الفصل الثامن عشر

شعر آرثر بأن الظلام يضمحل رويدا رويدا، ليجد نفسه كما كان جالسا على مكتبه، وأمامه كرام يبتسم بخبث، قال آرثر:
-  كيف تخللت عقلي وجعلتني أرى ما رأيت؟ لقد رأيت الشياطين وهي توسوس لعقول أهل القرية، رأيت كل شيء، رأيت الزاهد ينقلب رأسا على عقب ويفتن ويزني ويقتل، رأيت كيف ظهرت الأفاعي من العدم وكيف اختفت!
أجابه كرام وما زالت الابتسامة على وجهه:
-  عزيزي آرثر لم يكن هناك أفاعي، ما رأيته هو ما هيئ لهم، هكذا رأيت قدرته في تحويل أعتى زاهد إلى قاتل وزاني؛ لأنه عزازيل، ما رأيك إن جعلتك ترى ما هو أفظع؟
ثم أكمل:
-  أتعرف؟ لقد ظللت لسنوات أحاول الولوج لقلب البشر، ولكني فشلت، حتى لاحت لي ومضات من الأمل جعلتني أتمسك بها، وبالفعل بدأت بالتجربة.. فقد كنت طبيبا كما تعرف بمستشفى الأمراض النفسية، حين رأيته يجلس وحيدا وينظر للفراغ في بلاهة، ‏فقررت أن أقوم بالتجربة عليه، سأخبرك ماذا رأيت، ثم سأخبرك كيف ولجت بداخله.
انحدرت شفتيه عن ابتسامة ساخرة، ثم سأله:
-  لِمَ ازدادت دهشتك يا عزيزي؟ هيا بنا لندخل داخل عقله؛ فالطريق ممهد للداخل كبركة ماء ممهدة للسباحة، أراك استسلمت وأغمضت عينيك، حسنا فعلت، هيا بنا إذا.
(مستشفى الأمراض العقلية)
عدل من وضعية عويناته الطبية وهو ينظر إلى الأشخاص الملتفون حوله فاغري الأفواه، ‏أحس بأنه يحمل فوق كاهله جبل أحد، تمعن النظر فيهم وهم يرتدون ملابس بيضاء متشابهة، ‏لا يعلم أين هو، وما تلك الحديقة الواسعة التي يجلس بها، وتلك الأسوار التي تحيطها من كل جانب، لا يتذكر حتى اسمه، ولكنه يعرف أن عليه أن يتكلم.. وهذا بالضبط ما فعله بلامبالاة:
-  أتعرفون؟ لا أنتظر منكم أن تريحوني أو تخبروني من أنا؛ فأنا بالكاد أعرف أني على قيد الحياة، لا أعرف من أنتم، ولمَ نجلس سويا في تلك الحديقة! هل أنتم من الأخيار لأخبركم بما أسمعه؟ أم من الأشرار لأخبئ أسراري عنكم، ولكني سأبوح بما أسمعه يتخلل عقلي ويرهق تفكيري، أنا أسمعها وهي تحدثه، تتكلم معه وتدلل إياه، لا والله لا أسمعها وحسب فكأنني أراها من وراء حجاب.
رأسه تدور بالمكان في تعجب، وملامح تتبدل بين اللامبالاة والاهتمام، تحدث من جديد متسائلًا:
-  ألا زلتم صامتون؟ ألن يسألني أحدكم عما أتكلم؟ ألن ينعتني أحد منكم بالجنون؟
شعر بالضجر من تجاهلهم له، ولكن عليه أن يكمل حتى لا يجن، ربما الجميع يرونه مخبولا، وربما هم صم بكم عمي، لا يهم كل ذلك، ‏تنحنح بمرارة ثم قال:
-  تبا لكم، آه مما أسمع، وآه مما أرى؛ إني أسمعها تحدثه الآن من داخل سراديب عقلي، يتجولون داخلي وكأنهم جراد يتخلل فروة رأسي من الداخل، ويسبحون داخل تجويف عقلي.
أغمض عينيه وسبح داخل سراديب عقله ليرى نفسه واقفًا في بهو عظيم الهيئة، ألوانه رمادية، في شقة لا يعرفها، وامرأة في العقد الرابع من عمرها، ذات عيون رمادية ممزوجة بالعسل، وبشرتها بيضاء ناصعة.. أما عن جسدها فكان نحيفا يحمل العبق الفرنسي، تجلس على مقعد في الزاوية، تمسك بهاتفها وتتصل بزوجها.
الزوجة بمرح:
-  السلام عليكم، أتصل بك كما أخبرتك قبلما تذهب إلى عملك فلدي بعض الطلبات أريدك أن تجلبها لي.
سمع صوت زوجها يخترق آذانه وهو يجيبها:
-  السمع والطاعة يا مولاة قلبي، طلباتك مجابة حتى وإن كانت قطعة من القمر، فوالله إن أردتِ الزنبقة السوداء لأحضرتها لكِ؛ فأنتِ نفيستي، وحقا نفيسة كما أسماكِ أبويكِ.
وأكمل:
-  ماذا تريدين يا نفيسة فؤادي؟
لوت شفتيها ثم قالت بتأفف:
-  أريد كيلو من اللحم البتلو، واثنان من الضأن، وبعض التوابل، والأرز من متجرك، أما عن الخضروات فأريد من السوق كيلو من البامية وأيضًا الطماطم، وفي المساءِ سأتصل بك لتجلب لي ما نسيت، لأنك تعرف يا مراد أني دائما أنسى.
-  حسنا.. بعد قليل سيصلك أحد العمال، ومعه كافة طلباتك و...
قاطعته قائلة:
- أرسل الصبي الذي يدعى ماجد؛ فهو أفضلهم في التسوق.
- رغم أني اشعر بالغيرة لثنائك عليه، ولكن لأني أعرفك جيدا فطلبك مجاب، سأرسل لكِ ماجد ومعه كافة طلباتك يا نفسيتي.
اختفت الأصوات، فوجد نفسه يجلس ثانية في تلك الحديقة، ولا أحد يجلس أمامه، ظل يتفكر فيما يسمع ويرى، يتساءل بداخله من هم؟ ولكن بلا جدوى.. ‏الآن عرف أن اسمها نفيسة، وأن من يحدثها هو زوجها مراد. فجأة ازداد صوت الصافرة، وضع يديه على رأسه ليتلاشى كل شيء من أمامه، أحس بأن الرياح تحمله من موضعه لتضعه ثانية في تلك الشقة، ‏نظر حوله بوحشة فسمع دقات بالباب، ونفيسة تتكلم بصوت مسموع:
-  انتظر يا ماجد أنا قادمة إليك.
هندمت ملابسها بعجل، وقفت قليلا أمام المرآة وتزينت، ثم اقتربت من الباب وفتحته.. كان بالخارج شاب يبدو على وجهه اللهفة، وأيضا الخوف.. وربما الحرص، ما إن فتحت له حتى دلف إلى الداخل وهو يتحسس خطواته خيفة من أن يراه أحد. اقترب منها ماجد، وضع يديه على كتفيها يتحسسها بلهفة وهو ينظر إلى عينيها، همس قائلا:
-  أخيرا رأيتك يا نفيسة القلب، اشتقت لكِ كثيرا، يا ليت البيت أمام البيت لأراكِ دوما.
ضحكت بغنج ثم قالت:
-  وماذا لو كان البيت أمام البيت؟ ماذا سيحدث؟ بالتأكيد سترانا حُسنة زوجتك، وحينها ستحرمنا من رؤية بعضنا البعض، ولكن وجودك في متجر زوجي أفضل، حيث تأتيني يوما بعد يوم لتقضي حوائج البيت.
ثم غمزت بإحدى عينيها، وأكملت بغنج:
-  وأيضا تقضي شئوني الداخلية، ألا تشبع مني يا ماجد؟
احتضنها ماجد بقوة، كاد أن يعتصرها، ثم قال وهو يقبلها:
-  ومن ذاك الأبله الذي يشبع من حبات الكريز؟!
فقالت له وهو يعانقها:
-  أما زلت تحبني حتى بعد أن استسلمت لك؟
نظر لها وترتسم على وجهه أمارات البلاهة:
-  أتعرفين بأنني كنت أحبك حبًا جمًا.
ضربته فوق كتفه بدلال وهي تقول:
-  ولكنك ما زلت تحبني.. وكأننا "أنصاف آلهة" كحبٍ خالدٍ وهبه أوزوريس لإيزيس.
ضمها أكثر إلى صدره ثم قال:
-  منذ أن رأيتك وأنا اتلهف لضمك إلى صدري.
احمرت وجنتيها أكثر وهي تتصنع الرقة:
-  حسنًا "ناجيني" ليلًا ونهارًا، وليشهد أونجمار على ذلك العشق المترف.
ليجيبها قائلًا:
-  سأسرق الحب رغم أنف الحياة، سأخاطر لاسترجاع ودك وكأنك "حق مسلوب" أخذوه من بين طيات قلبي.. سنهنأ حتى يمل زوجك ويقوم بإطلاق سراحك، فنتزوج لنعيش "ليلة ساخنة" ما بين لهفة الحب ونار الغيرة... نعم كنت أحبك ولكني الآن أعشق تفاصيلك.. في غيابك تأخذني الهلاوس لعالم بعيد وكأني تناولت عقار الـ "ميسالين" خاصةً في "تلك الليلة" التي ستكونين فيها زوجتي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي