الفصل الثالث عشر

ابتسمت سيرين بمكر ثم قالت:
-  حسنًا فهمت، لقد كان يومًا عصيبًا، لا أستطيع أن أصف لك ما كنت أشعر به، لا أتذكر الكثير، ولكني أتذكر مظهر أمي وهي ملقاة أمامي على الأرض، أتذكر نظرات الغل في وجه راجح، حينها شعرت وكأن السماء أعطتني قوة جبارة، فبالرغم من شعوري بالانكسار إلا أنني وقفت ومسحت عني دموعي، لقد تشابكت معه بالأيدي وهزمته، أفقدته الوعي بضربات متتالية في أنفه وفمه، أنَّى لفتاة مثلي أن تكون بتلك القوة التي تتغلب فيها على شاب يكبرها بسنوات كثيرة! كانت أمي تنظر لي وهي متفاجئة مما يحدث، هل السماء من أعطتني القوة لأضربه، أم أن قوتي كانت سحرية وهبني إياها الشيطان؟ حقيقة لم أكن أعرف، ولكن ما حدث بعدها كان بمحض اعتراف مني بأنني لا بد وأن أعتزل عالم البشر، أن أخلع عني جلدهم وأقف في المقدمة مع المنتصرين.
ابتسامة انتصار اعتلت وجهها، وحماس غريب وكأنها على شفا دخول صراع جديد تثق بفوزها فيه، تابعت بثبات:
-  لقد قيدته وحدي في مقعد خشبي، كان الغل هو ما يحتل قلبي، انتظرت حتى استفاق من سباته القهري، أمسكت بالسكين وقطعت من لحمه وهو على قيد الحياة، ينظر لي بخوف، بل يترجاني أن أعفو عنه، ولكن هل يستحق الشفقة! لم أهتم بشيء سوى انتقامي، بدأت بأنامله واحدة فالأخرى، كنت أتلذذ من سماع صرخاته.
ابتسامة ساخرة احتلت ملامحها وهي تتابع:
-  لقد قال بأن الكلاب أعظم شأنًا منا.
تنهدت بقوة وهي تؤكد الأمر في اضطراب:
-  حقًا إن الكلب صديق وفي لن نجد مثله أبدًا، فلا يوجد بشري يفي بعهده مثل تلك الكلاب التي يدّعون بأنها نجسة، إنسان تطعمه وتأويه فيطعنك خلف ظهرك، وكلب تُربت فقط على رأسه فيعطيك فوق حياتك حياة، لقد فارق الحياة وأنا أقطعه لأشلاء أمام عينيه، كم كنت أتمنى ألا يموت أبدًا حتى أقتص منه بدلًا من المرة ألف مرة؛ فتلك قاعدة أساسية؛ الفاجر في الجحيم كلما نضج جلده يبدله القدير بجلد غير جلده ليذوق العذاب أضعافًا مضاعفة، ولكنه مات.
عاد شغفها من جديد وهي تتابع مع إيماءات رأسها المتتالية:
-  التمثيل بجسده كان أمرًا لا بد منه، نظرت إليّ أمي وهي متوجسة خيفة مما أنا عليه، لقد كانت آثمة مثله، لم أدرِ بنفسي إلا وأنا أسكِن النصل بداخل رئتيها، لقد قتلتهما معًا؛ ليشهد العالم أجمع بأن الظلم ظلمات.
"سعتي من الصبر قد انتهت أطلب من الإله تهوينا فقد احتملت من المصائب كثرة وأنا فى الدهر عليلًا.. أشتاق لرؤية أحباب طال فراقهم.. واللقاء بيننا اصبح مستحيلًا.. يا غربة الأحباب يكفي مشقة.. عساكِ أن تفارقينا ويأتي بعدك أفراحًا وتهليلًا"
هبة محمود علي.
(الفصل الخامس)
عم الصمت أرجاء المكان، رفعت رأسها وهي تتحدث بنبرة هادئة للغاية:
-  حقًا ستتساءل عن سبب قتلي إياها، وتظن بأني حينها أصابني الجنون أو ما شابه، ولكني كنت أشعر بكل شيء، قتلي إياها كان بمحض إرادتي، كل هذا كان شيئًا سهلا، أما الأصعب فكان إخفاء آثار جريمتي، لقد قطعتهم إربًا وكأني أقطع أضحية لأقدمها للناس هبة مني، وبالفعل فعلت هذا، لقد استحل راجح جسدي، وانتهك عرضي، والسبب في ذلك تلك المتصابية التي أدخلته من البداية في حياتنا، كنت أترجاها لكي ترجع عن فعلتها ولكنها أصرت على الاستمرار، لقد حكمت عليهم بالقتل لأنهم لم يكونوا سوى مجرمين، الأغرب من ذلك أن الناس أحبوا لحومهم بالرغم من أنها تشبه الجيفة الميتة، لقد أكلتُ أكبادهم وحققت انتقامي، وسرت في الأرض كالجلاد.
قطع الحكيم كلامها قائلًا:
-  لقد فعلتِ ما كان يجدر بكِ فعله، وأنا هنا فقط لأسمعك، ثم أحقق لكِ ما تتمنين، أتريدين القوة والسلطة؟ فوالذي نفسي بيده لأهبنك قوة لم يكن لبشري أن يمتلكها، قوة تفوق قوة سليمان الحكيم، قوة سبعة من جبابرة الأرض.
لوت شفتيها ثم قالت:
-  لقد سئمت الشعور بالقوة، لقد أصبحت قاتلة، وليست العلة في قتلي لأمي وزوجها فقط، لقد اتخذت نفسي إله على البشر، قتلت الكثير والكثير.
نظر لها الحكيم نظرة ذات معنى قبل أن يقول:
-  لا تظني بأنكِ مخطئة، لقد تم استغلالكِ، فلنفكر سويًا في الهدف من تعذيبك وسلب آدميتك! ما الحكمة والداعي لكل ما حدث معك؟ هل تعرفين معنى التأطير؟
نظرت له بدون فهم وأومأت بأنه لا، ابتسم ابتسامة صفراء، ثم أكمل قائلا:
-  التأطير هو التحجيم، أن أضعك بداخل دائرة مغلقة كل ما بها سيئ حتى تختاري الأسوأ من بينهم، أن أعطيكِ خيارين أو ثلاث على الأكثر، مثلًا أن أسالك تريدين الموت شنقًا أم حرقًا أم غرقًا؟ ولكن لا أعطيكِ وسيلة للنجاة، هذا ما حدث معك، اختبارك كان أصعب مما يجب ولا أعلم الحكمة منه، أنتِ قتلتِ كل من عرفتِهم لأنك كنتِ مضطرة، لقد تم تحجيم اختيارك لتختاري الأسهل، وهو أيضًا شيء ليس لكِ يد فيه.
مشاعر متضاربة تغزوها، تود لو أحرقت الأرض ومن عليها، نظرت للسماء نظرة كراهية وهي تؤمن بأن السماء قد أحرقت قلبها، نظرت للحكيم بشرود، ثم قالت:
-  لقد تم قتل آدميتي، بل أصبحت مجرد آلة ذات أشواك صُنّعت خصيصا للقتل، أشعر وكأن المسيح الدجال يسري بدمي ولا أعرف لمَ تم اختياري.
اقترب منها ونور يَشِّع من وجهه، ثم قال:
-  لكِ مني عرضًا أظن أنه من المستحيل عليكِ رفضه.
-  وما هو ذلك العرض، أظن بوجهك هذا وذلك النور، أنك ستعرض عليّ الجنة نظير التوبة!
ضحك على أثر كلماتها، ثم قال:
-  لا لا لست كما تظنين، أنا أعرض عليك حكم الأراضين السبع بكل ما عليها.
نظرت له بوجوم وهي لا تصدق ما يقول، أي مُلك وأي أراضين تلك التي ستحكمها! نظر لها بابتسامة ودودة ثم قال:
-  حسنًا لدي القدرة على الاستماع إليكِ، أريدك أن تفرغي طاقة القهر التي بداخلك قبل أن أتحدث، أعرف أن قتلك لكل ما حولك لم يكن كافيًا، قتلهم بالنسبة إليكِ كان بمحض إطفاء للنار، ولكن رماد القهر والأحزان ما زال مشتعلًا بداخلك، ولكني سأخبرك بشيء آخر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي