الفصل الحادي عشر

نظرت لها سماح بازدراء:
-  ألن تكفي عن كذبك يا ابنتي؟ أولا هذا زوجي، ولا أظن أن زوجي سيتركني لينظر لطفلة صغيرة مثلك، ثانيا أنا الواصية عليكِ، ولي إرث في تركة أبيكِ، كما أنه وبحكم أني الواصية فيحق لي التصرف كيفما أشاء.
ابتسم ابتسامة انتصار، ثم وجه حديثه إلى سيرين:
-  حقيقة لا أدري لم تكرهينني إلى هذا الحد، عمومًا لن أرضى أبدًا أن أقبل بشيء ليس لي، وهذا البيت لن يكون باسمي يومًا ما.
كان الجو مشحونًا بينهم، هي تظن أن سماح قد فقدت عقلها وبدلته بشيء آخر؛ فحين تتحكم الغرائز بالبشر يمحون العقل، ولا يكونوا حتى مؤهلين للتفكير، يتبعون شهواتهم، ويزدردون الحكمة، حتى العدل يختفي، ويكون الظُلم بَيّن. لم تنتظر سماح جواب ابنتها، وجهت نظرها له وهي تبتسم ابتسامة بلهاء، واستطردت قائلة:
-  لقد أمنتك على نفسي وعلى ابنتي، أتعتقد بأني لن أثق بك؟ أعلم أنني كما وثقت فيك بزواجنا فجدران البيت تلك ستكون تحت إمرتك.
همت سيرين بأن تقول شيئًا، ولكن نظرات أمها اللائمة والمحذرة ألجمتها، غضت بصرها، وأعطتهم ظهرها متوجهة إلى غرفتها، لتسمع صوت أمها وهي تتكلم بغنج وتقول:
-  حبيبي، لقد حضرت لك مفاجأة سيشيب لها شعرك.
طبع راجح قبلة على شفتيها فأغمضت عينيها منتشية، ‏حملها متوجهًا بها إلى غرفة نومهما، كانت سيرين تشعر بأن الحياة معهما أصبحت شبه مستحيلة؛ فالأم نست تمامًا بأن لديها ابنة في سن المراهقة، تمارس طقوس الزواج بكل أريحية دون التفكير في مشاعر الصغيرة! ‏لطالما تساءلت عما يحدث لأمها المرأة العاقلة، هل سُحرت من قِبل راجح، الذي لم يتزوجها لسبب آخر غير الطمع في أموالها؟ أم فارق السن قد أعاد إليها فترة مراهقتها! وأي مراهقة تلك التي تحولها من امرأه ناضجة لزوجة متصابيه! ظلت تتذكر أبيها ذو العقل، فقد كان دائمًا بشوش الوجه، لكنها لم تسمع له يومًا صوتًا في غرفة نومه، كان دائمًا يأخذ حذره حتى لا يخدش حياء ابنته. مرت ساعة كاملة حتى خرج راجح من غرفته عاري الصدر، لا يرتدي سوى قطعة واحدة من ملابسه الداخلية، حينها كانت سيرين تجلس في بهو البيت، وما إن رأته حتى ابتعدت قليلًا، أعطته ظهرها وهرولت هاربة إلى غرفتها مغلقة الباب خلفها بعنف، لم يمر سوى خمسة عشر دقيقة فقط حتى سمعت حفيف خطوات قدمه يقترب من غرفتها، فلم تبالِ له، خصوصًا وأنها تعرف بأن أمها ما زالت مستيقظة، ‏فتح راجح باب غرفتها وأقحم رأسه فقط وهو مبتسم، فبادرته مسرعة:
-  هناك اختراع جديد ابتكره العلماء يسمى الاستئذان، ألم تسمع عنه من قبل!
نظر راجح إلى الأرض وكأنه محرج، ثم تكلم معتذرًا:
-  أنا آسف، أعلم أنني أخطأت، ولكني أطلب منك فقط أن تسمعينني.
أجابته على مضض قائلة:
-  تفضل.
-  لم أكن بوعيي حين حدث ما حدث، سامحيني، لم أكن أقصد أبدًا أن أفعل ما فعلت.
ابتسمت ابتسامة صفراء وهي غير مصدقة لما يقول:
-  تقول أنك لم تكن بوعيك، ولكن هل عليَّ الآن أن أصدق تلك الترهات!
-  سأخبرك سرًا وأتمنى ألا تخبري سماح به.
-  أرى أنك تراني صغيرة أو ربما تافهة، هل تثق بي من الأساس لكي تبوح لي بأسرارك؟!
‏- بالحق لا أثق، ولكني لابد أن أتكلم لكي تفهمي لما حدث كل ذلك.
سرحت قليلًا في الفراغ، فكرت أن تسمع منه السر، ثم تخبر به أمها كي يكون حجة قوية لتخرجه من حياتها، فهي لا تعلم ما سيخبرها به، ربما يكون شيئًا مهمًا، ولكن أيما كان سيخبرها به هل ستصدقها أمها؟! نظرت له وتصنعت الاهتمام، ثم قالت:
-  حسنًا أخبرني هذا السر.
تنفس راجح الصعداء، ثم قال:
-  أنا مريض بالسرطان، وفي آخر مراحل المرض، ربما أموت قريبًا، ربما الليلة لا أعلم، ولكني أشرب الكثير من الكحوليات لكي لا أفكر، سامحيني فقد كنت ثملًا، وشيطاني قد عبث بعقلي.
شعرت بالصدمة، وربما الشفقة، أخفضت صوتها وهي تقول:
-  لا تخف ستنجو منه، لقد ترك لنا أبي الكثير من الأموال، وأنت زوج أمي، أعدك بأنك لن تموت من المرض، سنفعل المستحيل لإنقاذك، ولكن عدني ألا تشرب الكحوليات؛ فشاربها ملعون.
-  للعلم فقط لقد نامت سماح، إذا كنت أنوي أذية لكِ كما حاولت لكنت فعلت، ولكني بالفعل لم أكن بوعيي كما قلت، ما رأيك أن نتناول العشاء سويًا؟
أمسكت الفتاة بطنها وقالت:
-  أنا حقًا أتضور جوعًا، سأحضر لنا وجبة سريعة.
ابتسم لها راجح ابتسامة ودودة وهو يقترب منها، طبع قبلة بين حاجبيها وهمس قائلًا:
-  كنت أعلم أنك جائعة، ولذلك أعددت لي ولكِ وجبة شهية.
خرجا من الغرفة سويًا، وتوجها لغرفة الطعام، كانت الغرفة مزينة وكأنه هيأها خصيصًا لها، وجدت السفرة مليئة بالأطعمة التي تحبها وكأنه عشاء ملكات، اقترب من المقعد الخاص بها فأخرجه قليلا لتجلس عليه، جلست ‏فجلس بجوارها، وتكلم أخيرًا:
-  لقد حضرت لكِ عصير الفراولة الذي تحبينه.
فرحت كثيرًا، ولم تختفِ ابتسامتها، بل شكرته على تحضره ورقته اللامتناهية، ‏ لقد كانت معتادة دائمًا على تناول العصير قبل وجبة العشاء.. ‏بدأت بشرب العصير حتى تجرعت الكأس لآخر قطرة، شعرت وكأن أحدًا يمسك جفنيها ويغلقهما، تثاقلت رأسها، وشعرت بالنوم يهجم عليها، أحست وكأن الدنيا تدور بها، أغمضت عينيها بتثاقل، وراحت في سبات عميق.
فتحت عينيها في اليوم التالي، ونصفها السُّفلي يؤلمها كثيرًا، نظرت حولها فوجدت أنها ما تزال جالسة على نفس المقعد بغرفة السفرة، وصحن الطعام أمامها كما تركته، تحسست نصفها السفلي بذعر، حاولت تذكر أي شيء ولكن بلا جدوى، تساءلت بداخلها هل فعل بها شيئًا! شعرت بآلام في منكبيها، تحسستهما شاعرة بالألم يزداد، رفعت أكمامها فوجدت بعض الكدمات الزرقاء، شعرت وكأن الدنيا تدور بها، إلى أن سمعت صوت خطوات راجح تقترب منها، نظرت إليه متمعنة، اقترب وابتسامة بريئة ترتسم على قسمات وجهه، وقبل أن تتفوه ببنت شفة باغتها قائلًا:
-  صباح الخير، لقد تعجبت حين غفوتِ ونحن نتحدث، كنت أظن أنكِ جائعة، ولكن يبدو أنكِ كنتِ تحتاجين للنوم أكثر، لذلك تركتك، حتى أني لم أحاول أن أحملك إلى غرفتك حتى لا تظني بي السوء.
نظرت له بعدم تصديق، ترقرقت الدموع بعينيها، ثم قالت:
-  ماذا فعلت بي؟
أجابها ببراءة مصطنعة:
-  لا أفهم شيئًا، ماذا فعلت بحقك؟
تجمدت الكلمات في حلقها، ولكنها كانت تعلم علم اليقين بأن هنالك شيئًا مشينًا قد فعله معها؛ بسبب ذلك الوجع الذي تشعر به في نصفها السفلي، وتلك الكدمات فوق ذراعها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي