الفصل الثامن والعشرون

وضع هاروت يديه على رأس آرثر فأحس بأن جسده يتلاشى وروحه أصبحت حرة، الأرض تحت قدميه تدور به عبر دوامات حلزونية، حتى عاد من جديد إلى الأرض الحمراء.
عزازيل يقف أمام جيوشه الجرارة ويخطب فيهم خطبة المعركة:
-  اليوم ستعلو كلمتنا وسنحكم الأرض، سيسقط عالم الجان ويبقى الهوجيمو والحني الاخير، سيقتل سوميا وستزلزل الأرض تحت أقدامهم، لن يؤخرنا شيء. السماء ستنحني لنا، أتعلمون؟ إني أرى النصر من مكاني هذا، رائحة خوفهم تخترق أنفي، الأرض الحمراء سترتوي بدمائهم، فلنسر لطريق النصر فلم يبقَ على امتلاكي العرش سوى سويعات قليلة.
تقدم أحد الجنود نحو الفتى عزازيل وركع أمامه ليجلس عزازيل فوق رقبته. رفرفت أجنحة كائنات الهوجيمو استعدادا للزحف إلى الحرب. طار الجندي وهو يحمل عزازيل فوق عنقه ويتبعه بقية الجيش متجهين إلى مملكة سوميا. كان آرثر يتبعهم وهو يعرف أن تلك المعركة ستكلفهم الكثير، ابتسم ابتسامة صفراء وحدث نفسه قائلا:
-  القتل يولّد الثأر، ولكن صدق من قال أن للقصاص حكمة وحرفة، فلأجل استعباده قرر أن يبيد أهل الأرض فأخذه الكبر عتيًا.
تساءل بداخله ماذا بعد يا عزازيل؟ سأتبعك لأعرف كيف ستتغلب عليهم. شعر آرثر بأن عجلات الزمن تسرع أمام عينيه، الجنود تتحرك بسرعة جنونية تجاه أرض المعركة، لا يدري هل الجنود يسرعون أم الوقت هو الذي يسرع خطواته. صوت نفير بوق الهوجيمو يصرع القلوب ويروعها، جيش جرار من كائنات الهوجيمو يقف أمام قلعة سوميا.
يقف عزازيل وينادي بأعلى صوته:
-  يا أبا الجان، يا سوميا، لما أنت خائف؟ في الأمس القريب عذبتني، والآن تخاف من مواجهتي؟ أخرج إلينا ولترينا قوتك، فقد حان وقت القصاص.
صوت نفير يصدح من داخل قلعة سوميا وصوت جهوري من الداخل يهتف بقوة:
-  اضرموا النار في أجسادهم، الويل للمعتدين.
كرات من النار تتهافت على جنود الهوجيمو لتصرعهم، كرة نارية أصابت حامل عزازيل فأسقطته أرضا
عزازيل يزحف ويهتف بصوت مهزوز:
- اخترقوا القلعة اجهزوا عليهم.
أراد آرثر أن يرى تجهيزات جيوش سوميا فسبح إلى داخل القلعة
ليجد سوميا يخطب في كتائب من جيوش الجن قائلا:
-  إن عزازيل أعد جيشا لم نرَ له مثيلا، ولكننا نستطيع أن نردعه، إني أشعر وأشّتم الخوف يسري بدمائكم، إنه ذلك الخوف الذي كاد أن يخلع قلبي من مكانه، دعوا الخوف خلفكم فإن كان اليوم هو آخر أيامنا على تلك الأرض، فلنمت بشرف ولنصنع المجد لأمتنا.
هتف بصوت عالي ثلاثة مرات:
-  إلى الموت، إلى الموت، إلى الموت.
فردد من خلفة كافة كتائبه:
-  الموت.
ارتفع صوت نفير الجيش لتنفتح أبواب للقلعة، وتخرج منها الجيوش لملاقاة كتائب الهوجيمو. لا أثر للغبار فالجيشان يرفرفان بأجنحتهما عاليا لتتلاقى السيوف فتصطك ببعضها لتحدث شررا. يعتلي عزازيل جنديا آخر من الهوجيمو ليقف محاربا أمام سوميا، يتلاقى القائدان فتهدأ أرض المعركة، فمن يهزم الآخر يصبح جيشه منتصرا، تتلاقى سيوفهم وتصطك ببعضها بقوة حتى ينكسر سيف سوميا ويقع أرضا، يقترب منه عزازيل ليدق عنقه، فيخرج سوميا خنجرا من حزامه فيقطع يده، فتسقط يد عزازيل أرضا بجانب سوميا، كائنات الهوجيمو ترى ما يحدث، ينظرون إلى بعضهم البعض، والخاتم ملقى في إصبع كف عزازيل المقطوع، هتف فيهم قائدهم قائلا:
-  لم يعد هناك قائد لنا، إما نحن أم هم، أروني معنى القوة يا أهل البرزخ، اشتدت المعركة وجنود سوميا تسقط أمام قوة جنود الهوجيمو، حتى وقف سوميا أمام قائد جيشهم لملاقاته.
قال سوميا:
-  دع الجنود جانبا واجعلها الأخيرة بيننا، إما أنا أو أنت.
ضحك قائد الهوجيمو ثم قال:
-  حسنا فلتكون نهايتك اليوم يا سوميا، ذلك اليوم يخلد للتاريخ ولكنكم لن تكونوا حاضرين لتسمعوا به، سأحكي فيما بعد لأحفادي أنه كان هناك كائنات نكرة اسمها الجان، سفكت الدماء وفسقت في الأرض فأبدناها عن بكرة أبيها.
وقف سوميا على الأرض ثم طلب من قائد الهوجيمو أن يلاقيه أرضا، أمسك سوميا سيفه في يده اليمنى وبيده اليسرى درعه المصنوع بخامة تشبه من البلاتين غير قابل للكسر، يواجه الآخر الذي يفوقه قوة. تمتم ببضع كلمات فتعظم جسده ليصبح خمسين ذراعا، وأخذ سيفا آخر من أحد جنوده، ضحك قائد الهوجيمو ضحكا هستيريا، ثم اقترب من سوميا ليلاقيه، اصطكت سيوفهم بعضهم ببعض، فكادت الغلبة أن تكون لسوميا، وقع قائد الهوجيمو أرضا فاقترب منه سوميا ظنا منه بأنه انتصر، رفع سيفه عاليا ليدق عنقه، فتدخل جندي آخر من الهوجيمو ليقطع ذراعه ويطعنه في قلبه، صرخ جنود سوميا بصوت عالٍ:
-  خيانة، لقد قتلوه غدرا، يا جنود سوميا اجهزوا عليهم.
اشتدت المعركة ثانية وجنود سوميا بلا قائد، كان سوميا يلفظ آخر أنفاسه وهو يرى بأن جيشه وسلالته سيفنون أمام كل تلك الجيوش الجبارة، لحظات مرت عليه يتذكر فيها حين خلقه الله ومطلبه الأول، حين قال الله لسوميا:
-  تمنى علي.
فقال سوميا:
-  أتمنى أن نرى ولا نُرى وأن نغيب في الثرى، وأن يصير كهلنا شابا، فلبى الله له أمنيته.
ثم سأل سوميا أهل النور:
-  هل هناك مخلوقات أقوى منا بالأرض؟
فقالوا:
-  نعم هناك كائنات أعظم، وستلاقونها ذات يوم، فإن بغوا عليكم وانتصروا، فقل هذا: اللهم لا حول ولا قوة إلا بالله، أنت حسبنا ونعم النصير، حينها سنكون معكم ولكن إن كنتم فاسقين فالويل لكم معهم.
تمتم سوميا بما كان يحفظه، فظهر ضياء كثيف يطغى على ضوء الشمس، رياح شديدة تكاد أن تقتلعهم من الأرض، صوت صرخات كل من بالأرض كادت أن تصم آرثر وهو يقف مذهولا مما يرى، حتى رأى من بعيد شيء في أرض المعركة. اقترب منه ليكتشف أنه الخاتم، لم يشعر بنفسه إلا وهو يأخذه بيده، ليجد العالم يتلاشى من حوله وهو يقف أمام الحكيم هاروت يلهث من شدة الإعياء. نظر له هاروت بغضب ثم سأله:
-  لم أخذت الخاتم، ألم أنهك عن ارتكاب أية حماقة.
أجابه آرثر بنبرة واثقة:
-  لقد قمت بما كان علي فعله. لقد قال التمثال أن الجوال سيدخل الكهف مرتين، لقد كان يخبرني بأن عليّ أخذ الخاتم ولكني لم أفهم من البداية، ولكن أخبرني كيف انتهت الحرب دون أن ترجعني إليهم؟
ابتسم الحكيم ابتسامة صفراء ثم قال:
-  بالتأكيد لن أرجعك إليهم ثانية فما زال الفضول قاتلكم، مهما عانيتم منه ستظلون فضوليين حد الموت، سأخبرك أيها المخلص العظيم بالحكاية ولا تقاطعني... بعدما ردد سوميا الكلمات المنجية لفظ أنفاسه الأخيرة فنزلت كائنات النور وكنت معهم ولكن عالم الجان كان قد أوشك على الاندثار. نفخ إسرافيل في البوق، فتوقف الجميع عن القتال خوفا ورعبا، بدأت كائنات الهوجيمو تخرج النار وتحرك قلعة الجان قبلما نصل إليهم، فنزل ميكائيل إلى الأرض وضربها بعصاه، فانفلقت منها مائة وخمسون عينا وتكاثرت السحب فوق القلعة لتمطر عليها فأطفأها. رفرف جبريل بأجنحته فأتت الرياح كالصرير تسحقهم سحقا. كان عزازيل يرتجف خوفا وهلعا، فهو الأخير من بين نسله، فأخذته أسيرا وصعدت به إلى السماء، وهربت كائنات الهوجيمو إلى قلعتها في أرض البرزخ، وهرب من هرب من الجان. لقد منح الله عزازيل فرصة أخرى، فظن أنه انتصر على الجن، وأن الله فضله عليهم، ولكن القدير دائما يعطينا الفرص ونحن نضيعها. كان لعزازيل ملك السماء الدنيا والأرض، وأصبح مكرما كتكريم الملائكة، فتكبر حتى ظن نفسه الأكرم والأعظم من بين المخلوقات، لم ينسَ أبدا أنني من أسرته، فكنت أراه يوميا يهبط الى الأرض ويلتمس ترابها ويحدثها بأنه الملك عليها، وأنه الأوحد الباقي من نسله، عقدته الوحيدة حولته إلى كائن نرجسي، حتى ذلك اليوم الذي أراد فيه القدير أن يخلق جنسا جديدا، فبعث جبريل إلى الأرض لكي يقبض روحها، فقالت له الأرض: أعوذ بالله منك أن تقبض روحي، ففشل جبريل، فنزل بعدها إسرافيل فحدث معه مثلما حدث مع جبريل، حتى نزل عزرائيل ملك الموت، حين استعاذت منه الأرض أجابها قائلا: أعوذ بالله منكِ أن تمنعيني من عمل قد أمرني الله به، فقبض عزرائيل روحها وظل يهبش من كل بقاع الأرض، التربة الحمراء والصفراء والسمراء، ولذلك تنوعت ألوان أبناء آدم وطباعهم، فمن طيب، لشريف، لخبيث. لقد كره الشيطان آدم قبلما تدب فيه الروح، كنا نزجره حين يتخلل داخل جوف آدم ليرى ما به، لم يتركه عزازيل حتى دبت في آدم الروح بأمر ربه فسجدنا جميعا. حينها رفض عزازيل السجود له فمسخه الله فأصبح شيطانا رجيما، لم يصحبه سوى الأفاعي ومنهم الأفعى الكبرى ناجيني، التي دخل بجوفها ووسوس منها لحواء لأخذ الثمرة المحرمة، فأقنعت حواء آدم بثمرة الخلود المزيفة. ولكن حواء حين سألها الله عن إقناعها لآدم بأكل الثمرة أنكرت ذلك وكذبت، فكذبت باقي النساء، تلك كانت البداية أيها المخلص.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي