الفصل الواحد والعشرون

أخذ آرثر المرآة منه، ونظر بها فلم يجد انعكاس وجهه، ظل يتلمس وجهه ثم سأله:
-  أتلك خدعة أخرى؟
ضحك بسخرية وهو يقول:
-  انظر حولك يا آرثر، لن تجد شيئا سواك، صدقني يا عزيزي لا وجود للمرآة، ولم يعد هناك وجود لروحك أيضًا؛ فأنا بداخلك.
صمت لثوانٍ قبل أن يتحدث بسخرية:
-  لمَ تنظر عن يمينك ويسارك؟ انظر إلى مقعدك؛ فلن تجد شيئًا.
اختفى كرام من أمامه، أحس آرثر برعشة تسري بجسده، ذكريات نفيسة ومراد اقتحمت عقله، أغمض عينيه رغما عنه وهو يرى زوج يقول لزوجته:
-  السمع والطاعة يا مولاة قلبي، بالله إن أردت الزنبقة السوداء لأحضرتها لكِ؛ فأنتِ نفيستي، وحقا نفيسة كما سماكِ أبوكِ.
وأكمل:
-  ماذا تريدين يا نفيسة فؤادي؟
فقالت:
-  أريد كيلو من اللحم البتلو، واثنان من الضأن، وبعض التوابل والأرز من متجرك، أما عن الخضروات فأريد من السوق كيلو من البامية، وأيضا الطماطم، وبالمساء سأتصل بك لتجلب لي ما نسيت؛ لأنك تعرف يا مراد أني دائما أنسى.
تداخلت الذكريات داخل عقله، وصوت الحكيم يقول:
-  ولماذا تظن أن هناك أناس غيرك هنا؟ ربما لا يكون لهم وجود سوى بعقلك.
-  معذرة، ولكن كيف!
-  سأخبرك أمرا.. لا تثق دائما بما ترى، أنت الآن ترى نفسك داخل حديقة خضراء ذات أسوار عالية، ولكني لا أراها كذلك، ربما أنت نائم وتحلم بكل ذلك.
أغمض عينيه، يحاول أن يُخرج تلك الذكريات من رأسه، نظر آرثر حوله وهو زائغ العينين، ثم قال بصوت مهزوز:
-  لا أفهم شيئا.. أين أنت؟
ظل صوت كرام بداخله يردد:
-  لم يكن أبدا الموت هو عدو البشر، ولم يكن أيضا الفضول أقوى أعدائه.. ولكنه العقل، إذا ذهب العقل واستحل الجسد، فمن السهل اقتحامه، لطالما كان الإنسان عدو نفسه الأوحد. نسيت أن أخبرك، اسمك الحقيقي مراد، وقتلت زوجتك كما أخبرتك.
صرخ آرثر:
-  اخرج من داخلي، لا أريد المزيد من الكلام، اخرج.
انخفض الصوت بداخله رويدا رويدا وهو يقول:
-  أصبحت أجسادكم خاوية، أصبح الكون غير صالح سوى لنا، صارت الأرض الوسطى لي من جديد، وقريبا ستصبح الممالك السبع تحت قبضتنا.
فجأة اختفى المنظر من أمام آرثر، ليجد نفسه يجلس على كرسي "كوافير" رجالي، وكرام يصفف له شعره، تمعن النظر لكرام، ثم نظر في المرآة فلم يجد شيئًا.. أحس بأن قوة ما حملته على جناحيها، وألقته في تلك الصحراء الجرداء مرة أخرى، ولكن الغيوم كانت سيدة الموقف.
نظر يمنى ويسرى ليجد أشخاصًا جالسين فاغري الأفواه في بلاهة، هتف فيهم:
-  أليس فيكم رجلٌ رشيد يخبرني عن هُويتي؟ لقد عدنا عند قبر مهلاييل.
لم يجبه أحد، نظر أمامه شارد الذهن، فتخلل وميض ضوء داخل عقله، ووجد نفسه ينظر لذلك الحكيم الذي قابل مراد من قبل، ابتسم له الحكيم، ثم سمع صوته يحدثه:
-  لا تصدق كل ما ترى، حتما سيظهر النور؛ فالخير دائم إلى يوم البعث، لا تستسلم للظلام فإنه مهلك، يقول بن عباس في تفسير: "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن" سبع أراضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وموسى كموسى، وعيسى كعيسى". ربما سقطت الأرض الوسطى، فقد اتحد العزازلة، سبع ممالك من الشر في الأراضين السبع، ألا آن لممالك الأرض أن تتحد ليسقطوهم؟ ابحث عن ذاتك بداخلك، أنت كما أنت، ولكن لكل بشري منكم شبيه في أرض أخرى، هناك ستة بشريين مثلك، حاول أن تتحد معهم، اخرج للنور.. فالنور ما زال بداخلك، لقد استطاع عزازيل أن يجمع ذكريات أشباهك السبع ليقودكم إلى الجنون، لم تكن تلك ذكرياتك يا آرثر، أما عن مراد فما هو إلا شخص يشبهك، ولكنه في أرض أخرى، حاول التركيز واتحد مع أشباهك.
اختفى الحكيم فاستفاق آرثر ليجد كرام واقفا فوق قبر مهلاييل، ينظر لهم جميعا وما زالوا فاغري الأفواه، فكل منهم له ذكريات واهية ينقلها لهم، تساءل كرام:
-  ماذا لو كنت اكتشفت الذات البشرية وأنا بالجنة؟ هل كنت سأرغم حينها للسجود لآدم؟ ‏هل وقتها كنت سأصبح مذموما مدحورا؟ هل لو عاد الزمن بي للخلف كنت سأتغلب على مهلاييل حفيد شيث بن آدم؟ الآن أصبحت الأرض لي بعدما سكنت الأرواح وتخللت الأجساد.
نظر تحت قدميه لشاهد القبر، ثم هتف فيهم قائلا:
-  لمن الملك اليوم؟
نظر كل الموجودين إلى كرام، ثم انحنوا معظمين له.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي