الفصل السادس عشر

أحس آرثر بأن الدنيا تدور بعقله عبر دوامات حلزونية؛ ليجد نفسه واقفًا في صحراء جرداء بلا أية معالم، ما هذا؟ لقد ظهر في الأفق البعيد عزازيل، يقف فوق شاهد قبر أحد ما، يضحك بسخرية، يتكلم بكبر ناظرًا تحت قدميه: ‏
-  لقد انتهى عصرك يا مهلاييل، ولت أيامك، لن تتصدى لنا أبدا، الآن ستكون الأرض لي، لقد كانت منذ زمن ليس بالبعيد لي، حتى أتيتم بوجوهكم العكرة فنُزع عني الملك واستبدلنا القدير بكم، وعدتك بأن حفيدك برصيصا سيكون تابعًا لي ذات يوم، الآن أصبح الراهب الأوحد بقريته، ألا تسمعني؟ أعرف أنك لن تجيب لأن جسدك تعفن وأكله ديدان الأرض، ولكني أعرف أن روحك حاضرة، أشعر برائحتك الكريهة أيها الطيني، لن يسقط برصيصا وحده، ستغرق القرية في الظلام، سيتركون الجنة بأيديهم ويتبعون خطواتي إلى الجحيم.
اختفى عزازيل لتوه، وطيف آرثر يلحقه، رحل إلى مكانه المحبب، حيث عرشه على الماء، جلس على عرشه المزين بحلي أساور من فضة وإستبرق، وحوله المئات من نسله يحتفون به، يجلسون فوق الماء ولكن دون أن تمسسهم؛ فقد كانوا يرتفعون عنها بسنتيمترات قليلة، ‏سألهم عزازيل عن أقوى ما أحدثوه في عالم البشر، فوقف أحدهم واسمه الأبيض، وهتف بفخر قائلا:
-  يحيا عالي المقام، ملك الأرض وعزيزها ومزلزلها، يحيا ملك النار والطين، يحيا من أنزل آدم من الجنة إلى أسفل سافلين، يحيا من قال لا للبارئ القدير، يحيا العظيم عزازيل.
أقبل على عزازيل فقبل يده، ثم ركع أمامه، وأكمل قائلا:
-  لقد أفنيت مدينة كبيرة عن بكرة أبيها بعد أن جعلت زوجا يطلق زوجته.
أشار إليه عزازيل بأن يقترب منه ويجالسه، نظر إليهم آرثر من مكانه البعيد فهو يعرف أن إبليس يعرض عليه الشياطين أعمالهم يوميا، وأقربهم منه مجلسا هو من يفرق بين المرء وزوجه. اقترب الأبيض من عزازيل وهو واثق الخطى، فأجلسه عزازيل بجانبه وهو ينظر له نظرة رضا، ثم قال:
-  أخبرني كيف؟
‏الأبيض بفخر:
-  لقد كان أول اختبار لي من ذراعك الأيمن مركوت، ولكنني لم أخيب ظنه، ما دمت تحت رايتك يا عالي المقام.. لقد ‏فكر بأن نعتكف على رأس جبل كي يختلي معي ويفكر في ماهية الامتحان الذي سيخضعني إليه، وعندما وصلنا إلى قمة الجبل ونظرنا إلى الجانب الآخر منه.. فإذ بقريةٍ وادعةٍ صغيرة، يقطن فيها أناسٌ قليلين، ويرتبطون بوشائج القربى والمودة، كانت بيوتها عبارة عن خيام من أقمشة بالية، يقتاتون من ألبان الغنم والأنعام، ولكن الرضا كان يغلب عليهم، لقد ظن مركوت أنه من الصعب علي أنا الأبيض أن أتغلب عليهم، ونسي أنك قائدنا ومعلمنا، خرجنا من تحت تراب قدميك كأسياد على الأرض.
ابتسم له عزازيل، ثم طلب منه أن يكمل، فأكمل الأبيض: ‏
-  تأمل مركوت بما يريد فعله، ووصل إلى قرارٍ أراد من خلاله أن يمتحنني، فقال لي: "اذهب إلى تلك القرية، وأرني ماذا ستفعل، وبعدها سأنظر في تركك حرًا مستقلًا، أو أن تبقى في كنفي من أجل مزيد من الدراسة والتدريب". سرت من قمة الجبل إلى القرية الواقعة في منطقة منخفضة، فوجدت عند طرفها خيمة، وبجانبها ثورٌ مربوط بحبلٍ ووتد، وكان قرب الثور قِدرٌ من الماء يغلي فوق الحطب المشتعلة فيه النار، حضرته صاحبة البيت كي تغسلَ ثيابها وثياب زوجها، وقد وضعت المرأة طفلها الرضيع قرب القِدرِ؛ ليكون بقربها فترعاه وترضِعهُ عند الحاجة.
رفع يده واضعًا إياها بجانب رأسه وكأنه يفكر، ثم تابع حديثه بفخر وثقة:
-  فكرت بما سأفعله، فخطر ببالي أن أحرك الوتد المربوط في الحبل المعلق في رقبةِ الثور وفعلًا قمت بتحريك الوتد، فجفل الثور، وهاج بطبعه، ونطح قدر الماء الذي يغلي فوق النار الملتهبة، فانسكب الماء على سرير الطفل، فاحترق الرضيع ومات، ‏بقيت أنتظر قرب الخيمة وأنا أنظر إلى الطفل كيف يموت، حقًا لقد تلذذت بموته، ورحت أتأمل محصلتي من الانتصار.
أغمض عينيه مبتسمًا بزهو، ثم فتحهما فجأة وهو يتابع بسخرية:
-  صرخت المرأة من جزعِها على رضيعها، وقد كان زوجها قريبًا من المكان، فركض مسرعًا إلى الكوخ، وإذ بزوجته تبكي وتصرخ حزنًا وفجعًا على الرضيع، سألها عن الأمر، فأخبرته أن الثورَ قد نطح قِدرَ الماء المغلي، فانسكب الماءُ على الرضيع، مما أودى بحياته.
بدأ يفرك كفيه معًا باستثارة، وكأنه ما يزال بداخل الحدث، ثم راح يتابع حديثه:
-  صرخ الرجل في وجه زوجته، واعتبر أن ما حدث بسبب إهمالها، وأخذ يضربها ضربًا مبرحًا، فزاد صراخها، ولم ينفكا عن شجارهما حتى طلقها من فرط غضبه، سمع أهلها صراخ ابنتهم، فهرعوا إلى المكان؛ ليستكشفوا ما حدث، فهالهم مظهر ابنتهم، مما دعاهم للتكالب على زوجها حتى قتلوه، كان صوت الشجار قد وصل إلى أهله، فأتوا مسرعين، وما إن وصلوا حتى وجدوا ابنهم مقتولًا وملقي على قارعة الطريق.
صمت لدقيقة وهو يتابع تعابير الذهول على وجوه الحاضرين، ثم التفت بعينه إلى عزازيل الذي يطالعه بفخر لما فعله، ثم تابع ببساطة:
-  ‏اشتبك الطرفان طيلة تلك الليلة المظلمة، تعالت أصوات سيوفهم المصنوعة من الصفيح طوال اليومين التاليين، وما إن انتهت المعركة حتى كانت القرية خرابًا وسوادًا، وقد قتل عددٌ كبيرٌ من أبنائها.. ‏فرحت بما فعلت، وجئتك يا عالي المقام لتعلمني بما ينقصني بحق علمك وجلال وجهك.
ربت عزازيل على كتفِ الأبيض، وكان فرحًا ومسرورًا من كل ذلك، وتبسم في وجهه قائلًا له:
-  الآن يا أبيض تصبح ذراعي الأيمن، ستجلس دائما عن يميني؛ فأنت اليوم من الطبقة الرفيعة الذين أعتمد عليهم.
اختفت ابتسامة عزازيل فجأة، ثم نظر للمحتفيين به وتابعينه من المردة، فقال:
-  انبئوني عن خبر برصيصا.
فوقف مركوت، ثم قال بنبرة منكسرة:
-  يحيا عالي المقام ملك الأرض عزازيل، يحيا المخلد الأول على تلك الأرض، عزيزها وموحدها الأقدم، يحيا من طاف في الواقع والأحلام، يحيا من ركعت له كائنات البرزخ في أول الزمان.
انتهى من تعظيمه لسيده المبالغ فيه، ثم أكمل بقلق قائلا:
-  إن برصيصا قد اعتكف وتعبَّد في صومعته سبعين سَنة، لم يعصِ الله فيها طرْفة عين، ولم ينفتل عن صلاته وصومه أبدًا، ولقد احتلنا اليأس في أن نوقعه.
نظر له عزازيل بتأفف، ثم أشار للذي على يمينه فكان الأبيض، فقام من مجلسه للمرة الثانية، أقبل عليه مُقبلًا يده، ثم قال:
-  كما علمتنا يا عالي المقام.. سنوقعه كما أوقعت أنت آدم بفضل دهائك وعبقريتك، فكما قال مركوت أن برصيصا عبد تقي يتبعه الآلاف من الناس، ولكن مركوت نسي أن الجنس البشري تغلبه الشهوة، سنلعب على ذلك الوتر ونوقعه، لن ينجو منها.
رفع سبابته وكأنه تذكر شيئًا مهمًا، وقال:
-  وشيء آخر قاتل بالنسبة لهم؛ وهو الفضول.. فكما ينهش ديدان الأرض أجسادهم الترابية حين يموتون، ينهش الفضول أرواحهم وهم أحياء يرزقون، والأدهى من ذلك أننا سنهلكه وأهل قريته أجمعين.
ابتسم له عزازيل، ثم قال:
-  وماذا لو فشلت؟
الأبيض بثقة:
-  لن أفشل، برصيصا ليس بنبي ولا بمعصوم، رغم أنك استطعت أن تجعل آدم يخطئ وهو نبي، وجعلت نوح يخطئ وهو أيضا نبي، أتذكر نبي البشر نوح حين كان يبني السفينة.. فرأى كلبًا أسودًا فشعر بالتقزز، ثم قال في نفسه "ما أقبح هذا الكلب!" فقال الله "اخلق مثله إن استطعت"؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي