الفصل السابع عشر

ابتسم وهو يوضح قوله بثقة:
-  البشر خطاؤون، والقدير لا يغفر الشرك به. ستغرق الأرض بالظلام كما وعدت مهلاييل قديمًا، لن يكون أحد منهم موحدًا به بعدما أنجح أنا.
نظر له ‏عزازيل باهتمام أكثر، ثم سأله:
-  كم ستحتاج من الوقت؟
‏الأبيض بتحفز:
-  بضعة أشهر، وستصبح إلهَ تلك القرية يا سيدي.
انطلق الأبيض، وارتدى زيِّ الرهبان، وحلَّق وسط رأسه؛ ليُهيئ لهم أنه واحد منهم، سار بين الناس في الأسواق فأعجبهم هيأته؛ فكان حليلًا بينهم، له هيبة ووقار، حتى أتى خيمة برصيصا، فناداه فلم يُجبْه؛ فبرصيصا كان لا يَنقطع عن صلاته إلا في كل خمسة أيام، ولا يفطر إلا في كلِّ عشرة أيام، وكان يواصِل العشرين والأكثر، فلمَّا رأى الأبيض أنَّه لا يجيبه، أقبلَ على العبادة في أصْل خيمته، فلمَّا انتهى برصيصا مِن صلاته رأى الأبيض قائمًا يصلِّي في هيئة حَسَنة من هيئة الرُّهبان، فندِم حين لم يجبْه، ‏فقال برصيصا:
-  ما حاجتُك؟
فأجابه الأبيض:
-  أن أكونَ معك فأتأدَّب بأدبك، وأقتبس مِن عَملِك، ونجتمع على العبادة، وستجدني معك دائمًا، ولن أعصي لك أمرًا.
فقال:
-  هناك بالقرية الكثيرين من العابدين، يمكنك أن تتعلم من أحدهم، فأنا كما ترى مشغول بالعبادة.
ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض أيضًا على الصلاة.. فلمَّا رأى برصيصا شدَّةَ اجتهاده وعبادته قال له:
- ماذا تريد؟
- أن تأذنَ لي فأرتفع إليك؛ ليعلو شأني.. فوالذي نفسي بيده لم أرَ في حياتي من هو أعبد منك ولا أنزه منك.
أذِن له برصيصا أن يصاحبه في عبادته، ‏فأقام الأبيض معه عامًا وبضعة أشهر، لا يُفطِر إلا في كلِّ أربعين يوم يومٌ واحد وربَّما مدَّ إلى الثمانين، ولا ينقطع من صلاته أبدًا ولا يؤخرها، فلما رأى برصيصا اجتهاده وحسن عبادته تقاصرتْ إليه نفسُه، وظن أن الأبيض أفضل منه، وما هي إلا حيلة من الأبيض، ثم قال الأبيض:
-  عندي دعوات يَشفي الله بها السقيمَ، والمُبتلى، والمجنون.
فسأله عنها، فعلمه إياها، ‏حتى مر أكثر من شهرين من تعليم برصيصا.. وهنا كانت البداية، فتركه الأبيض ورحل بغير عودة، ‏فأقبل الأبيض على فتاة من أهل المدينة، فتلبسها فأصبح بها جنونًا من المس، احتار إخوتها الثلاث في علاجها، حتى ظهر لهم الأبيض بهيئته الحسنة وكأنه حكيم، فقال لهم:
- لا بد وأن تكون ممسوسة بفعل الجن، اذهبوا بها إلى برصيصا؛ فإنَّ عنده اسمَ الله الأعظم، الذي إذا سُئِل به أعطى، فاتركوها بجانبه فإن حضر شيطانها فهو قادر على ردعه. فقالوا:
- إن برصيصا لم يعد يجيب أحدًا، ولكننا سنخيم بجانب خيمته؛ لعله يجيب.
فلما انتهى مِن صلاته وجدهم أمام خيمته طالبين العون، فطلب معاينة أختهم، فكان له ذلك، اقترب منها، ورأى ما بها من جمال، فوسوس له الأبيض بأن علاجها سيدوم لشهرين متتابعين، ظن برصيصا أن علاجها سيكون كما أوحي إليه، فطلب منهم أن يتركوها معه لستين يوم حتى يعالج ما بها من مس، فنفذوا له طلبه.
كانت الفتاة نائمة كالحمل الوديع، حتى جمَّلها الأبيض في عينيه، ودس في رأسه السموم، فنزل برصيصا حيث ترقد ليداويها، فلما نظر إليها قال:
-  والله إن جمالك أخاذ.
فأتاها فاستحل جسدها وهي لا حول لها ولا قوة، يوم فالثاني.. ومر أكثر من شهر وهو يفعل ما يفعل، حتى انتفخت بطنها ففطن أنها حملت، فأتاه الأبيض في رأسه فقال له:
-  اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدق يسمع قولك؛ فاقتلها ثم ادفنها.
فأتى الأبيض إخوتها في المنام، فقال لهم:
- إن برصيصا قد فجر بأختكم، فلما أحبلها قتلها، ثم دفنها، إذا أتيتم خيمته فاجعلوها عن يمينكم، وترجلوا مائة وخمسين خطوة، ستجدون صخورًا حجرية متشابهة، وأيضا مدببة، ومن بينهم حجر أصفر فاقع اللون، ارفعوه ولتحفروا أسفله؛ فإنها مدفونة بالأسفل، فلما أصبحوا قال رجل منهم:
- والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟
قالوا:
-  لا بل قصها علينا.
فقصها فقال الآخر:
-  وأنا والله لقد رأيت ذلك.
فقال ثالثهم:
-  وأنا والله لقد رأيت ذلك.
قالوا:
-  فوالله ما هذا إلا لشيء.
فانطلقوا حيث برصيصا، فأتوه فأنزلوه، ثم انطلقوا إلى الحاكم به، فأتاه الأبيض فقال له:
-  إني أنا الذي أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري.. فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه.
فسجد له، ضحك الأبيض ضحكة هيستيرية، ثم قال:
-  أتسجد لي من دون الرحمن! أتريد أن تحملني ذنبا لا أقدر عليه، لا والله إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين.
فلما أتوا به ملكهم ليفصل بينهم، حكم عليه بالموت، ‏فظهر الأبيض لأهل القرية بطلعته الحسنة، ثم خطب فيهم قائلا:
-  الآن حصحص الحق وزهق الباطل، لم يخدعنا أحد من قبل كما خدعنا برصيصا بتدينه الواهي.
فجأة ظهر عن يساره عزازيل من العدم في هيئة برصيصا، وتكالب أتباع عزازيل في عقول الناس يوسوسون لهم بأنه ليس ببشر وإنما ملك كريم، ففقد الناس عقولهم، خطب فيهم عزازيل بصوت برصيصا قائلا:
-  لقد حاول الملك والإخوة الثلاث قتلي حتى يختفي الحق، لقد قاموا بصلبي وتعذيبي فوق المصلب الخشبي أمامكم، ولكني حي كما أنا، فأنا الحي الذي لا يموت، إن تتبعوني أحببكم وأدخلكم جنتي، وإن تكفروا فستنزل عليكم لعناتي.
أشار عزازيل بيده فظهرت أفاعٍ كبيرة الحجم تلتف حول الناس، تهدج بفحيح مريع، ‏ففزع كل من بالقرية، فأشار ثانية فاختفت الأفاعي، ‏هتف فيهم عزازيل قائلا:
-  لمن الملك اليوم؟
‏فسجد كل من بالقرية إليه.. وهكذا انتصر عزازيل، وغرقت القرية في الظلام.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي