الفصل الثامن

كاد الحكيم أن يقول شيئًا ولكنها وقفت وتحركت بضع خطوات للأمام وهي تمد يديها أمامها وكأنها تلتقط شيئًا ما من أحد، تبخترت وتعثرت حركتها وهي تخطو، شعرت بأن عقلها يسبح بها عبر سراديب سوداء ليعبر بها مقتحمًا بوابة الزمن، فيعود بها من جديد لتلك الصحراء، ولكنها لم تجد الفتاة التي تشبهها، صحراء صماء لا حياة بها، كانت خفيفة الحركة، مجرد طيف يصول ويجول بلا قيود، حتى أنها حاولت أن تنظر إلى نفسها وتتحسسها ولكن بلا جدوى، فكأنها تشاهد الصحراء من خلال شاشة تلفاز، تتحرك من اللاشيء داخل وعاء أصفر اللون يُغلِّفه غطاء أزرق، حتى رأت في الأفق البعيد رجلين عظيمي الهيئة، يقفان على مقربة من بعضهما البعض، كانا يتحدثان، ويلوح أحدهما بيده للآخر بعصبية، اقتربت منهما لتعرف ما خطبهما، كان أحدهما جميل الوجه، بهي الطلعة، أما عن الآخر فلم يكن بالقبيح، ولكنه لم يكن جميلًا مثله، اقتربت أكثر حتى كادت أن تلتصق بهما؛ فهي تعرف أنها غير مرئية لهما، لتجد الأول يقول:
-  أتظن بأنك أفضل مني؟ والذي نفسي بيده لم تكن يومًا بالأفضل، ولكنه الحظ.. أن تولد ومعك فتاة قبيحة الهيئة تشبهك، وأولد أنا وتكون من معي في نفس الرحم جميلة مثلي، فهذا كان من بوادر الحظ، أن يُصرَّ أبونا على أن يزوجك شريكتي في الرحم، وأتزوج أنا شريكتك هذا أيضًا حظ، أظن أن الحياة أعطتك ما لم تعطِني إياه، أظن أنها سلبتني كل شيء، كما وهبتك حياة لم تكن يومًا تليق لشخص غيري.
نظر الآخر إليه بشفقة ثم قال:
-  ألم تفهم الأمر بعد يا قابيل؟ لم يُصِر أبي على شيء وإنما هي إرادة القدير، ألم تسمع أبانا وهو يقول بأنه خليفة الله في الأرض؟ نحن خلفاء أبيك، لقد أتينا إلى الأرض بقوانين وعلينا اتباعها، إذا كنا سنفسق في الأرض كما فعل أهل الجن في الأيام السِّت فلمَ خُلقنا بالأساس؟
أمسكه قابيل من منكبيه، ورجه رجًا قبل أن يقول:
-  حين تكون لك الغلبة تكن الحكمة في دربك، ماذا لو بدلنا أدوارنا وكانت لي الغلبة والحظ، أظن أنه يتوجب علينا تقديم قربانين لخالقنا، ومن يتقبل الله قربانه تكن له الغلبة؟ ما رأيك يا هابيل؟
ابتسم له هابيل ابتسامة محملة بالحب؛ فهو يؤمن بأن الخير سيأتيه عاجلًا أو آجلًا.. فلو كانت الدنيا قاسية فخالقها رحمان رحيم، ازداد اتساع ابتسامته وهو يقول:
-  الحق أحق أن يتبع، وأنت طلبت شيئًا مشروعًا، وأعدك أنه لو كانت الغلبة لك فسأرتضي، فأنا لا أكِن لك أية ضغينة يا أخي.
تغير المكان تحت قدمي سيرين وهي لا ترى أي شيء.. وكأنها لقطات من بث تجريبي، تتنقل بها من مكان لمكان.. حتى رأت الأخوين يصعدان جبلًا شاهق الارتفاع، قابيل يحمل عشبًا ميتًا، وهابيل يحمل كبشًا سمينًا، كان قابيل يصعد الجبل بخفة، أما عن أخيه فعانى في الصعود من ثقل الكبش، فسخر منه قابيل وهو يضحك بتعالٍ ويقول:
-  ألم يخبرك أبونا عن القرابين وكيف يتم قبولها؟!
فأجابه هابيل وهو يلهث من ثقل الحمل:
-  سنضع القربانين فوق الجبل، ونقف على مقربة منهما، وستأتي نار من السماء تختطف القربان المقبول، وأنا على ثقة بربي أنه سيتقبل ممن كان في قلبه مثقال ذرة من رحمة؛ فهو الودود ذو الرحمة.
ضحك قابيل إثر كلماته، ثم أردف قائلًا:
-  ولكن هل تظن أن هذا الكبش ستختطفه النار؟ لقد فكرت مليّا حتى استقر قراري على العشب، أظن أن النار ما إن تراه فستأخذه رغمًا عنها.
لم يجِبه أخاه، بل أكمل طريقه للأعلى متجاهلًا الإرهاق الذي يعتليه، حتى وصل إلى قمة الجبل، وضع الأخوان القربانين أمامهما على الأرض، قابيل يشعر بالانتشاء، ينظر لأخيه بسخرية، يكاد يقسم أنه أبله، فأنَّى للنار أن تنشب في الكبش وتترك العُشب! فجأة تغيرت السماء من فوقهم، تعالت أصوات الطيور وصوت الرعد مما يعني بأنه قد حان وقت الاختيار، شعاع من نار يهبط من السماء ليختطف الكبش أمام أعينهم، قابيل ينظر للكبش بحسرة والنار تخطفه، رفع هابيل يده للسماء وهو يخر على ركبتيه ساجدًا، وقابيل ينكس رأسه أرضًا غضبان أسِفًا، فجأة تبلورت فكرة داخل عقل قابيل، نظر لأخيه بحقد وغل، واتجه إليه بخطوات واسعة، أمسكه من تلابيبه حتى أوقفه، وسأله بنبرة تحمل كمًا من الغضب لو وُزِّع على أهل الأرض جميعًا لاكتفت منه الأرض:
-  كيف يتقبل الله منك ولا يتقبل مني؟! ما الذي تملكه أنت؟ أنا أجمل منك وأفضل، أنا الأقوى.
أمسك هابيل بيديه وأبعدهما عن جسده، نظر له بشفقة قبل أن يقول:
-  إنما يتقبل الله من المتقين، أعرف ما يدور في خُلدك، وها أنت تخفي شيئًا خلف ظهرك لتزهق به روحي، ولكن لئن بسطت يدك إليّ لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك، لن أفعلها حتى لا أكون أول قاتل من خلفاء الأرض.
وكأنه لم يسمع ما يقوله أخاه، وإذا به يمسك بفك حمار ويضربه به على رأسه، ليختل توازنه ويسقط أرضًا.. ألقى قابيل ما بيديه ونظر إلى أخيه بدهشة، هل هذا هو سفك الدماء الذي تساءلت فيه الملائكة قبل خلق آدم؟ هل هو أول سافك للدم على تلك الأرض؟ أمسك أخيه من منكبيه يحاول أن يترجاه ليقوم ويتشاجر معه، ولكن الجسد كان ساكنًا دون حراك، نظر يمينًا ويسارًا وهو يضرب بيده على الأرض، ويرمي بالتراب فوق رأسه، تساءل ماذا سيفعل تجاه الجسد الملقى أمامه؟ وقف ووضع يديه خلف ظهره وهو يتحرك ذهابًا ومجيئًا، رفع يديه للسماء وعيناه يتساقط منها الدمع وهو يناجي ربه:
-  إلهي، لا أعرف كيف اقترفت مثل هذا الذنب، لقد سفكت الدم البشري الأول، لقد قتلت أخي ولا أعرف كيف أواري جسده، ولا أعلم حتى كيف أُخبر أبى.
خر على الأرض راكعًا فإذا بغراب يظهر من العدم، وبدأ يحفر في الأرض؛ ليدفن جسد غراب آخر، نظر قابيل إلى السماء بحسرة وندم وهو يقول:
-  يا ويلتي، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي؟!
كانت مازالت واقفة أمامه ترى كل ما يحدث، ولكن ما زاد تعجبها هو سماعها لصوت فتاة قوي يردد في الأفق البعيد:
-  لقد رأيت كل ما حدث يا قابيل، وإني لا أراك قد أخطأت، لقد تم تدمير حُلمك كما حدث معي، لقد أتينا وفُضلنا على كافة المخلوقات؛ لأن لنا عزيمة ورأي، كيف يتم تحجيم رأيك وتصمت!
نظرت يمينًا ويسارًا لتستكشف صاحبة الصوت، لتظهر تلك الفتاة التي تشبهها، وتقف قبالة قابيل الذي لم يعِرها أي انتباه، اقتربت الفتاة من قابيل لتتأملها سيرين، فكأنها نسخة منها.. ولكن قسمات وجهها أكبر بكثير، مع اختلاف أن الفتاة كانت بالنسبة لها كائنًا عملاقًا أسطوريًا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي