الفصل الثالث

عاتية تلك الروح لاشية، تجيء ذهابًا وإيابا، وما كان من قلبي إلا أن ينوب ويهاب، كلما مررت شطرا يعاد السطر، ويتوه الحلم، ويجف وينساب.. لا خاب خاطري بل ذاب. لم أعد أرى وأرهب برعشات من جل اللحظة وبهتان العذاب، لا حلم ولا حياة.. سقط الخيال وبقى الواقع والروح دعابة."
شرين عبد العظيم
(الفصل الثاني)
شعر وكأنه يتطاير عبر الغمام ليرجع ثانية إلى غرفته، فوجد مكتوبًا على الجدران "أحاديث سفلية"
بدأ في القراءة بصوتٍ عالٍ:
" حدثني مركوت رضي عزازيل عنه أن عزازيل حاكم الأراضين السبع ومزلزلها قال:
-  لا يفنى الزمان حتى يتقابل المسيحان، فيتقاتلان، فتفِيءَ روح أحدهما لخالقها، والفائز منهما سيكون أفطس الأنف، عينه ممسوخة وكأنها عنبة مطفأة. سيحكم الأرض لأربعين يومًا، ويعلي كلمة طاووس السماء الدنيا، حتى يأتي من هم أشد منه بأسًا، فيرحل المسيح عنها، ثم يأتي دخان من الشرق يأخذ الجميع حيث مثواهم الأبدي."
انتهى من القراءة فظهر الدخان من جديد، ورجع صوت الهسيس مقتحمًا سراديب عقله:
-  لقد أريتك ليلة مولدك يا سامري، انظر يا صديقي كيف نزل الوحي إليك ليحف الغار وأنت نائم، كلمات الذكر كانت تقلقك وتبكيك، ولطالما كنت كذلك. أسموك السامري لتسامرك مع الوحي، كان الجميع يغارون منك فأصبحت منبوذًا، انظر إلى نفسك الآن وأنت ما زلت قويًا ولم يغيرك الزمن، خلودك نابع من خلود أبيك عزازيل، وقوتك الجسدية اكتسبتها من أمك ومن قابيل أيضًا. الآن قد حان موعد نزولك للأرض سيدًا وإلهًا، ولكن يجب أن ترى كيف انتصرت على موسى الكليم.
لم ينطق ببنت شفة، فهو ما زال لا يعرف هيته وعن أي شيء يتحدث، وكأنه خاوٍ تمامًا كعقل أصيب صاحبه بالزهايمر! فأكمل الأبيض قائلًا:
-  سأريك الحدث الذي أطاح بفرعون مصر القديم، سترى معي الكليم مهدًا، سترى كم ظُلمت من بني إسرائيل رغم أنك ترعرعت في بيوتهم، عليك فقط بأن تغمض عينيك لتتفتح بصيرتك.
أغمض عينيه ليشعر بدوران الأرض تحت قدميه حتى كاد أن يقع، لينساب إلى مسامعه زقزقة العصافير، ففتح أعينه مرة أخرى ليجد نفسه واقفًا أمام قصر عظيم الارتفاع، لقد كان الجو رائقًا لطيفًا، معبق بأريجِ الياسمين المنبعث من حدائق قصر فرعون حاكم مصر، وميدان القصر تحيطه المسلات المزركشة برموز هيروغليفية تتحاكى عمن حكموا البلاد قبل مجيء حاكمها فرعون، الحراس يتبادلون السير في الممر المقابل للقصر لحمايته من العامة، خاصةً بعد القرارات الصارمة التي اتخذها بشأن بني إسرائيل بأن يعملوا لستة أيام في الأسبوع دون أجر لصالح الدولة، ويومان لهم، فقد كان يعمد على إذلال بني إسرائيل كونهم تحالفوا مع الهكسوس وملوكها في زمن عزيز مصر "يوزر سيف" صوت جهوري يتعالى من داخل بهو القصر لخارجه:
-  أحضروا كهنة المعبد، فإني قد رأيت في المنام ما لم يره أحد من قبل.
خرج رئيس القصر واسمه "أميتاح" على عجلةٍ من أمره، راكبًا عجلته الحربية متوجهًا قِبل المعبد، وما لبثَ حتى عاد ومعه خمسة من الكهنة، عريضي الهيئة، يتقدمهم كاهن حليق الرأس ذا جسد بدين، ويمسك بيده عصا ذهبية متينة ولها رأس ثعبان، أوقفهم على باب البهو ودخل "أميتاح" وهو يقول:
-  يحيا عالي المقام حامي مصر وراززقها، الرب فرعون رب أرباب مصر وحاكمها الأعظم والأشرف على مر العصور، عالي المقام "روزينوف" الكاهن الأكبر في انتظار الإذن بالدخول.
أومأ له بالموافقة، فأدخل الكاهن وحاشيته إلى البهو العظيم، والذي كانت جدرانه مزركشة بنقوشات فرعونية وكأن يد الله هي من خططتها لا الخطاطون، وفي أقصى البهو يجلس الفرعون على عرش عظيم ممرد بالياقوت والإستبرق، ومسربل بالمرجان وبالأحجار الكريمة، وينظر للكاهن وحاشيته وهم ممسكين بعصاهم ويتبخترون في سيرهم وكأنهم قطيع من الغزلان البدينة، وقف الكاهن الأعظم أمام الفرعون وقال بنبرة جامدة:
-  يحيا عالي المقام ملك مصر المعظم.
فأجابه فرعون على مضض:
-  يحيا الكاهن الأعظم روزينوف، جئت بك لأقص عليك رؤية أرقت أنامي.
نظر له الكاهن نظرة ثقة وهو يقول:
-  حسنًا، قصها عليّ وإني بتأويلها لعليم.
أغمض فرعون عينيه وكأنه يسبح عبر دهاليز عقله، تبعها رجفة سرت في أوصاله، ثم بدأ بقصص رؤياه:
-  إني رأيت نارًا عظيمة تخرج من بيت المقدس، وكأنها تنين جائع، تأكل الأخضر واليابس في طريقها، حتى غشت أهل مصر وغرقنا جميعًا بها، فأنارت ما بين المشرق والمغرب.
-  أممممم.
قالها الكاهن وأتبعها:
-  حسنًا عالي المقام، أمهلني ليلة وضحاها لأتشاور مع باقي الكهنة وأحشر في المدائن لأجمع السحرة، ولأعطيك تأويلًا وافيًا عن رؤياك.
-  لك مني ذلك، سأعطيك ليلة وضحاها وسأنتظر منك التأويل.
خرج الكاهن من البهو وهو يتشاور مع حاشيته من الكهنة، حتى وصلوا إلى وصيد المعبد، والذي كان مبنى كبيرًا، بوابته منقوشة على شكل هرمي، منحوت في الجبل، وأمامه تماثيل كثيرة منحوتة ولها قرون وكأنها أصنام يتعبدون لها، ويقف على البوابة حراس يرتدون زِي حرس البلاط الملكي، ركعوا أمام الكهنة وهم يدخلون المعبد.. تبعهم الطيف وكأنه ملاصق لهم وهم يدخلون عبر ممر ضيق، مشاعل من نارٍ معلقة على الجدران الرملية حتى وصلوا إلى بهوٍ لا يقل جمالًا عن بهو فرعون، بواسطة خوان عظيم موضوع عليه مبخرة جميلة تسر الناظرين وتطرب أنوفهم من تلك الروائح المنبعثة منها، ما إن اقترب منها الكاهن الأكبر حتى وضع بداخلها سائلًا لونه أحمر، فتأججت بالنيران، وصنعت حولها دخان عظيم، أدار ظهره ليقف أمام حاشيته من الكهنة، مصمص شفتيه ثم قال:
-  إن رؤية فرعون مفهومة بالنسبة لي، وأنا أعلم بتأويلها، ولكنه سيُحدث خرابًا بالبلاد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي