الفصل السابع

زفرت بضيق لتكمل ما بدأت فيه:
-  معذرة؛ نسيت أن أعرفكم بنفسي، أنا سيرين، لم أتعدَ التاسعة عشر بعد، حين حدث ما حدث لم أكن أكملت الرابعة عشر من عمري.
طأطأت رأسها وكأنها هي من أجرمت في حق ذاتها، ثم تابعت وهي تومئ مرارًا مؤكدة ما تفوهت به:
-  نعم كما فهمتم، كنت طفلة بريئة، ولكن الزمن يقتل براءتنا ويحولنا إلى مسوخ دميمة بلا روح، يشوه قلوبنا، لا أعلم ما حكمة القدير في تشويه فتاة مثلي لم تتعد سن البلوغ! يقولون إن لكل شيء حكمة، ولكل فعل سبب، فما الداعي من قتل أحلام البشر؟ هل نحن مجرد لعبة؟! حقيقة لا أدري، ولكن ما بت أعرفه أننا فقط من سنتحمل العواقب لنصبح مرضى نفسيين، نتقاتل فيما بيننا، ثم يعم الهدوء استعدادًا لحفل شواء قد أُعدَّ لنا قبل أن نولد.
ابتلعت ريقًا ممزوجًا بغصة سرت بطول فكها، وهي تُفصح:
-  لقد عرفت مؤخرًا كون الحياة أشبه بقطعة مرآة مكسورة، تعكس لنا نصف الحقيقة فقط، وما إن نلمسها بأيدينا لنرى النصف الآخر منها حتى تجرحنا وتنهل من دمائنا، تقتل أدميتنا وتقهرنا، نرى دماءنا في انعكاسها، نرى أنفسنا وقد هزلنا وضعفت قوتنا.. الأمر أشبه بشمس أبت إلا أن تخالف الطبيعة.
رفعت كتفيها في حركة سريعة كتعبير عن جهل بشيء ما:
-  أو ربما كمسافر صعد حالمًا للقمر، فانشق القمر قاتلًا فرحته، ليصبح مُظلمًا بين الشقين كجبل أُحد. أتذكر حين كنت صغيرة قالت لي أمي أنه إذا جاءك غريب ليعطيكِ الحلوى فلا تأخذينها منه؛ لأنه سيحزنك يا صغيرتي، ستكون تلك آخر قطعة حلوى لكِ.
ابتسمتْ بتهكم ابتسامة ذات صوت، ثم زمت شفتيها في سخرية موضحة:
-  ولكنها نسيت أن تتعلم ذلك الدرس الذي علمتني إياه؛ فقد كنت أعيش معها وأبي حياة الرغد في جنة الفردوس نُزلًا، حتى أذلنا الشيطان عنها فأخرجنا مما كنا فيه، أحدهم قتل أبي غدرًا، لنلاقي أنا وأمي لعنة الفراق. الفراق لعنه كلعنة الجمال التي التصقت بي منذ نعومة أظافري.
شردت قليلا وهي تتحسس جسدها من جديد، ذكريات متضاربة تغزوها، شعرت بأن خيوط عقلها تتطاير وتسافر بها لأبعد نقطة في الأرض، رأت نفسها وكأنها امرأة أخرى تجلس في الصحراء وحدها وأمامها شعلة من النار تغذيها، ولسانها يردد "بكم ولكم سأكون أقوى فتاة على الأرض، بحق الأولين والآخرين سأصبح أول فتاة على وجه الأرض تتحد مع عزازيل العظيم."
الرؤية تصبح ضبابية وتتلاشى رويدًا رويدًا، فتحت عينيها ثانية محاولة التنفس وكأن الهواء قد سُحب من حولها، لتجد نفسها ما زالت في الحديقة، والحكيم يمسك برأسها، سألته في تيه منها:
-  ماذا حدث؟ لقد شعرت بأني سافرت لمكان آخر. هل جُننت؟ لقد رأيت فتاة تشبهني تجلس وتنادي الشيطان، أنا لا أفهم شيئًا.
كانت نظراته خاوية من أي تعبير، لم يكن يبدو عليه أنه سيحاول حتى توضيح الأمر، لذا تابعت هي بعد تنهيدة قوية خرجت عن صدرها المشحون بالمتاعب:
-  تجاهلت أمي السنوات الخمسة عشر التي قضتها مع أبي، فسرعان ما دق قلبها، وأشعل الحنين نار الشهوة، وثارت ضد الوحدة والوحشة.. كل هذا بعد أربعة أشهر فقط من فراقها لأبي، ربما خافت من لعنة الوحدة؛ فما الحياة إلا لعنة، والأسوء هو حب الذات وتفضيل الغريزة.. فالغزيرة قد توصلنا إلى طريق الهلاك.
صمتت لثواني وكأنها تحاول ترتيب الأحداث قبل التفوه بها حتى لا يسقط عنها أي حدث، تابعت بتعب بدا جليًا في نبرتها:
-  تزوجت من راجح -الشاب العشريني- قوي البنية الذي ينطبق عليه جملة واحدة "ظل رجل ولا ظل حائط"؛ فلقد تزوجها ليتمتع بما ورثت من زوجها الراحل، تعرف عليها بإحدى مواقع التواصل الاجتماعي، أغدقها بكلماته المعسولة وعشقه المزيف؛ فاستسلمت له.
افترت شفتيها عن ابتسامة، من يراها يظنها حالمة من الوهلة الأولى، لكنها في الواقع ساخطة، تحدثت من بين ابتسامتها وتنهيدات صوتها:
-  أحبك، أعشق كلماتك، صوتك يسحرني، أنينك يقتلني شوقًا إليكِ.
زفرة هواء قوية تلاها إفصاحها عما تبقى من حديثها:
-  ‏كانت تلك كلماته التي تصيدها بها، فأصبحت كقطعة العجين بين يديه، تحدت الجميع وتزوجته رغم أنها تكبره بأكثر من خمسة عشر عامًا، كانت من داخلها تعلم أنه طامع، ولكن الاشتياق ألهب صدرها وغيب عقلها.. هكذا تزوجها ليشبعها جنسيًا، ولتنفق عليه مما تملك.
ابتسامة جانبية جديدة، مع تقوس حاجبيها للأسفل وهي تتابع:
-  ‏معادلة بسيطة؛ الشباب أمام المال.. تلك تجارة رابحة للطرفين.
تلعثمت وهي تكمل كلماتها؛ فهناك ذكريات أخرى تغزوها في هذه اللحظة، لا تعرف من أين تأتيها! وضعت يديها على رأسها، سمعت صوت صفارات عالية بداخل رأسها تمنعها من تذكر أي شيء، كلما حاولت تكملة حديثها والتسلل داخل دهاليز عقلها لتقص باقي حكايتها تجد أن عقلها يسافر في اتجاه آخر، عقلها يتطاير لترى أُناسًا آخرين، تشعر بأن شيئًا ما أصاب عقلها، تلك الحديقة التي وجدت نفسها بها ولا تعرف السبب في وجودها بداخلها، الظلال التي ظهرت من العدم واختفت مع ظهور الحكيم والذي أيضًا لا تعرف عن كنهه شيئًا! وضعت يديها على وجهها وصرخت بصوت مريع:
-  اتركوني وشأني، لا أريد شيئًا، لا أريد أحدًا بجانبي، ألن تكفوا عن تحطيمي؟!
أمسكها الحكيم من منكبيها، ورفع رأسها قبالته بسبابته وهو يبتسم ويقول:
-  لستِ مشتتة كما تظنين، الأمر أشبه بالبحر حين يعكس لون السماء، وأيضًا لون الشُّعَب المرجانية؛ فالذي يراه من بعيد يختلط عليه الأمر، هل البحر أزرق يشوبه الخَضَارُ أم العكس؟ ولكن الحقيقة أن البحر بلا لون، شفاف.. كسجد فتاة في التاسعة عشر، وقد حان الوقت لتسكن روحها الحقيقية بداخلها.
زمت شفتيها في عدم فهم لكلماته، ابتسمت ابتسامة صفراء، ثم أردفت قائلة:
-  الأمر أكبر بكثير من تلك الفلسفة الساذجة، ما أراه بداخل عقلي يتعدى ما تقوله، أشعر بأن السماء تمطر فوق رأسي الجنون، أحاول أن أصنع لنفسي سفينة تنجيني كتلك التي صنعها نوح، لا أعرف هل سأستطيع أن أنجو وعقلي أم سيأتي الخِضر ليخرقها!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي