الفصل التاسع

أمسكت ذقنه بسبابتها، ورفعت وجهه قبالة وجهها لتقول:
-  أعرف ما تفكر فيه الآن يا أخي، أنت تفكر في مواجهة أبوينا، ربما سيقاطعونك بسبب ما اقترفت، وبالتالي لن تحظى بالزواج من أختك كما حلمت، ولكني مثلك يا أخي، لقد ولدت وحدي دون شريك، ولم يُكتب لي شريك مثلكم، لما لا نتزوج أنا وأنت؟ أنا معي خطة نملك بها الأرض وما عليها، ومعي أيضًا المقومات التي تجعلنا أسيادًا على الأرض.
انتبه لها قابيل لأول مرة بأعين شاردة قبل أن يستفهم قائلًا:
-  وما هي تلك المقومات يا عنق؟
ضحكت بغنج ثم قالت:
-  تلك الكلمات التي ألقاها القدير على أمك لتحمي نفسها من عزازيل، لقد سرقتها منها وهي نائمة، وها أنا هاربة قبل أن أقوم باستدعائهم!
"الحياة أشبه بالغابة، وكأن شياطين الإنس اجتمعوا بداخلها لخلق قانون جديد، الحياة لا تتسع سوى للسيئ، عندما تستنشق رائحة الشر اعلم أنك أصبحت جزءًا من غابة الإنس."
روان سلامة.
(الفصل الرابع)
أحست سيرين بأن يدًا ما تسحبها بالقوة من تلك الصحراء، وتعود بها إلى تلك الحديقة مرة أخرى، فتحت عينيها لتجد نفسها أمام الحكيم، وهو يوقفها ويهمس في أذنها أن أهلًا بكِ من جديد. نظرت للحكيم وهي لا تدري شيئًا، هل عليها أن تخبره بما رأته أم لا؟ أجابها دون أن تنطق قائًلا:
-  أعلم ما رأيته دون أن تخبريني يا صغيرتي، لقد رأيتِ كيف أن قابيل قتل أخاه، ورأيت المرأة التي تشبهكِ وهي تعقد اتفاقًا مع قابيل للاتحاد مع عزازيل وسيادة الأرض، أعرف أنكِ لن تفهمي شيئًا من كل ذلك، وستقولين أنه من الغريب أن ترين شيئًا لا يخصك، ولكن كل ذلك لم يأتِ وقته بعد، أنتِ الآن لا تستطيعين أن تتذكري شيئًا بسبب التشويش الذي يحدث لكِ، فما رأيك إن جعلتك تري كل ما حدث لكِ وكأنكِ أمام شاشة التلفاز؟
وضع الحكيم يده على رأس سيرين وهو يتمتم ببضع كلمات، شعرت بارتعاشة خفيفة تغزو كل ذرة بجسدها لترجعها لتلك الليلة وكأنها مخطوطة مشوشة رُسمت فيها مأساتها بقلم فنان مُلحد، تعرف أن حكايتها مجرد لوحة فنية سوداء الهيئة، وبروازها هي تلك الليلة، شعرت بأنها لا تختلف كثيرًا عن العزاء.. ولكنه عزاء بلا تأبين، فقط موسيقى وزفة، كانت الزينة معلقة بالبيت، وأصوات الزغاريد تصم الآذان، زحام وأُناس مجتمعين للاحتفال بالعروس المتصابية -ذات الأربعين- براجح، همزات ولمزات خفية يلقيها المحتفون بالعروس، ولكنها كانت في عالم آخر وهي تحتضن زوجها الشاب في رقصة هادئة، تهمس في أذنيه قائلة بابتسامة:
-  ألم أخبرك بأن الأمر بسيط؟ لم يتنمر أحد على زيجتنا؟ الناس تحتفل معنا، ولا أرى سوى الفرح في أعينهم.
بادلها راجح الابتسامة، وضمها إليه أكثر قبل أن يقول:
-  فقط كنت أخاف أن يلومك الناس على اختيارك لي يا جميلتي، هم لن يتفهموا أبدًا أن الحب شيء سامٍ، وأنه لا علاقة بينه وبين العمر، امرأة مثلك جديرة بأن تتزوج أميرًا أو سفيرًا، ولكنهم يرون أن الأرملة لا بد وأن تحبس نفسها في سرداب مغلق وهي تحتضن صورة زوجها الراحل، حتى تموت حزنًا وقهرًا بدلًا من المرة ألف مرة.
وضعت يديها على وجهها لتخفي احمراره من إثر الخجل، ثم قالت:
-  ألهذا الحد تحبني؟
نظر لها راجح بنظرة المحب، اقترب منها اكثر ليضم جسدها وهو يتحسس شعرها بكلتا يديه ويقول:
-  سأعد نجمات السماء وأختطف أجملهن لأصنع لكِ قلادة محفور عليها اسمك، سأكون أول عاشق يختطف أنثاه ليتزوجها وتكون خالصة لنفسه، إذا كان حبك لي محرمًا فلماذا خلقنا بقلوبٍ تعرف الحب؟! سأخلد في الأرض فقط لحبك، سأناديكِ بالحورية، سأغازلك.. نعم سأغازلك عدد ما كان وعدد ما يكون، بعدد الحركات والسكون، ولن تمتلك بشرية قلبي أبدًا ما دام ينبض.
أنهى كلماته وهو يبعدها قليلًا، حتى يتسنى له تقبيل يديها، مما زاد من احمرار وجهها، تصفيق حاد من الحضور بعد انتهاء الموسيقى والرقص، ليجلس العروسان، والابتسامة تعلو مُحيّاهم، تنظر الأم باحثة عن ابنتها سيرين لتجدها منغلقة على نفسها في زاوية بعيدة من بهو البيت، استأذنت من زوجها بأن تقوم لترى ما حل بابنتها، أذِن لها، فاقتربت من سيرين، حتى وقفت أمامها سائلة إياها قائلة:
-  لمَ تجلسين بعيدة عني؟ أعرف أنك حزينة على أبيكِ، ولكن أليس من حقي أن أحب وأفرح؟
‏ترقرقت أعينها بالدمع وهي ترى مظاهر الفرح على خلجات أمها، لم تتفوه ببنت شفة، وإنما ظلت على صمتها وهي تنظر لأمها وتتأمل قسمات وجهها، كانت سماح -أمها- تضع الكثير من مساحيق التجميل؛ حتى تظهر بشكل العروس صغيرة السن، اقتربت من ابنتها واحتضنتها بحنو بعدما رأت قطرات من الدمع تنساب على وجنتي سيرين، ضمتها إليها أكثر ثم ‏همست في أذنها قائلة:
-  لِمَ البكاء يا صغيرتي؟ ألم أخبرك بأني لن أرحل؟ لن أتركك أبدًا، وسنعيش مع بعضنا البعض في نفس البيت كما اعتدنا؟
نظرت لها، وابتسمت ابتسامة مصطنعة، فقد ‏ كانت تراها مجرد امرأة متصابية، تركت واجبها نحوها حتى تنعم بلذة ليست من حقها، الزواج سنة الحياة، ولكن لا يحق لها أن تتزوج من شاب يصغرها بسنوات فلكية، فلكل ذرة ميزان، حتى ذلك النبض الذي بصدرها الخافق بين الرئتين له حساب لا يحيد عنه.
وقفت سيرين وأعطتها ظهرها؛ لكي تخفي دموعها وهي تتحدث، ثم قالت بصوت خافت:
-  أتعتقدين ولأني صغيرة لن أفهم؟ لقد تغيرتِ كثيرًا بعد مقتل أبي، كيف لم تنتبهي لتحذيرات الكثيرين لكِ! كيف سولت لكِ نفسك لتتزوجي من فتى يصغرك بأكثر من خمسة عشر عامًا؟ معذرة يا أمي، ولكن أين كان عقلك؟!
تنهدت سماح وأغمضت عينيها، وكأن كلمات ابنتها سقطت عليها كرصاصات خارقة حارقة، أمسكت يديها وتوجهت بها لأقرب أريكة، جلست وأجلستها بجانبها، تغاضت عن وجود الجميع، تناست العُرس والناس، ترقرقت دمعة دفينة من مقلتيها ثم قالت:
-  للأسف لن تفهمي ما أشعر به يا صغيرتي، لن تُقدري ما سأقوله، فأنتِ لا تعرفين شعور امرأة ظلت متزوجة لسنوات طوال، ثم حرمت من حضن زوجها، تصبح بين يوم وليلة كالقنبلة الموقوتة تكاد أن تنفجر، لقد مَنَّ الله عليّ إذ أكرمني براجح.
حادت ببصرها للجهة الأخرى محاولة تجاهل نظرات ابنتها، ابتسمت لها سيرين ابتسامة صفراء ثم قالت:
-  لم يكن لأحد الحق في أن يمنعك عن الزواج، فهو حقك.. ولكن لمَ تزوجتِ من فتى بعمر ابنك؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي