الفصل السادس

وحدي لا شريك لي في عينيك..
كلما حاولت أن أبدو طبيعية أمامهما عدت إلى البيت ثملة أتلو القرآن بترانيم مسيحية، يمر نور العشق بمقلتيك؛ فتصيب سهام العمى عينيّ
أملا أفتش بعدك عن جبر الفؤاد فأعود خائبة الوفاض أنادي
من ذا يعيرني عينين لأعشقه.. أرأيتم عيونا للعشق تعار؟!.
نسرين بلهادي



فتح عينيه وهو لا يعرف كم أضاع من الوقت في تلك الغفوة، ولكنه تدارك بأنه رجع طيفًا كما كان، نظر حوله ليجد نفسه في حديقة مظلمة، ظلال تتحرك يمنة ويسرى وكأنهم أشباح، وفتاة تشبه أمه عنق، ولكن تختلف كثيرًا عنها في هيأتها، كانت تجلس على أريكة متهالكة وتحيطها الشجيرات من كل جانب، رغم الهواء العليل الذي ينعش رئتيها إلا أنها شعرت وكأنها حبيسة داخل قفص حديدي، تنظر للفراغ أمامها، وعيناها تكاد تنخلع عن مقلتيهما وكأنها مكبلة على مقعد خشبي متهالك، يُهيأ لها بأن هناك أُناس ينظرون لها، تنظر لهم بوجه متجهم ثم تقول:
-  تنظرون إليّ بفضولكم الدائم، تريدون معرفة ما أوصلني إلى ما أصبحت عليه.
سرت ارتعاشة خفيفة في أوصالها، لكنها أكملت:‏
-  ‏لا عليكم.. سأفيدكم وأقص عليكم خبري، فالفضول قاتل، ونحن جميعا ننجذب لكشفه كالفراشات حين تنجذب لقرص الشمس.
‏كلمات ترددت على مسامعها:
''إذا جاءكِ غريب ليعطيكِ الحلوى فلا تأخذينها منه؛ لأنه سيُحزنك يا صغيرتي، ستكون تلك آخر قطعة حلوى لكِ."
‏وضعت يديها على أذنيها لكي لا يتسرب الصوت إليها، ولكن بلا جدوى فالصوت يأتيها من داخلها، انقبض قلبها، وما زال جسدها يرتعش، ‏بدأت الظلال تقترب منها وهي تنظر إليهم فقط، تجسدت الظلال أمامها ولكنها لم تتبين من هُم، سراج منير يضوي من بعيد لينير عتمتهم، نظرت له بدهشة حتى انقشع الظلام، وتجسد أمامها فكأنه قمرًا منيرًا، ملابسه بيضاء لا يشوبها شائبة، ولحيته نامية ناصعة مثلها كمثل قطعة الثلج، ابتسم لها وهو ممسك بعصا بيضاء يشع منها النور، ظنت لوهلة كونه مَلَك مُنَزّل من السماء، هُيئ لها وكأنه ملَك الوحي متسائلة أهذا بشر! لتعيد تفكيرها بكلام متناقض أن حاشا لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم، حاولت التفكير وهي تنظر له، ولكنها كانت مشدوهة، تتساءل من داخلها عنه، مشاعر مختلطة تغزوها، شعرت بتشويش في فصي عقلها، ذكريات تتداخل مع بعضها البعض، لتغمض عينيها ثانية. ظل صاحب النور ينظر لها وكأنه يقرأ ما يجول بخاطرها، حاول أن يبث الدفء والطمأنينة بداخلها، فتكلم بصوت حكيم قائلًا:
-  هل تشعرين بالريبة من ظهوري المفاجئ؟ لا تخافي يا صغيرتي؛ فهذا ليس أول لقاء يجمعنا، لطالما تقابلنا، حتى أنكِ كنتِ تلقبينني بالحكيم.
نظرت له بابتسامة بلهاء متعجبة مما يخبرها به، تتساءل هل أُصيبت بالجنون! فكيف يخبرها بأنهما قد تقابلا من قبل وهي لتوها رأته؟! لم تختفِ ابتسامة الحكيم، ولكنه تدارك الموقف وعرف أن الجنون حليفها إذا ما أكمل كلماته، اقترب منها أكثر، وربت على كتفيها ثم أكمل قائلًا:
-  أعرف ما يجول بخاطرك يا صغيرتي؛ فأنتِ لا تعرفينني، ولكني أعرف عنك الكثير والكثير، ورغم ذلك أريدك أن تقُصي علينا ما يؤرقك، وأعدك ألا يقاطعك أحد حتى تنتهي من قص الحكاية من البداية للنهاية.
نظرت له بقلق، صراع داخلي وأفكار مشوشة تغزوها، لكنها حسمت أمرها في النهاية، وبدأت في سرد حكايتها قائلة بصوت رخيم:
-  هل جربتم مرة أن يُسلب منكم أعز ما تملكونه؟ أظن أن النساء فقط من يعرفن مقصدي؛ فالرجال لا يعرفون، ولن يتفهموا أبدًا كيف أن أنانيتهم تؤذينا، كل ما يهمهم هو تفريغ شهواتهم بداخلنا سواء ارتضينا أو لا.
نظرت له للحظات؛ تستشف من نظراته أي لمحة قد تشعرها بأنه يفهم ما تقول، ولكن نظراته الباردة جعلتها تظن أنها تتحدث أمام صنم رغم الابتسامة التي ترتسم على محياه، ابتسمت ابتسامة صفراء وكأنها مجبورة على الكلام، فتابعت:
-  نعم إنه الشرف؛ فتاج الأُنثى شرفها فقط.. أما المال والجمال فتلك زينة تتبدل من وقت لآخر.
تحسست جسدها من أسفل خصرها مرورًا للأعلى، أغمضت عينيها متأثرة بالشهوة التي غزت جسدها؛ فهي ترى بأن جسدها لا يقل جمالًا عن جسد فيرجينيا.. تلك التي يتحاكى العالم عن جمالها المعهود.. أكملت حديثها وهي مازالت مغمضة العينين:
-  فأنا وكما تروني جمالي أخاذ، وقوامي ممشوق، وبهية الطلعة، ولكن هل يحق لهم أن يتملكوا جسدي دون رغبة مني؟!
فتحت عينيها ونظرت للحكيم، شعرت كونها أخطأت بتحسسها جسدها، نظر لها الحكيم نظرة ذات معنى، ثم أشار لها بيديه لتكمل ما بدأته، فأكملت قائلة:
-  حين كنت صغيرة بالعمر كنت أسمع عن قيم واهية، عن أخلاق زائفة، ودين رحيم.. تُرى أين هم من البشر؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي