، ثم أطلق العنان لشفتيه المتشوقة لتقبيلها. لقد استسلمت لذلك. الشعور اللذيذ الذي اشتاقت إليه هي الأخرى، لكن ماذا لو تركها بعيدًا عنه في عالمها البارد المظلم، لينير حياة تلك الجارية ويدفئ روحها وهي ترتعد من برد الشوق؟
انزلقت من حضنه ووقفت تنظر إليه بكل قوة قائلة:
- سيدي، علينا أن نلتزم بالعهد
صرخ عليها بعصبية
- هيميرا، أنا لم أعدك بشيء.
اقترب منها وحاول احتضانها، لكنها رفضت بقوة، مما زاد من توتره
_ هيميرا لماذا تفعلين بي هذا؟ أحبك هيميرا من فضلك
تنهدت وهي تضع ذراعيها من حولها وقالت
- أيها الملك أيغيوس، عليك أن تقرر ما تريد أولاً.
فأجابها على عجل
_ أريدك
ابتسمت بخبث وقالت
_ماذا عن كايا؟
حاول أن يعانقها، لكنها تركته هذه المرة
_إنها محظية، وأنت الملكة، كيف يمكنك أن تقارني نفسك بها؟
أراد أن يخطف قبلة أخرى لكنها أوقفته قائلة
_ هي امرأة ولا أقبل أن يقترب منك غيري
وواصل محاولته بكل لهفة لسرقة تلك القبلة، لكنها رفضت بعناد، ثم تابعت قائلة
_ تعود كايا إلى جناح المحظيات
توقف عن النظر لها وقال بتعجب
_سوف تصبح أما لوريث العرش
زمت شفتيها بإنزعاج ثم تظاهرت باللطف وقالت
_حسناً، خصص لها جناحاً خاصاً وسأعود إلى جناحك
وافق دون أي تردد أو تفكير في كايا، التي وعدها بأن تظل قريبة منه دائمًا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي