4

شعر برعشة بكل جسده من مجرد الفكرة، اغمض عيناه بغضب في محاولة منه للسيطرة على نفسه التي أصبح لا يعرفها، ثم وقف لينظر  ناحية الجدار الذي كان وراءها، ثم وضع يده في شعره وتنفس بعمق وهو يحاول الهدوء بينما شعر بجسده يرتجف من الغضب.

فجأة ارتفعت في المكان صوت ضحكات مريضة ومجنونة كان صاحبها ذلك الرجل الأشقر الذي يجلس على المكتب، ينظر إلى المسرحية التي تجري أمامه بشغف كبير.

هو لا يصدق مايراه، هذه المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا مع ادهم، لقد عاشره لسنوات طويلة ولقد بنى كلاهما هذه الإمبراطورية الضخمة حجراً بحجر... 


ولكنه واللعنة وطوال كل حياتهما معاً لم يرى ادهم ولو للحظة واحدة وهو بمثل هذا الضعف امام أي امرأة.

ابتسم ابتسامة ساخرة وهو يقول بصوت ماكر كثعلب:

" تؤ تؤ إن هذا قاس قليلاً على قلبي الصغير ، أنا أكاد لا أصدق نفسي... ادهم !!"



ضحك بقوة اكثر ليكمل بتهكم:

" ادهم ملك العالم السفلي والذي يستطيع أن يغير قارة بأكملها بإشارة من إصبعه الصغير لا يستطيع أن يثق بنفسه أمام امراة! إن هذا مثير للشفقة يا رجل".

أدارت رأسها بهدوء نحوه لتنظر له لعدة ثواني باستغراب قبل أن تفهم مغزى كلامه، لتفتح عينيها على مصرعيهما تشعر بالرعب والخوف وهي تستوعب  الكلام الذي ينطقه ذلك الرجل المجنون هناك.

 
لقد كادت للحظة أن تنسى وجوده حقاً، كان ذلك الرجل خطير ولكنه أصبح واضحاً لها الآن أنه لن يكون بخطورة ذلك الوحش الذي يقف امامها.


لقد كانت خطورته تختفي وراء تلك الابتسامة التي يرسمها على وجهه وتلك اللامبالاة بينما ظل يحدق بها بهدوء قاتل كما لو أنه كان يحاول معرفة ما تفكر به.

"للمرة الأولى والأخيرة سوف أسألك يا طفلة  إلى أين ذهب والدك العاهر ؟"

قالها ادهم وهو ينظر إليها مرة أخرى بطريقة جحيمية، لقد كانت نبرته هادئة بشكل مميت.

اعادت تركيزها نحوه ونظرت مباشرةً في عينيه الكحلية لترتجف ضلوعها في مكانها وهي تقول بصدق أول شيء خطر في ذهنها:

"لقد ذهب إلى السوق من أجل شراء البقالة يا سيدي"

ثواني فقط، أُوكد لكم، ثواني قليلة مرت على من كان يجلس هناك وكأن الطيور كانت على رؤوسهم، قبل أن ينفجر ذلك الرجل الذي كان يجلس في المكتب بالضحك بطريقة هستيرية ومجنونة.

  كاد حرفياً أن  ينفجر من قوة الضحك؛ هذه الفتاة حقاً شيئاً آخر لا يمكن التنبؤ به أبداً.

ظل ذلك الرجل يضحك بجنون بينما ظل ادهم ينظر إليها بهدوء.

لقد كان  ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة، ظلت تنظر إليهما وهي ترتجف في مكانها من شدة الخوف، وحقيقة الأمر أنها لم تكن تسخر منه  ولكنه أول شيء خطر في ذهنها.

فأين سوف يكون والدها في هذا الوقت؟ في الحمام مثلاً..؟!

ابتسمت ابتسامة متوترة وهي تنظر إلى وجه ذلك الوحش المرعب الذي ظل يحدق بها بملامح قاتلة.


والذي مشى ناحيتها بكل هدوء وبدون سابق إنذار مد يده الموشومة وصفعها  لتسقط على الارض بقوة.

للحظة شعرت بأن جمجمتها قد فصلت عن جسدها، بدأت شفتيها تنزف بقوة، اللعين لقد آلمها حقاً ولكنها كانت تمتلك كبرياء لو وّزِعَ على  أهل الأرض جميعاً لكفاهم ووفاهم.


رفعت شعرها عن وجهها وحدقت به مباشرة بكل كبرياء، لقد شعر بشعور مختلف وهو ينظر إلى عينيها، لم يكن يريدها أن تنظر إليه بتلك الطريقة، الغضب والحقد والكراهية التي كانت تشع من نظراتها جعلته يفقد صوابه، لقد جعلته يفقد آخر ذرة لصبره، وكانت عيناه تسودان من شدة الغضب.

اقترب منها بخطوات مسرعة وهو يوكل إليها الصفعهةتلو الأُخرى بلا رحمة.

عندما همد جسدها على الأرض  مد يده واغرقها وسط شلال شعرها الأسود بقوة موقفاً إياها لكي لا تتمكن من السقوط مجدداً.

واستمر بضربها مرة بعد الأُخرى،  لم يكن يضربها بسبب والدها اللعين، لقد كان يضربها لآنها أول امرأة تجرأت على أن تنظر في عينيه.

إنها المرأه الأولى في هذا العالم التي تجرأت على أن تقف في وجهه وتتحداه.

هذه المرة الأولى في حياته البائسة التي جعلته فيه امرأة يشعر بهذه المشاعر اللعينة.

سالت الدماء الحمراء الساخنة من أنفها وفمها المكتنز ليتركها تترنح في مكانها.


رفعت رأسها لتنظر إليه بغضب قَبل أن تمنحه ابتسامة جانبية ساخرة، لم يستطع أن يفهم هذه الفتاة أبداً فهي كاللغز بالنسبة له، هل هي تحب استفزازه  لأنه في كل مرة ينظر إليها يزداد غضبه اكثر واكثر؟!


رمشت بأهدابها السوداء الطويلة لعدة مرات بدهشة ولوهلة شعرت بصدمة كبيرة وهي تضع يدها على خدها تتحسسه ببطئ، لقد التهبت حرارته جراء الصفعات التي تلقتها لتوها.


لا تكاد تصدق ما حدث، لم يتجرأ أحد على ضربها طوال حياتها حتى والدها لم يرفع عليها صوته من قبل، ويأتي هذا المريض المعتوه ليرفع يده ويصفعها؟

رفعت رأسها لتنظر إليه بكل عنفوان وتقول بسخرية لاذعة:

"حقاً أهذا كل ما لديك؟ لقد كنت أعتقد في البداية أنك رجل ولكن تأكد لي الآن أنك لست سوى مخنث رخيص لا يعرف شيئاً عن الرجولة .. أتحب ضرب النساء أيها الضعيف؟ أحقا تحب أن تراني أنزف؟ هل تريد أن تراني خاضعة لك؟ حسناً، نجوم الليل أقرب لك من هذا يا حيوان".

فجأة اختفت الابتسامة التي كانت تشق وجه ذلك الرجل الذي كان ينظر إليهما باستمتاع قبل قليل، نهض من كرسيه وهو ينظر نحو صديقه بقلق؛ لم يكن يظهر من ملامح وجهه سوى الغضب.

لقد تأكد بأن تلك القزمة فتحت على نفسها أبواب الجحيم، تأكد من ذلك من خلال تغيّر ملامح أدهم الذي كان ينظر إلى الفتاة التي أمامه بعيون مظلمة.

ومن خلال ذلك الظلام الذي غطى عينيه تماماً استطاع أن يعرف أنها قد تجاوزت حدودها وأنها قد حفرت قبرها بنفسها.

في هذه اللحظة وقف الأشقر في مكانه ليضرب سطح المكتب بقبضة يده وهو يصرخ فيها بطريقة جعلتها تقفز في مكانها برعب.

لقد نَست وجوده تماماً في خضام هذه الفوضى، لم تكن منتبهة إلا للوحش الذي يقف أمامها.

"فلتنتبهي لفمك أيتها العاهرة الصغيرة وإلا فأنا أقسم لك أنني سوف أقتلع لسانك اللعين ذاك من مكانه وأطعمه لكلابي هل هذا مفهوم؟"

قالها بغضب وهو يقترب منها وينظر إليها بتحذير شديد.

رغم تهديده الواضح والصريح لم تهتز فيها شعرة، لم تكن خائفة على الإطلاق بل كانت متفاجأةً من نفسها الشرسة والجريئة؛ فهي لا تعرف من أين أتتها كل هذه الشجاعة لتقف أمامهم وتواجههم بلا خوف.

في تلك اللحظة ابتسمت بجانبية و وقفت على قدميها لترفع رأسها بعنفوان وهي تنظر إليهم بعيون قاتلة قبل أن تضم يديها إلى صدرها وتطالعهم بسخرية شديدة وتقول بتهكم:

"من أنتم ولما أنا هنا؟ وماذا تظنون أنفسكم فاعلين؟ تختطفونني وتحضرونني إلى هنا! ثم التعدي علي بالضرب هكذا، هل تعتقدون أنكم سوف تنجون؟ لا لن أسامحكم وعند أول فرصة تأتي سوف أشكيكم للشرطة وأزج بكم جميعاً في السجن"


لبضع ثواني ظل كل منهما ينظر إليها بصدمة ولم يكن أحد يصدق ما الذي تتفوه به هذه المجنونة، لقد تحولت من موقف الضعيف إلى موقف المهاجم الشرس.

كانت تقف وهي تتنفس باضطراب، لم تنتبه لأي شيء من حولها إلا لتلك العيون السوداء اللتان كانتا تلتهبان بغضب مميت لسبب لا تعرفه.

يُتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي