الفصل الرابع

ظهرت معالم القلق عليهم وهم ينظرون لبعضهم البعض دون فهم، ولكنه أكمل:
-  تأويل الرؤية بأنه سيولد نبي، يحمل برسالة من السماء، سيكون من بني إسرائيل، وسوف يدعو الناس لعبادة إله واحد كما حدث في عصر "يوزر سيف" عزيز مصر، سيطيح هذا النبي بمُلك فرعون.. وربما يطيح بمعبدنا.
صمت الجميع بضعة ثوانٍ، قال أحدهم وهو ينظر له باهتمام:
-  وماذا لو انقطع نسلهم للأبد؟
أجابه روزينوف بلا تفكير:
-  سينقرضون بالطبع و...
قاطعة الرجل قائلًا:
-  الرؤية كانت تحذيرًا لنا من التغافل عنهم، أرى أن نقطع نسلهم، فلتخبر فرعون بتأويلك لرؤياه، وتقترح عليه بأن يقوم بقتل كل طفل يولد في بني إسرائيل؛ حتى لا يأتي اليوم الذي يولد فيه من يطيح بعرشه
صمت روزينوف قليلًا متفكرًا في كلمات تابعه، ثم قال:
-  وبهذا تنقلب البلاد، إما فرعون يفتك ببني إسرائيل وإما هم من يطيحون به وبعرشه.
دخان كثيف متطاير من المبخرة تعبق به بهو المعبد، ظل يتعظم ولكن أحدًا لم ينتبه له وكأنهم لا يروه! فجأة برق الدخان وتلألأ لتظهر من خلاله بوابة خضراء متلألئة تشبه بوابة الضريح، تذكر السامري بأن رحلته ستكون عبر البوابات، خاصة وأن الكهنة لم ينتبهوا لتلك البوابة، اقترب منهم وهم لم يروه حتى عبر البوابة، ليرى الظلام.. شعر وكأنه سقط في ثقب دودي، تدحرج جسده ساقطًا في الظلام، سعل وأغمض عينيه خوفًا من المجهول، حتى شعر بأن الهواء يتخلل رئتيه بيسر، زفر وهو يفتح عينيه ليجد نفسه في أرض ريفية، هالهُ جمال الخضرة حتى أنه تمنى ألا يتحرك من مكانه ولو قيد أنملة، وما إن أراح جسده حتى تسلل الهسيس ثانية :
-  لا وقت للراحة، لقد استراح جسدك في التيه لآلاف السنين، وها أنت حضرت لتوك.. فلا حاجة لك بها خاصة وأن ليس هناك من وقتٍ لنضيعه في الراحة.
وقف من جديد وهو يبذل جهدًا وكأنه يحمل فوق رأسه جبلًا، رأى نجوما تتلألأ في السماء عكس اتجاه الشمس، تساءل هل هناك نجوم تظهر بالنهار! شعر بأنها علامة صنعت خصيصًا لتريه طريقه الذي لا يعرفه ولا يدري له بالًا، تحرك مستدلًا بخطوات النجوم التي تتحرك معه عبر المجهول، ليظهر العمار على مرمى بصره، لم يكن يسير كعادته، فقد كانت قدماه ترتفع عن الأرض قليلا وكأنه يتطاير فوقها، إلى أن وصل إلى مدينة لم يعدها من قبل بيوت حجرية وكأنها من اللبنة البيضاء، متراصة بجانب بعضها البعض كأسنان المشط، يفصلها عن البيوت التي أمامها خط رفيع من المياه العذبة، مزينة بأعشاب على شاطئها من الجانبين، سار في طريقه فوق الماء دون أن يمسسه بلل أو بَرَد وكأنه يمشي فوق صرح سليمان الذي صنعه ليبهر به بلقيس فتؤمن له، وهو لا يعرف أين هو وكيف أسري به إلى ذلك المكان! تساءل: هل يَحلم؟ ليسمع هسيسًا بداخل أذنه:
-  سِر ولا تخف؛ فأنت المختار، فلا خوف عليك ولا حزن، إنَّا معك ورادوك في اليوم المعلوم.
صمت الهسيس، ليجول في خاطره بأنه سيمكث في هذه الرحلة الغير معلومة لسبعة أيام. أكمل طريقه وهو ينظر يمنة ويسرة، هالهُ جمال البيوت المزركشة، فكل بيت مزخرف بنقوشات لم يرَها من قبل، ومعلق على أبوابها رؤوس من الكباش، لم يكن هناك أي صوت، فبالرغم من جمال المدينة إلا أنها صامتة وكأنها مقابر بُنيت على ضفاف النيل، لمح من بيت نافذة مفتوحة يتدلى منها رأس طفل صغير، بلمح البصر وجد نفسه أمام الطفل وسأله:
-  أين أنا، وما اسم هذه المدينة؟
لم يعره الطفل أي اهتمام، ليتذكر بأنه غير مرئي، وبالتأكيد لن يراه أو يسمعه، حاول أن يلمس الطفل بيديه ليجد نفسه قد اخترقه ليكون مصاحبًا له في البيت، تحرك في البيت المبني من الطوب الجيري، ووجد امرأة حبلى ورجلًا يجلسان أمام موقد ناري، لقد كان يظهر الانفعال على قسمات وجه السيدة ذات الأربعين عامًا وهي تحدث زوجها، مما جعله يرهف السمع لهما، وضعت السيدة وعاءً به كسارة خبز وهي تقول لزوجها:
-  ماذا أفعل يا عمران؟ لقد أرسل فرعون جنوده ليقتلوا المواليد، هناك أحد ما أخبره بأني حبلى، لقد عرفت بأن الجنود منتظرين أن ألد حتى ينقضوا علينا.
نظر لها عمران وملامح القلق ترتسم على محياه، طال الصمت بينهما حتى قطعه أخيرًا وهو يقول:
-  وهل تظنين يا أيارخا بأني لا أعرف هذا؟ ولكن ماذا بيدي أن أفعل؟ إنهم يعرفون بأننا سنرزق بطفلٍ، ولكنهم لا يعرفون نوعه، فإن كانت أنثى تركوها وإن كان ذكرًا سيذبحونه على مرأى ومسمع بني إسرائيل جميعا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي