الفصل الخامس والعشرون

باعد قدميه عن بعضهما، وأمسك حفنة من التراب الأحمر وألقاها بالبحيرة، ثم بدأ يحفر في الأرض حتى ظهر له تمثال حجري أسود على هيئة تشبهه، نفض التمثال بيده لتظهر حروف بلغة غريبة، ظل يتلمسها وهو لا يفهم الحروف، وقف وظل يمشي وطيف آرثر ما زال يتبعه، حتى وصل إلى كهف مكتوب عليه: "كهف الأمنيات، لا يدخله حان ولا جان، ولا أيًا كان، إلا طيف جوال يأتي من الشرق مسافرا من زمن بعيد، يرى ولا يُرى ويمشي في الثرى، فضوله سيجعله يمر عبر الباب لينفتح، حينها سيفنى عالم الجان، ستموت الأرض وتستبدل، لا تمر سويعات حتى يعود من جديد ليجدد العهد."
جلس الفتى أمام الكهف بعدما سيطر اليأس على أوصاله، قذف الباب بالتمثال الذي بيده، ولكن الفضول سيطر على عقل آرثر من جديد، رغم علمه أن اقترابه من البوابة محظور، ظل يتحرك حتى وصل إلى البوابة، لمس بيده الباب بغير إرادته، فاهتز الكهف اهتزازة قوية، شعر على إثرها وكأن الأرض ستنشق وتبتلعه، خرج بصيص من النور من داخل الكهف معلنًا عن فتح الباب، لينظر إليه الفتى غير مصدق لما يحدث أمامه، انفتح الباب على مصراعيه والنور يشع من داخله وكأنه قد اقترب من كوكب الشمس. اقترب من الباب بحذر، فالآن بات يعرف أن هناك طيف بالمكان، ولكن أمنيته تطغى على خوفه وقلقه، نظر إلى تمثاله وتناوله بيده ثم دخل إلى الكهف كالقط حين يداعبه أحد بشعلة من النور.
نظر الفتى الى جدران الكهف فكأنه قطعة من الفردوس، مقسمة إلى حجارة منيرة، حجر من فضة وحجر من ذهب، الكهف كغرفة صغيرة الحجم مفروشة بتراب من الذهب الخالص، ليس به أيّ شيء سوى بلورة في منتصفه ملقاة على الأرض بعناية، اقترب من البلورة وتناولها بيده ليرى بها ما لم يكن يتوقع، رأى فكأنها نافذة مفتوحة على عالم آخر أو كشاشة سينما من عالمنا فتحت أمام عينيه. رأى كائنات عظيمة تتطاير فوق الأرض وتقذف من فمها نارا تحرق كل من يعترضها، تمنى لو كانت له قوة تماثلها لكى يغزو الأرض والسماء معا ظل ينظر داخل البلورة بلهفة حتى اختفت المشاهد، وضعها برفق على أرضية الكهف ووضع بجانبها التمثال الحجري، فجأة أضاءت البلورة من جديد وعكست ضوئها على التمثال ليزداد حجمه رويدا رويدا، حتى أصبح كبيرا بحجم عشرين ذراعا، نظر التمثال إلى آرثر وهو يبتسم، ثم تجاهله ونظر إلى الفتى ذو الجسد الهزيل أمامه، سأله عما يريد، فأجابه الفتى بقلق:
-  أريد القوة وحكم الأرض، لطالما كنت مستضعفا فيها ولم تأتني أية عناية من السماء، أريد أن أصير ملكا على الأرض.
نظر التمثال إلى الفتى ثم قال بحزم:
-  أغمض عينيك واترك خيالك للانطلاق والجموح، هل ترى في الخيال من عائق؟ ارحل عبر المسافات في أحلامك لا تعبأ بوقت الاستيقاظ، ولا على أية حال ستستيقظ، فقط استمتع بالحلم فلربما جاء يوم ليتحقق، لكن عليك دائما أن تحافظ عليه بصدق حينما تجده بين يديك، فإنك لا تدرى لو زال عنك هل سيعود من جديد أم أنه لن يعود أبدا؟ والحكمة تقتضي أن من بلغ قمة الجبل ليس عليه أن ينظر للقاع، ولا يفكر في العودة إليه، فالعودة ستفسد عليك الرضا بسكناه، وتنغص عليك بقاؤك في أدناه، وقد كنت منذ قليل تراه من أعلاه، استمسك بكل ما يسعدك واحفظ مودته، فمن شرب من نهر بعد الظمأ يصعب عليه أن يرمى فيه بالحجارة.
قال الفتى:
-  وما بالي بالأحلام أن تصير، لقد سئمت من نفسي ومن القدر حتى لجأت إليك، لا أعلم حتى كيف فتح الكهف أبوابه لي، ربما أراد القدر أن ينصفني ولو لمرة واحدة بعد كل ما لاقيته من عذاب مستمر.
نظر له التمثال وهو يتفحصه:
-  ستسير في هذه الأرض كما تشاء، ستفعل ما تريد بلا قيد، ستطّلع على كل ما كان يخفى عليك وما تريد معرفته، بإشارةٍ منك تنصاع لأمنياتك الرجال وتنحني هاماتهم أمام سطوتك، تركع أمامك الإناث طالبةً رضاك، كل ما تتمناه مجاب، حتى الوحوش الضارية بأمرك تحنو على من أردت، فقط اجعل الخاتم في يدك واقصد في قلبك ما تتمناه قصد الموقن تجده أمام عينيك، انظر لوجه سيدك " شور" واقبل العهد، وامسح بكفك جسد التمثال المخملي، قد لا تكون أفضل من في العالم قبل اليوم، لكنك اليوم سيدهم.
انحنى التمثال "شور" كبير الحجم نحو أرضية الكهف المفروشة بالذهب، دثر التراب بيديه حتى التقط منها خاتما وأعطاه إياه ليرتديه. أخذ الفتى منه الخاتم المصنوع على هيئة أفعوان من الذهب تلتف أحدهما حول الأخرى، وله رأس سوداء من الزمرد الخالص. ارتدى الخاتم ليخرج منهما شعاعا قويا يتصل بالتمثال "شور" انعكس الشعاع على جسد الفتى فعظم جسده ليصبح فتيًا، ارتسمت على جسده العضلات فأصبح كأجساد المصارعين، ونما شعره وازداد قوة، وعلت على محياه الهيبة والوقار، وكأنه استبدل بشخص آخر. أكمل التمثال "شور" كلامه بحكمة:
-  تحرك تجاه الجدار الذي خلفي، وما إن تقف أمامه ستجد فتحة على هيئة الخاتم الذي بيدك، ضع عليه إصبعك، سينفتح لك باب على عالم آخر لا تدري له بالا، ولكن احذر، فقوتك تزداد بالخاتم، وكل الكون سيكون تحت قدميك مطيعا لأمرك، وما إن تخلعه عنك ستتضاءل قوتك وترجع لضعفك واستكانتك.
تحرك الفتى بهيئته الجديدة وفعل مثلما قال التمثال، انفتح الباب ليجد نفسه في مكان آخر، وكأن الكهف هو معبر من بلد إلى بلد آخر، حدائق من أعناب ونخيل تزينها وأشجار تين، طيور عظيمة الشكل تتطاير فوقه وكأنهم يحتفون بمروره. سمع صوت نفير يأتي من بعيد، فتملكه الرعب أن تدار معركة عليه؛ فهو دخيل على عالمهم. مشى في طريقه والقلق يحتل كل ذرة من جسده حتى وصل إلى مدينة لم يرَ مثيلا لها من قبل، بيوت حجرية من الياقوت والمرجان ذات قباب ذهبية، الشوارع واسعة ولكنها خالية تماما من أي مخلوق، فكأنها جنة رحل عنها قاطنوها وتركوها له لينعم بها، كان الانبهار هو ما يشعر به بعدما تلاشى عنه الخوف والقلق. لم يكن حال آرثر أقل منه، فقد كان يشعر بكل ما يشعر به ذلك الفتى وهو يسير خلفه بخطوات حذرة رغم علمه أنه غير مرئي بالمرة. فجأة قادتهم أقدامهم إلى قلعة عظيمة الشأن، لها سور عظيم يحيط بها، جدرانها لؤلؤية، وحديقة شاسعة تحيط بها، تماثيل حجرية لكائنات لم يرَ لها مثيلًا من قبل، وجوهها مخيفة وذات أجنحة عظيمة الكبر. اقترب أكثر من القلعة فعاوده صوت النفير ليكتشف أنه يصدح من داخل القلعة العظيمة. انفتح باب القلعة لتخرج منها كائنات تشبه التماثيل المنحوتة أمامه، ولكنها ترتدي ملابس سندس خضر وكأنه لباس الجنة، استقبلوه استقبالا ملكيا، وعبروا به سور القلعة عبر بوابة معدنية ضخمة فكأنها مدينة عظيمة الشأن، شاهقة الارتفاع، ظل ينظر لها بانبهار، فقد كانت القلعة مكونة من مائة طابق مربع الشكل متراصة، بها سبعة من القباب ذهبية الشكل، شاهقة الارتفاع وكأنها ناطحة للسحاب، وفي منتصفها بهو عظيم رحب، محاط بالأسوار من جميع الجوانب، وتتضمن القلعة خمسة عشر برجًا قصيرًا في زواياها الشمالية والغربية، مستطيلة الشكل، وبارتفاع حوالي خمسين مترًا، ويحتوي البرج على فتحات ضيقة في اتجاهات وزوايا مختلفة لإطلاق الرماح والأسهم منها. كما يحتوي المبنى على سبع بوابات ضخمة سميكة من الطراز القديم، وكأنها نزلت من السماء، منحوتة بزخارف هندسية وهي بحالة جيدة، كانت القلعة مبنية من أحجار كريمة ولؤلؤية، وقد بنيت وتأسست من صخور بحرية صلبة مضاف إليها مادة الجص للربط بينها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي