الفصل الخامس

لم يكد يكمل جملته حتى صرخت زوجته وهي تشهق من شدة الإعياء، أحس عمران بأنه قد جاءها المخاض، فقد كانت تزفر بشدة، وتدفع قدميها للأمام، تعالى صوت صراخها حتى دوى صوت صرخات جنينها ليعلن عن نفسه وتندمج آهاتهما سويا، صوت طرقات على الباب كان كفيلًا بجعلها تفزع.. أجاب عمران بقلق:
-  من بالباب؟!
ليأتيه الرد سريعًا:
-  افتح الباب يا عمران، فصوت الجنين قد وصل لقصر الحاكم، افتح وإلا حطمنا البيت فوق رؤوسكم.
حملت الأم رضيعها ووضعته داخل صندوق صغير بالموقد الطيني، حاول عمران أن يثنيها عن ذلك، ولكنها لم تكترث له، حتى تحطم الباب ليدخل أربعة من الجنود حاملين أسلحتهم، قاموا بتكبيل عمران، ونظروا إلى الزوجة ليجدوها تفترش أرضية البيت من شدة الإعياء، قلبوا البيت رأسا على عقب فلم يعرفوا للوليد سبيلًا. خرج الجنود من البيت، فنادت أيارخا بابنتها مريم، فلم تجبها، فأعادت النداء بصوت مبحوح حتى جاءت مسرعة تريد أن تعرف سبب النداء، أمسكت أيارخا ابنها ووضعته في اليم، وهم ينظرون لها بريبة، نظرت إلى ابنتها وقالت:
-  لا أريد أي نقاش؛ فهذا أمر القدير، ستتابعينه وهو يتحرك في اليم حتى نعرف إلى أين سيصل، لربما يبتعد عن البلد بإثرها.
لم تناقشها مريم، بل اكتفت بهز رأسها.. تحركت دون تفكير وكأنها عروس ماريونيت، كان الرضيع نائمًا بالصندوق الخشبي وهو يتحرك به في اليم كسفينة تعرف وجهتها دون رُبّان، ومريم تتابعه دون أن يراها أحد، حتى اقترب من قصر فرعون، ارتجفت مريم وهي تراه يتحرك أمامها تجاه القصر، حاولت الاقتراب منه لتبعده، ولكنها كانت بعيدة أكثر مما ينبغي، وضعت يديها علي قلبها وهي ترى أن آسيا زوجة فرعون واقفة في شرفتها وتنادي لوصيفاتها بأن يؤتونها بالصندوق الغريب، ولم تكد تشر إليه حتى نزلت الوصيفات أمام حديقة القصر المتصلة بفرع اليم ليلتقطن الصندوق.. وما إن أمسكوه حتى وجدوا به الرضيع، أعطوه لآسيا لتجده يبتسم لها.. نظر السامري لآسيا فوجدها تنظر ليدها اليسرى بانبهار، وتبرق بعينيها، صاحت آسيا قائلة:
-  ياللبشرى إن ذراعي يتحرك! لقد تم شفاءه بعد أن لمست بيدي هذا الطفل، سأجعله ابنًا لي.
فتكلمت إحدى الوصيفات قائلة بخوف:
-  مولاتي، ولكن مولاي الحاكم قال بأنه سيقتلع رأس كل رضيع يولد في هذا العالم و..
قاطعتها آسيا قائلة:
-  سيكون قرة عين لي وله، وأظن بأنه سيحبه أكثر حين يعرف بأنه كان له الفضل في شفاء يدي.
شعر السامري بأن اليم يتحرك به، تعجب كونه يشعر بتقلبات النهر بالرغم من كونه مجرد طيف، أغمض عينيه ليشعر بأن رياح ساخنة تحمله، شعر بأنه سيحترق وكأنه حبيس داخل موقد نار، فتح عينيه بفزع ليجد نفسه في غرفته والدخان متجسدًا أمامه وكأنه شبح، سأله قائلًا:
-  لماذا عُدت بي إلى هنا؟ ألم يكن يجدر بك أن تجعلني أرى ما حدث؟
تعظم حجم الدخان حتى ضاقت الغرفة على السامري، فشعر بأنه هالك لا محالة، ظل يسعل حتى تضاءل حجمه من جديد، صوت الهسيس علا هذه المرة:
-  نحن نريك ما نريد أن نريك إياه، لقد بدأت حكايتك حين تولى رعايتك جبريل، وفي نفس العام الذي وُلدت فيه ولد موسى، لقد كنت الجانب المظلم لهم، فقد صحت رؤية فرعون كما فسرها روزينوف الكاهن، وتقاتلا سويًا.. وعبر موسى اليم بعصا قد منحه القدير إياها، لقد كنت معهم يا سامري، ولكنك اخترت أن تكون نصف إله، سرقت أثر جبريل وصنعت منه وبذهب المصريين عجلًا له خوار، ولقد آمن الناس بك وبالعجل حتى صرتما إلَهين، ولكن موسى قام بالدعوة عليك، فأنزل القدير عليك بلعنة جعلتك تشعر بالتيه، تطاير عقلك وظل جسدك مدفونًا أسفل الضريح.. لقد أيقظتك لا لترى ما اقترفت يداك قديمًا، ولكنى أيقظتك لأن عهدك قد آن، ستأخذ بحق عنق وأخيك الأعوج.
سأله السامري:
-  لقد رأيت عُنُق في بداية رحلتي، فمن يكون الأعوج؟
فأجابه الأبيض قائلًا:
-  لقد تزوجت أمك بقابيل بعد أن نبذه القدير وفضل أخيه عليه، فأنجبا عملاقًا وأسموه الأعوج، لقد كان طوله يصل للسماء، حتى أنه إذا شعر بالجوع يمد يده بالبحر فيخرج منه حوتًا ثم يرفع يديه للسماء حتى يطهوه بنار الشمس، جاء من نسل الأعوج قوم جبابرة وسكنوا الجبال.. حتى أنزل الله التوراة على موسى الكليم، فحاربه الكليم وانتصر عليه، كانت الحرب طاحنة.. بني إسرائيل يقفون عاجزين عن قتله، فأمسك الأعوج بحجر كبير كفيل بأن يقتل ألف بشري منهم، خاف بنو إسرائيل منه حتى أن النبي دعا عليه بالهلاك، فارسل الله طيورًا لتنقر الحجر من جانبي يده، فسقط الحجر فوق رأسه ليخر على الأرض صريعًا، لم أرد أن أريك كل هذا أمام عينيك، فلقد رأيت ما يكفي من الظلم.. ولكني أريدك أن ترى كيف تعرضت عُنق للظلم مرة ثانية على يد البشر.
نظر له السامري ووجهه يرتسم عليه علامات التعجب، فأكمل الأبيض قائلًا:
-  أغمض عينيك ولتسبح معي في الرحلة الأخيرة، ستكون ضيفًا بداخل رأس ضيف يحمل بداخله ضيفًا.
نظر له السامري بعدم فهم، لتهتز الغرفة من جديد، تشققت الجدران وتآكلت، شعر بأن هناك أحد ما ضربه بمطرقة من حديدٍ فوق رأسه فأغشي عليه.
وحدي لا شريك لي في عينيك..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي